عامان ونيف من العمل الدبلوماسي قضاها المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة غسان سلامة في ليبيا، تخللها كل أشكال الصعوبات وأعيد خلالها فتح بعض الملفات المتوقفة والمستحدثة سياسيًا وعسكريًا.
كانت أنظارالليبيين كما العالم متجهة نحو شخص شهدت له ساحات السياسة والحوارات إدارة ومهارة عالية في البحث عن تحقيق مبتغاها، فتجارب العمل التي مر بها في لبنان والعراق ليست أقل تعقيدًا من الوضع الليبي وليس من باب المبالغة إذا قلنا قد تفوقه أحيانًا.
ذاك الشرق المركب بشكل معقد جيوسياسيًا بخصوصية تكوينية وتداخل إقليمي ودولي، تجعل للمشتغل في حقله السياسي العملي دراية عالية بفهم السياسة الدولية، فكيف الحال مع الأكاديمي رفيع المستوى الذي نظر في العلاقات السياسية الدولية والإشكاليات العربية وكتب رؤيته منذ عقود منصرمة نحو عقد اجتماعي عربي جديد.
أبقت عليه الأمم المتحدة بصفة استشارية للعمل معها قبل تكليفه بالملف الليبي، وفي فترتها التقى الرباعي التونسي الراعي للحوار مقدمًا بعض الرؤى لخروج تونس من مختنقها السياسي آنذاك، وأبدى إعجابه بالتونسيين الذين وصلوا لجائزة نوبل للسلام.
فهل وجد مفتاح بوابة الدخول للحل الليبي أم استخدم مفتاحًا آخر؟!
المبعوث غسان سلامة يصل إلى طرابلس ليتسلم مهامه
الرسالة اللاسياسية
يعتمد الدخول لفهم تفاصيل واقع الدول سياسيًا على التسلسل التاريخي والمنطقي موضحًا كل الصعوبات والمنعطفات التي واجهت ذاك المجتمع، وليست ليبيا استثناءً في ذلك، لكن بروز الحدث الأخير في تصريحات سلامة يجعلنا نبدأ مما انتهى في مقابلته مع “مركز الحوار الإنساني”، واصفًا السياسية الدولية بالنفاق مرة وبالطاعنة في الظهر مرة أخرى، وجاء في معرض حديثه قاصدًا خليفة حفتر: “لم أعد أملك أي دور، ففي اليوم الذي هاجم فيه طرابلس، حظي بدعم غالبية أعضاء مجلس الأمن في حين كنا نتعرّض للانتقاد في ليبيا لأننا لم نوقفه”.
هذه التعابير مقدمات واضحة في إقرار العجز السياسي الذي ُمنيت به البعثة الأممية، لكن في الحدث انفصامًا غير منطقي، وحتى لو بُحث عن قبول لها فهي متأخرة عن استقالته أربعة أشهر وعن الحرب الأخيرة الدائرة ما يقارب 15 شهرًا، ليكون هذا الرأي معبرًا بشكل منسجم بين قائله وما يُرى على الأرض.
سعيت لعامين ونيف للم شمل الليبيين وكبح تدخل الخارج وصون وحدة البلاد. وعلي اليوم، وقد عقدت قمة برلين، وصدر القرار ٢٥١٠، وانطلقت المسارات الثلاثة رغم تردد البعض، أن أقر بأن صحتي لم تعد تسمح بهذه الوتيرة من الإجهاد. لذا طلبت من الامين العام إعفائي من مهمتي آملا لليبيا السلم والاستقرار
— Ghassan Salame (@GhassanSalame) March 2, 2020
كل الإحاطات الأخيرة التي قدمها في مجلس الأمن كانت تدور حول الخروقات والأضرار دون تأكيد فاعليها وتغليفها ببعض الإيحاءات، لذا لم يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الحقيقية. فإخلاء الضمير بعد ترك العمل مرده لأحد أمرين: إما عدم معرفة في وقتها وهو قصور غير مبرر أو معرفة بُنيت عليها مناورة سياسية لخدمة جهات محددة.
