بدأ نشاط الأستاذ محمد المبارك السياسي وهو في باريس من خلال تواصله مع عددٍ من الشخصيات والمؤسسات ذات الفاعلية السياسية المتدثرة بالفكر، وأهم هؤلاء هو أمير البيان شكيب أرسلان، وجمعية العلماء المسلمين في الجزائر التي كان لها مكتبٌ في باريس.
ومن المعلوم أن شكيب أرسلان كان فاعلًا أساسيًا في القضايا العربية في باريس من خلال تأسيس جمعيات الطلاب المختلفة والسعي إلى توحيدها ضمن جمعية تضم الطلاب العرب وإصدار العديد من الصحف باللغتين العربية والفرنسية لمناصرة القضايا العربية المختلفة في تلك الفترة.
فقد شارك شكيب أرسلان في تأسيس المؤتمر السوري الفلسطيني في أبريل 1921 بجنيف وانتخب أمينًا عامًا له، كما أنه أسس “مكتب إعلام البلدان الإسلامية” في جنيف أيضًا عام 1928 وقد غدا هذا المكتب قِبلةَ زعماء الحركات الوطنية والسياسية والتحررية العربية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
وفي عام 1930 أصدر شكيب ارسلان جريدة “الأمة العربية” باللغة العربية وجريدة “منبر الشرق” باللغة الفرنسية من جنيف.
كما أن صلته الوثيقة مع جمعية العلماء المسلمين كانت صلةً دعويةً ظاهرًا، لكن الجمعية كانت من أهم الفاعلين السياسيين في ثورة الشعب الجزائري، فكان تواصل الأستاذ محمد المبارك معها تواصلًا دعويًا سياسيًا في الآن نفسه.
جمعية الشبان المسلمين
نشطت في سوريا في ثلاثينيات القرن الماضي الجمعيات الدعوية التي تمارس نشاطًا سياسيًا ذا فكر وعمق إخواني، وكان من هذه الجمعيات “جمعية الرابطة الدينية” التي أسسها في حمص أبو السعود عبد السلام، وغدا مصطفى السباعي سكرتيرها بعد ذلك.
وفي حماة أسس الشيخ محمد الحامد جمعية الإخوان المسلمين، وفي دير الزور أسست جمعية “أنصار الحق” وفي القدس أسست “جمعية المكارم” وفي حلب أسس عمر بهاء الدين الأميري جمعية “دار الأرقم”.
فور عودة الأستاذ محمد المبارك من باريس عام 1938 أسس مع مجموعة من الإسلاميين “جمعية الشبان المسلمين” في دمشق وكان رئيسها، وكانت جمعية الشبان المسلمين في دمشق من أنشط الجمعيات الدعوية، وكان أمينها العام بشير العوف الذي يعد رائد الصحافة الإسلامية في سوريا.
كانت هذه الجمعيات على اختلاف أسمائها تشكل في الوعي الشعبي العام جماعةً واحدة وقد عقدت أربعة مؤتمرات ما بين 1937م و1944 وكان يطلَق على مجموعها فيما بينها ابتداء ثم في عموم المجتمع السوري اسم “شباب محمد”.
في جماعة الإخوان المسلمين
عام 1945 عقدت الجمعيات المنضوية تحت اسم “شباب محمد” مؤتمرها الخامس في دمشق، وفيه اتخذ قرارٌ بدمج جميع هذه المنظمات في بنيةٍ هيكلية وتنظيمية واحدة وتغيير اسمها من “شباب محمد” إلى “جماعة الإخوان المسلمين”.
وكان الأستاذ محمد المبارك أحد أبرز المؤسسين لهذه الجماعة، وفي هذا المؤتمر تم انتخاب الدكتور مصطفى السباعي مراقبًا عامًا للجماعة وتقرر انتقاله للعيش في دمشق بدلًا عن حمص ليمارس مهامه في قيادة الجماعة.
وخلال عمل السباعي مراقبًا عامًا للجماعة كان الأستاذ المبارك صنوه ووزيره وساعده الأيمن ومستشاره للشؤون السياسية والتنظيمية.
