يبدو أنّ التجربة الديمقراطية الوحيدة الناشئة والناجحة بين الدول العربية التي شهدت ثورات شعبية، مازالت تعيش مطبات متتالية، فإلى جانب تردي الوضع الاقتصادي الذي عمقته جائحة كورونا وما ترتب عنه من حالة حنق اجتماعي، تمر تونس بأزمة سياسية شديدة التعقيد مسّت أضلع الحكم الثلاث الرئاسة والحكومة والبرلمان، ما ينبئ بانسداد سياسي قد يعصف باستقرار حكومة إلياس الفخفاخ.
السجال السياسي في تونس لم يتوقف للحظة منذ منح الثقة لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ المدعوم من ساكن قرطاج قيس سعيد، ولكنه قد يصل مرحلة الانفجار في الأيام القلية القادمة في حال انفرط عقد الائتلاف الحاكم المكوّن من 4 أحزاب رئيسية وكتلة برلمانية، هي: حركة النهضة والتيار الديمقراطي (اجتماعي ديمقراطي 22 نائبا)، وحركة الشعب (ناصري 15 نائبا)، وحركة تحيا تونس (ليبيرالي 14 نائبا)، وكتلة الإصلاح الوطني (مستقلون وأحزاب ليبرالية 16 نائبا)، بسبب قضية شبهة تضارب المصالح التي طالت رئيس الحكومة.
مصير الفخفاخ
قد تكون الأيام المقبلة حبلى بالأحداث وحاسمة في تحديد مصير السياسي للفخفاخ إذا تمكّنت المعارضة من إثبات شبهة تضارب المصالح التي لا يزال ينفيها بقوّة، وفرض مزيد من الضغط لدفعه إلى تقديم استقالته، حيث أعلنت اللجنة البرلمانية أنها تدرس طلبًا تقدّم به عدد من النواب، يقضي بتنحّي رئيس الحكومة عن منصبه وتفويض صلاحياته لأحد الوزراء إلى حين انتهاء التحقيقات المتعلّقة بقضيته، وذلك في وقت اتهم فيه حزب “قلب تونس” أطرافًا من الائتلاف الحاكم (التيار الديمقراطي) بمحاولة عرقلة تشكيل لجنة تحقيق في البرلمان بهدف تمييعها وإجهاض الجهود التي تنوي القيام بها ضد رئيس الحكومة.
وفي تصريحات صحفية، قال رئيس اللجنة عياض اللومي، إن “مطلب تنحي الفخفاخ جدّي ستنظر فيه اللجنة، وبعد يومين أو ثلاثة أيام ستقدم تقريرا أوليّا حول عملها”، مضيفًا “اللجنة ستنظر في محورين، وهما: تضارب المصالح، وشبهات الفساد في الصفقات المتعلقة بشركات رئيس الحكومة، التي تنافي قانون الصفقات العمومية”، موضحًا أن “هناك شبهات حقيقية بأن كرّاس الشروط للحصول على الصفقة وُضعت على مقاس الشركات التي يمتلك الفخفاخ أسهما ومصالح فيها، كما أن هناك عقودا أبرمت وهو بصدد أداء مهامه”، مشيرًا إلى أن “اللجنة قررت عقد جلسات استماع لعدّة أطراف للتثبت من شبهة تضارب المصالح”.
من جانبها، أكدت حركة “النهضة” في بيان أصدرته في الغرض، متابعتها التحقيقات في شبهة تضارب المصالح التي تلاحق رئيس الحكومة، والتي وضفتها بأنّها “أضرت بصورة الائتلاف الحكومي عموماً، بما يستوجب إعادة تقدير الموقف من الحكومة والائتلاف المكوّن لها، وعرضه على مجلس الشورى في دورته المقبلة لاتخاذ القرار المناسب”، وهو ما يعني إمكانية أن تذهب النهضة في خيار المغادرة الائتلاف وسحب وزرائها من فريق الفخفاخ، وهي خطوة قد تُضعف الحكومة.
وكانت الوثائق التي تم الكشف عنها أثبتت امتلاك إلياس الفخفاخ أسهمًا في 5 شركات تتعامل مع الدولة، وقدرت قيمة الصفقات التي أبرمتها شركاته المختصة في مجال البيئة وتدوير النفايات بحوالي 11 مليار دولار، وقد تم توقيع العقد في شهر أبريل، وذلك تزامنًا مع إعلان هيئة مكافحة الفساد (دستورية مستقلة)، من أنّ هناك “شبهة تضارب مصالح للفخفاخ بشأن امتلاكه أسهما في شركات تتعامل مع الدولة تجاريا، وأبرمت معها صفقات وهو ما يمنعه القانون”.
وثائق جديدة تثبت تورط الفخفاخ في قضية تضارب المصالح واستغلال النفوذ pic.twitter.com/M9vieHeBe2
— ༺L҉O҉G҉G҉༻ (@logg_) July 7, 2020
ويُتيح الفصل 97 من الدستور لنواب البرلمان التصويت على لائحة لوم ضد الحكومة، بعد طلب معلل يقدم لرئيس مجلس نواب الشعب من ثلث الأعضاء على الأقل (73 صوتا)، فيما يُشترط لسحب الثقة منها موافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس -109 أصوات من أصل 217، وتقديم مرشح بديل لرئيس الحكومة يُصادَق على ترشيحه في التصويت نفسه، ويتمّ تكليفه من قبل رئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة.