ومهما حاولنا التخفف في مقاييس تحليل مفاهيم الخطاب السياسي الذي أنتجه سلامة، لا نتيجة أكثر من أن كلامه تبريرٌ يجب أن يخرج عن عقل معرفي يؤمن بفن الحوار وقوته المنتجة للحلول، بل أضاف عرفًا في الدبلوماسية الدولية بأن يقدم المبعوث مسوغات فشله وهذا غير مطلوب أصلًا، فهو يساعد على إضعاف الثقة والقبول لدى المجتمع الليبي بمشروعية عمل الأمم المتحدة فيها.
إحاطة المبعوث الأممي غسان سلامة في مجلس الأمن
مدارات كوبلر والتجريب
اتسمت فترة المبعوث السابق مارتن كوبلر بهدوء قياسًا بسابقه ليون ولاحقه سلامة، جاء إلى اتفاق الصخيرات المنجز تقريبًا بشكل كامل في فترة برناردينو ليون، بصورة بانورامية وّقعت الأطراف الليبية عليه وحُسب كمنجز له، لكن مكمن المعضلة تضمين الاتفاق في الإعلان الدستوري ظلت مفتوحة بسبب الكتلة الصلبة داخل مجلس النواب الرافضة للاتفاق بحجج عديدة أحدها الخلاف على بعض المواد.
الأطراف الموقعة على اتفاق الصخيرات
استدرك كوبلر سريعًا وعلم أنه دون إدخال تعديلات على الاتفاق لن يكون هناك نجاح في العملية السياسية، وبدأت لقاءات مع الجوار الإقليمي لترتيب أرضية مساعدة وصلبة، تركزت أغلب الجلسات في تونس بين طرفي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة واستغرقت هذه الحوارات ما يقارب العام.
مارتن كوبلر يدير الحوار الليبي في تونس
خريطة الطريق أضاعت الهدف
تابع سلامة من حيث توقف كوبلر في فكرة التعديلات مع وضع خصوصيته السياسية والمعطاة من خلال صلاحيات عمله، فحشد دبلوماسية عالية لخريطة الطريق التي طرحها في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتوافقات إقليمية ودولية.
شملت التعديلات المواد الخلافية داخل الاتفاق مثل المادة الثامنة، فصل وتقليص عدد أعضاء المجلس الرئاسي عن الحكومة، والخطوة التي ستلي إقرار التعديلات ستكون الدعوة لمؤتمر وطني جامع، الذي يعول عليه كثيرًا بفتح الباب للجميع بما فيهم أنصار نظام معمر القذافي ووصفهم سلامة “المستَبعدون أو الذين استبعدوا أنفسهم أو كانوا مترددين في دخول العملية السياسية” للوصول لانتخابات تنهي المراحل الانتقالية المتعاقبة.
في نفس الفترة الزمنية كانت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور قد أنجزت مشروع الدستور في مدينة البيضاء وصوّت عليه داخل الهيئة، لكن سلامة لم يوله الاهتمام ولم يدعمه بشكل فعّال، بل جعله آخر حلقات الخريطة، ولو فكر بالعكس كان من الممكن أن يخرج مشروع الدستور البلاد من مآزقها.
تعددت جلسات الحوار في تونس بين الفريقين السياسيين بالإضافة للحوار الداخلي المجتمعي الذي يشرف عليه مركز الحوار الإنساني.
استمرت عدة أشهر وشكلت لجنتين من مجلسي النواب والأعلى للدولة، كلما عادتا لمقرهما في ليبيا يتصاعد الأمر وتتعطل جلسات التصويت، لم يتغير في المشهد شيء بقدر ما توضح أن الخلاف مستعصٍ عن الحل والفجوة عميقة. ليتبين بشكل جليّ أن العقبة الكأداء في الجهات الموقعة على الاتفاق والمعرقلة لتطبيقه متمثلة في مجلس النواب وتبادل كتله الأدوار بين رافض ومؤيد.
سريعًا زال بريق خريطة الطريق وأصبح يصفها الدكتور غسان بحوارات بناء الثقة وتقريب وجهات النظر بين الليبيين.
