لم تعد قضية “الصندوق السيادي الماليزي” التي تعتبر أكبر قضية اختلاس في التاريخ، قضية مقتصرة على ماليزيا بتأثيراتها السياسية والاقتصادية التي تسببت بالإطاحة برئيس الوزراء السابق نجيب رزاق ومحاكمته بتهمة الفساد، ومحاكمة شريكه رجل الأعمال الماليزي الصيني الهارب جو لو الذي أدار الصندوق واختلس منه مليارات الدولارات ليصبح أحد أهم المطلوبين الماليين في العالم.
بل امتدت آثار القضية بشكل غير متوقع إلى الكويت، ذلك البلد الرابض في أعلى حوض الخليج العربي، حيث أُعلن تورط مسؤولين كويتيين بارزين في تسهيل عمليات غسيل أموالٍ اُختلست من الصندوق الماليزي داخل النظام المصرفي الكويتي مما أدى إلى تدخل الحكومة الكويتية وإحالتها الأطراف المتورطة، وعلى رأسهم الشيخ صباح جابر المبارك نجل رئيس الوزراء السابق إلى النيابة العامة وحجز أمواله ومنعه من السفر.
بداية القصة
لا يمكن معرفة قصة تورط الكويت، وهي البلد التي كان النظام المصرفي فيها يعرف بالصلابة والقوة، في قضية الصندوق السيادي الماليزي دون الإشارة إلى أهم الشخصيات التي تورطت في هذه القضية وهي الشيخ صباح جابر المبارك الصباح نجل رئيس مجلس الوزراء السابق، ورجل الأعمال المقرب من بشار الأسد الذي يحمل الجنسيتين السورية والفرنسية بشار كيوان.
بدأ الثنائي علاقتهما عام 1992 حينما أسسا “مجموعة الوسيط الإعلامية” التي نمت في غضون سنوات قليلة لتصبح واحدة من كبرى شركات الدعاية والإعلان في الكويت، مستفيدة من العقود الاحتكارية التي منحت لها بحكم النفوذ السياسي الذي كان يتمتع به الشيخ الشاب صباح جابر المبارك الصباح.
وتطورت هذه الشراكة لتُعقد من خلالها صفقات أسلحة مع وزارة الدفاع التي تولى الشيخ جابر المبارك (والد شريك كيوان) سدتها عام 2011 ومن بينها صفقات كبرى مثل صفقة طائرات “الرافال” الفرنسية التي كان بشار كيوان الوسيط الرئيسي فيها بحكم جنسيته الفرنسية وعلاقاته الكبيرة هناك، لكن مجلس الأمة استطاع إيقاف الصفقة عبر تلويحه باستجواب وزير الدفاع آنذاك.
ومع صعود الشيخ جابر المبارك الصباح إلى رئاسة الوزراء عام 2001 عقب استقالة رئيس مجلس الوزراء الأسبق الشيخ ناصر المحمد الصباح بعد احتجاجات ضد الفساد متأثرة بالربيع العربي، توسع كيوان وشريكه الذي ينتمي إلى الأسرة الحاكمة في صفقاتهما.
البنوك الأجنبية في الكويت رفعت ثلاثة بلاغات تفيد بتضخم مالي كبير في حسابات شخصيتين
ووفق كتاب وجهه بشار كيوان الذي هرب إلى فرنسا عقب اتهامه بالتورط في عمليات احتيال ونصب داخل الكويت، إلى السفير الكويتي في فرنسا الذي يعرف في الكويت باسم “كتاب مولان” فإن كيوان وشريكه الشيخ صباح جابر المبارك تحصلا على عمولات من عدة مشاريع عملاقة كانت تُبنى في الكويت من بينها مطار الكويت الدولي الجديد، وجسر جابر الذي يربط بين ضفتي “جون الكويت البحري” ومستشفى جابر ومشاريع أخرى.
الخلاف بين كيوان وشريكه
لم تستمر الأمور بين بشار كيوان وشريكه الشيخ، إذ دخل رجل أعمال ماليزي من أصول صينية يدعى جو لو على الخط عام 2016 واقترح على الطرفين استخدام شركاتهما ونفوذهما داخل الكويت لتبييض أموال تم اختلاسها من الصندوق السيادي الماليزي، ورغم ادعاء بشار كيوان أنه كان ضحية لجو لو والشيخ صباح جابر المبارك، فإن الدلائل تشير إلى خلاف حدث بين الشركاء الثلاث بشأن الحصص المالية لكل منهم في عملية غسيل الأموال التي ستصبح بعد سنوات قليلة أكبر عملية فساد تهدد النظام المصرفي في الكويت.
وسرعان ما قرر الشيخ صباح جابر المبارك استخدام نفوذه، وإبعاد كيوان عن المشهد ليستأثر بنصيب الأسد من الأموال التي سيتم تبييضها، وهو ما حدث فعلًا، حيث حرك عدة دعاوى في سبتمبر/أيلول 2016 ضد بشار كيوان اتهمه فيها بـ”التزوير واستخدام مستندات مزورة” وهو ما دفع القضاء الكويتي إلى إصدار أحكام بالسجن على كيوان وصل مجموعها إلى ما يقارب الـ20 عامًا.
في النهاية نجح كيوان في الهروب من الكويت عام 2018 بطريقة غير شرعية استخدم فيها أوراقًا مزورة، تاركًا خلفه جزءًا كبيرًا من ثروته التي جمعها بشكل مشبوه، واتهامات لا تنتهي بالعمالة والتواطؤ مع النظام السوري الذي كان يعد أحد سفرائه التجاريين في الكويت.