ولا يمكن فهم الأسس والتوجهات والمنطلقات الفكرية لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا في تلك الفترة على وجه لخصوص وفي عموم مراحلها عقب ذلك إلا من خلال الأستاذ محمد المبارك الذي يعد من أبرز وأهم من صاغوا الرؤى الفكرية التي تنبثق منها المواقف السياسية للجماعة.
إلى البرلمان والوزارة
بعد أقل من عامين على ظهورها قررت جماعة الإخوان المسلمين خوض الانتخابات البرلمانية في سوريا، ففي عام 1947 استقال الأستاذ محمد المبارك من وظائفه الحكومية ليكون أبرز المرشحين الأربع الذين أعلنتهم الجماعة مرشحين لها إلى البرلمان وهم الأستاذ محمد المبارك عن مدينة دمشق، والأستاذ معروف الدواليبي عن حلب، والشيخ محمود الشقفة عن حماة، والشيخ القاضي أنيس الملوحي عن حمص، ففاز الثلاثة عدا الملوحي.
ويمكن القول إن الممثل الوحيد للإخوان في هذا البرلمان كان الأستاذ محمد المبارك، فالدواليبي كان خارج البنية التنظيمية للإخوان وإن كان على علاقة طيبة معهم، والشيخ الشقفة غلب عليه الطابع الدعوي على العمل السياسي.
كان الأستاذ المبارك يتحمل بمفرده أعباء كتلة برلمانية كاملة تواجه الكتل البرلمانية الأخرى ويقدم المشاريع والطروحات التي تضاهي مشاريعهم وطروحاتهم، واستمر المجلس في أعماله إلى أن تم حله إثر إطاحة انقلاب حسني الزعيم بالحكم.
أعيد انتخاب الأستاذ محمد المبارك مجددًا في الدورة البرلمانية التي أعقبت الإطاحة بانقلاب الزعيم ليشكل مع صاحبه ورفيق دربه مصطفى السباعي “الجبهة الإسلامية” التي كانت أشرس معاركها، معركة الدستور الذي تم إقراره عام 1950؟
وخلاصة المعركة أن الصراع احتدم على أشده بين العلمانيين الذين كانوا يحاولون فرض رؤيتهم بالمطالبة بتحكيم القوانين الغربية الوضعية في البلاد، وإقصاء الدين تمامًا عن الحكم والسياسة، وبين الجبهة الإسلامية التي نجحت في إقرار دستور للبلاد ينص على اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع في سوريا، وقد كان الأستاذ محمد المبارك من أهم وأبرز أركان هذه المعركة الذين خاضوها بجدارة فائقة.
وخلا الفترة الممتدة ما بين عامي 1949 و1950 شغل الأستاذ المبارك ثلاث حقائب وزارية حيث كانَ وزيرًا للأشغال العامة ثم وزيرًا للمواصلات ثم وزيرًا للزراعة.
الانفصال عن الإخوان المسلمين
عام 1654 قررت جماعة الإخوان المسلمين عدم المشاركة في الانتخابات النيابية، لكن الأستاذ محمد المبارك رأى أن هذه القرار غير صائب، وحاول إقناع الإخوان بالعدول عنه لكن محاولاته باءت بالفشل، فقرر أن يخوض الانتخابات بوصفه مستقلًا، وهنا أعلن الأستاذ المبارك انفصاله عن جماعة الإخوان المسلمين.
اللافت في الأمر أن هذا الانفصال عن الجماعة لم يؤثر على العلاقة بينه وبين الجماعة سواء من طرفه أم طرفهم.
واللافت أكثر أن جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من مقاطعتها الانتخابات، فإنها أعلنت دعمها للمرشح المنفصل عنها الأستاذ محمد المبارك وعدد من الشخصيات الإسلامية المستقلة.
وأسفرت هذه الانتخابات عن فوز خمس شخصيات إسلامية هي الأستاذ محمد المبارك والشيخ عبد الرؤوف أبو طوق والأستاذ مصطفى الزرقا والأستاذ عدنان خوام والشيخ محمد أبو الخير القهوجي وأطلق عليهم اسم “الجبهة الإسلامية”.