جلسات الحوار الليبي الليبي في تونس
المباردات الإقليمية والدولية
النكوص في تعديل اتفاق الصخيرات قاد المبعوث الأمين العام للبحث عن تقوية ظروف عمله من جهة والضغط على الطرفيين الليبيين، فجاءت دعوات من الرئيس الفرنسي ماكرون لقيادتي الغرب والشرق الليبي وبحضور ممثلين من عشرين دولة.
تركز لقاء باريس على تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية في أقرب وقت ممكن، مع الالتزام بتهيئة الأجواء لتكون نزيهة، والموافقة على نتائجها، وسربت معلومات وقتها أن موعد الانتخابات في 10 من ديسمبر/كانون الثاني 2018.
لقاء باريس يجمع الأطراف الليبيية
الصراع المؤجل ترهونة – طرابلس
لم تطل جرعة التفاؤل التي عاشها الليبيون طويلًا بأن الانتخابات قريبة وسوف تنهي الانقسام وتخلّص المواطن من الحكومات الهشة وتساعد في بناء شكل جديد لدولة عصرية، حتى ظهرت بوادر حرب شنتها مدينة ترهونة ممثلة باللواء السابع والمعروف “بالكانيات” على جنوب شرق طرابلس رافعًا شعار “محاسبة مليشيات المال والفساد”.
استدعى هذا الوضع تحركًا من كتائب طرابلس المدعومة من حكومة الوفاق والأعيان والحكماء، أما البعثة رأت بعد هذه العملية، ضرورة مضي المجلس الرئاسي في إصلاح الوضع الأمني وإعادة ترتبيه.
ليؤجل هذا الفعل فكرة الانتخابات بسبب هشاشة الوضع الأمني، والحقيقة الكامنة خلفه ليس صراع مليشيات بقدر ما هو عملية اختبار لواقع اجتماعي يقبل التغيير بفعل القوة أم يرفض.
باليرمو وثنائية التنافس الإيطالية الفرنسية
تندرج دعوة المؤتمر في سياق الصراع على النفوذ بين إيطاليا وفرنسا وخاصة بعد التعطل الذي رسمته حرب ترهونة، حاول الإيطاليون التغيير في الخطة بالدفع لإجراء انتخابات عامة وتحقيق الاستقرار الداخلي مع تباين في أولويات كل طرف من هذه الأطراف.
أوضح سلامة أن الانتخابات قد تجرى بحلول يونيو/حزيران المقبل، لكن يتعين على الليبيين أولًا عقد مؤتمر وطني لتحديد صيغة الانتخابات.
اتضح أن سلامة في كل مرة يتماهى مع كل الأطراف الدولية للاستفادة من دعمهم، لكن يحتفظ بخطته الدبلوماسية التي يريد إنجازها.
مؤتمر باليرمو لحل الأزمة الليبية
مؤتمرغدامس وحرب طرابلس
كانت فكرة الحوار الوطني الجامع تسيطر عليه منذ تسلمه العمل في البعثة، فأراده ليبيًا خالصًا بلا تدخل خارجي كما يحدث في كل المؤتمرات، وداخليًا مقره أحد المدن واختار غدامس، وجامعًا لكل الأطراف لينتج حلًا دائمًا.
لكن ما بين موعده والمفاجاة كانت عشرة أيام نسف فيها حفتر كل السياسة وآمالها بعد تعهداته الأخيرة في أبو ظبي وأعلن حربه على طرابلس، بقي سلامة يمد حبال الوقت حتى مؤتمر برلين، لكن شكل الصراع أخذ يتوسع دون ضوابط وبمعرفة وموافقة كل اللاعبيين الإقليمين والدوليين.
آثار الدمار في العاصمة طرابلس
طيلة فترة عمله في ليبيا يعود في كل مرة معزيًا نفسه مترضيًا عن عمله حسب ما يغرد بأن كلا طرفي النزاع يرفضان ما يقدمه من آراء ومواقف شارحة للحالة الليبية.
فأراد أن تكون صرخته الأخيرة قيمة أخلاقية في وجه العالم، ولم يكن يتوقع أن يخذله الراعون.