في هذه الأثناء، كان جو لو والشيخ صباح جابر المبارك قد اجتمعا في مدينة شنغهاي الصينية للاتفاق على إجراء عمليات تبييض الأموال المسروقة من الصندوق الماليزي، التي كانت وزارة العدل الأمريكية تضيق الخناق على جو لو بشأنها، وتواصل ملاحقته، إذ قام جو لو ببيع وهمي لحصته في فندق بارك لين في نيويورك لصالح “مجموعة الوسيط الإعلامية” التي أسسها كيوان وشريكه الشيخ، ومن ثم اشترتها مجموعة تابعة لجو لو من جديد وذلك لإبعاد الأنظار عن مصدر الأموال.
وبحسب ما يقول البرلمان الكويتي، فإن البنوك الأجنبية في الكويت رفعت ثلاثة بلاغات تفيد بتضخم مالي كبير في حسابات شخصيتين، هما الشيخ صباح جابر المبارك الصباح، وشريك كويتي له رتب لقاءه مع جو لو ويدعى حمد الوزران.
لكن وحدة التحريات المالية التي رُفعت إليها بلاغات البنوك بين عامي 2017 و2019 قررت تجاهل هذه البلاغات بسبب ارتباطها بنجل رئيس الوزراء آنذاك.
واستقالت الحكومة الكويتية في نوفمبر/تشرين الأول عام 2019 على وقع خلافات حادة بين رئيس مجلس الوزراء الشيخ جابر المبارك الصباح، ونائبه الأول ووزير الدفاع ونجل الأمير الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح، حيث اتهم النائب الأول وبشكل علني رئيس مجلس الوزراء بالتورط في قضية فساد واختلاس من صندوق مالي تابع للجيش الكويتي، كما اتهم وزير الداخلية الشيخ خالد الجراح الصباح، الذي يعد حليفًا لرئيس مجلس الوزراء بالتورط في ذات الملف.
وبعد نفي رئيس مجلس الوزراء تورطه، قرر ناصر صباح الأحمد إحداث مفاجأة كبيرة في الشارع الكويتي ونشر كل تفاصيل وأوراق التحقيقات في “صندوق الجيش” وهو ما تسبب في استقالة الحكومة بالكامل، وإعلان الأمير عدم التجديد لرئيس مجلس الوزراء وحليفه وزير الداخلية، كما أعلن إعفاء ابنه ناصر الصباح من منصبه كوزير للدفاع، أي أنه قام أبعد كل من تورط في هذه القضية.
استجوب النائب رياض العدساني وزير المالية الكويتي براك الشيتان على خلفية تساهل الدولة مع المتهمين في قضية الصندوق السيادي الماليزي
وأدى ابتعاد جابر المبارك عن منصبه كرئيس الوزراء إلى زوال الحصانة السياسية التي كانت تمنح لابنه الشيخ صباح المبارك، مما حرّك ملف “الصندوق السيادي الماليزي” بقوة، وذلك بعد إعلان الشيخ ناصر صباح الأحمد شهر مايو/أيار الماضي عن مشاركته في حلقة نقاشية نظمها مركز دراسات كويتي مقرب من السفارة الأمريكية في البلاد عن “قضية الصندوق السيادي الماليزي” حضرتها السفيرة الأمريكية الجديدة في الكويت أليانا رومانسكي وخبراء ماليون أمريكيون تبيّن فيما بعد أنهم مسؤولون حكوميون مكلفون ببحث القضية في الكويت وملاحقة المتهمين.
وكانت تبعات هذه المشاركة كبيرة إلى درجة إعلان وزير الداخلية الكويتي أنس الصالح بعدها بأيام عبر وكالة الأنباء الرسمية (كونا) تقديم وحدة التحريات المالية بلاغًا إلى النائب العام ضد شخصيات ومؤسسات كويتية “متهمة بالتورط في قضية الفساد المعروفة باسم “قضية الصندوق السيادي الماليزي”؛ وذلك لوجود شبهة مخالفة لقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب”.
وسرعان ما أعلن النائب العام منع الشيخ صباح جابر المبارك من السفر مع شريكه حمد الوزان، وقرر الحجز على أموالهما وأموال أبنائهما وزوجاتهما، فيما أصدر رجل الأعمال السوري الفرنسي بشار كيوان بيانًا من فرنسا قال فيه إنه مستعد للشهادة أمام المحاكم الماليزية للإيقاع بشريكه السابق، وهو فعل فسّر على أنه انتقام لاستبعاده من شركته وسجنه في الكويت.
واستجوب النائب رياض العدساني وزير المالية الكويتي براك الشيتان على خلفية تساهل الدولة مع المتهمين في “قضية الصندوق السيادي الماليزي” إضافة إلى قضايا أخرى لكن الوزير نجح في عبور الاستجواب بسلام.
الخلاصة
تحولت قضية “الصندوق السيادي الماليزي” من قضية تخص الشأن الماليزي إلى قضية دولية، وتحولت داخل الكويت إلى قضية سياسية يصفي فيها الأقطاب السياسيون المتصارعون بعضهم البعض، وهو ما دعا الحكومة إلى إعلان تحويل القضية إلى النيابة العامة ومحاكمة كل المتهمين فيها.