وعما واجهه الأستاذ محمد المبارك في هذه الدورة الانتخابية من مشاق ومصاعب، يتحدث الأستاذ مصطفى الزرقا فيقول:
“ثم في سنة 1954 لما أجريت الانتخابات النيابية لأجل دورٍ تشريعي جديدٍ دخلها الأستاذ محمد المبارك عن دمشق، ودخلتها أنا عن حلب، ونجحنا كلانا فيها، فألَفنا مع بضعة نواب آخرين في مجلس النواب الجبهةَ الإسلامية .
وقد نجح في هذه الدورة خالد بكداش عن الشيوعيين وعددٌ وفيرٌ من البعثيين، فكانت الجبهة الإسلامية مع من تحالفت معه من الآخرين جدارًا استناديًا في وجه خصوم الإسلام من العلمانيين والبعثيين والشيوعيين في المجلس النيابي.
وقد عانينا في هذه المرحلة أنا والأستاذ المبارك ولاقينا الأهوال من هذه الفئات الثلاث ومؤامراتهم، وكنت وإياه نتعاون ونتناوب المواقف الصعبة في المجلس، ثم انتهى هذا الدور التشريعي عام 1958، بالوحدة بين مصر وسوريا التي دامت ثلاث سنوات ثم فشلت وانفرطت، فقد عقدها العسكريون ونقضها العسكريون أنفسهم”!
وبعد إعلان الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958م اعتزل الأستاذ محمد المبارك الحياة السياسية مكتفيًا بعمله الأكاديمي التعليمي والدعوي ونشاطه الفكري.
الاستشراف المبكر لعقدة التركيبة الطائفية والعرقية في سوريا
عام 1958 كتب الأستاذ محمد المبارك دراسةً خاصة لم تكن للنشر، وإنما للمناصحة والمشورة وقرع لجرس الإنذار المبكر، هذه الدراسة قدمها الأستاذ المبارك إلى القيادة السياسية لدولة الوحدة السورية المصرية.
ولم تنشر هذه الدراسة في كتابٍ إلا بعد وفاته بأكثر من عشرين عامًا بعد أن أذنَ أبناء الأستاذ المبارك بذلك.
عنوان الدراسة “تركيب المجتمع السوري” صدر الكتاب عام 2003 وينطوي على دراسة توصيفية تحليلية معمقة لواقع مكونات المجتمع السوري آنذاك، حيث قسم المكونات إلى ثلاثة عناصر: العناصر القومية والأديان والطوائف والعقائد والتيارات الفكرية والحزبية وراح يفصل القول في كل عنصر من هذه العناصر وما ينطوي تحته من القوميات والأديان والطوائف والتيارات الفكرية.
ويعقب ذلك التوصيف ببيان المشكلات المتفاقمة جراء عدم الالتفات إلى طبيعة هذه التركيبة ومآلاتها، ثم يرسم الحلول ويضع المقترحات العملية لتجنب الوصول إلى تصارع هذه المكونات وتطاحنها.
لقد وضع الأستاذ محمد المبارك مشروعًا فكريًا وسياسيًا للتعايش بين عموم المكونات القومية والدينية والمذهبية والعرقية والفكرية في إطار الوطن الواحد، ووضع رؤيةً إسلاميةً في وقتٍ مبكر جدًا لتجنب الوقوع في تعقيدات المشهد الطائفي والقومي والعرقي الذي تصطلي سوريا بنيرانه اليوم.
هنيئًا لمن يدفن في البقيع
بعد أن غادرَ الأستاذ محمد المبارك عام 1966 سوريا التي لم تعد تتسع لأبنائها إذ خنقها الانقلاب البعثي حطت به الرحال في مدينة جدة السعودية، وكان معتادًا على زيارة المدينة المنورة ليصلي في مسجدها ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1981م قضى الأستاذ محمد المبارك يومين في المدينة المنورة، وبعد ظهيرة اليوم الثاني كان في السيارة متوجهًا لزيارة أحد أصحابه في المدينة، وعند مروره من جانب مقبرة البقيع قال: “هنيئًا لمن يدفَن في البقيع” وبعد مقولته هذه بوقتٍ يسيرٍ تداهمه أزمةٌ قلبيةٌ حادة يغادر على إثرها الحياة الدنيا قبل وصولِه إلى المستشفى، وصلي عليه في مسجد قباء عقب صلاة الجمعة، ليدفن في البقيع بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت روحه تتمنى وتتشوق لذلك.