انقسام الائتلاف الحاكم
بات من الواضح أنّه لم يعد بالإمكان اليوم التحدث عن ائتلاف حكومي في تونس بمفهومه السياسي المتعارف عليه وهو تحالف مجموعة أحزاب تتشكل في أوقات الأزمات السياسية أو الاقتصادية الكبرى لضمان الاستقرار والقبول وإضفاء الشرعية وكذلك لتخفيف حدة النزاع، خاصة وأنّ فريق الفخفاخ أصبح في مهب رياح الحزام السياسي المتأرجح والذي تتصارع فيه الأحزاب فيما بينها بشكل علني وبرلمان تتقاذفه الخلافات الإيديولوجية العميقة ومؤسسة الرئاسة التي يبدو أنها خارج خارطة الفعل السياسي.
ومن هذا الجانب، عبّرت حركة النهضة عن بالغ “قلقها”، في بيان أصدرته، تجاه ما وصفته بحالة التفكّك التي يعيشها الائتلاف الحكومي وغياب التضامن المطلوب ومحاولة بعض شركائها في أكثر من محطة استهداف الحركة والاصطفاف مع قوى التطرف السياسي لتمرير خيارات برلمانية مشبوهة، تحيد بمجلس نواب الشعب عن دوره الحقيقي في خدمة القضايا الوطنية.
ويأتي موقف الحركة، بعد تصويت حركة الشعب على لائحة تقدّم بها حزب الدستوري الحرّ، تندّد بما وصفه بالتدخل العسكري التركي في ليبيا وذلك عقب تهنئة رئيس البرلمان راشد الغنوشي (النهضة) للسراج بمناسبة دحر قوات حكومة الوفاق الشرعية لمليشيات حفتر خارج أسوار طرابلس، إضافة إلى تصويت نواب “التيار الديمقراطي” و”تحيا تونس” في مكتب البرلمان، على تمرير لائحة للجلسة العامة قدمها أيضًا “الدستوري الحر” تصنف الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، وهو ما اعتبرته النهضة خروجًا عن مبدأ التضامن والانسجام الحكومي والبرلماني بين الائتلاف الواحد، والعمل على إقصائها من المشهد السياسي بالتحالف مع حزب عبير موسي.
في مقابل ذلك، فإنّ حركة النهضة التي ترى أنّها مستهدفة من قبل حلفائها في الحكم، تعمل على تثبيت موقفها الداعي إلى ضرورة توسيع الائتلاف الحكومي بانفتاحه على حزب قلب تونس، وهي دعوة رفضها رئيس الحكومة وبقية الأحزاب المكوّنة للائتلاف، حيث شدد رئيس الكتلة الديمقراطية هشام عجبوني في تدوينة نشرها مؤخرًا على حسابه الخاص بالفيسبوك على أنه لن يكون هنالك توسيع للحزام السياسي للحكومة بحزب نبيل القروي، داعيًا إلى الكف عن العبث بمصلحة البلاد، مضيفًا أن “من لم تعجبه الحكومة، فلينسحب”، في إشارة إلى حركة النهضة.
موقف النهضة التي طُعنت في الظهر كما ترى قياداتها، والتي قبلت على مضض بالتحالف بعد رفض البرلمان منح الثقة لمرشحها الحبيب الجملي، وترى في أنّ مشاركتها في حكومة الفخفاخ يندرج ضمن حكم الضرورة، يوحي إلى أنّ محاولتها فرض قلب تونس ضمن الائتلاف الحاكم، يأتي في إطار حرصها على ضمان حليف تحت قبة البرلمان إضافي إلى جانب ائتلاف الكرامة قد يدعمها في مواجهة المنافسين ويفك بعضًا من عزلتها السياسية.
ويبدو إلياس الفخفاخ عاجزًا إلى حد الآن عن تطويق الأزمة التي أصابت الائتلاف الحكومي وتقريب وجهات نظر الشركاء رغم إعلانه في وقت سابق عن “وثيقة التضامن الحكومي”، وتأكيده المتواصل على أنّ الأزمة شكلية وعابرة خاصة وأنّ ” الائتلاف ولد قيصريًا بعد حكومة أولى لم تمر أمام البرلمان (حكومة الحبيب الجملي)”، كما تُشكّل شبهة تضارب المصالح ضربة قوّية لمصداقيته وهو الذي رفع شعار مكافحة الفساد، وأيضًا للحزام السياسي الداعم له الذي يُعاني من تناقضات وصراعات إيديولوجية حالت دون انصرافه إلى الإنجاز.
الاستقالة والاستمرار.. فرضيات
- استمرار حكومة الفخفاخ وبقاء الوضع على ما هو عليه بالمكونات الحالية (الائتلاف) مع مزيد من دعم سياسي الذي يمكن أن تقدمه النهضة واتحاد الشغل دون أن يفرض على الفخفاخ ترتيبات أخرى أو تنازلات أمر يبدو مستحيلًا ومستبعدًا.
- بقاء الفخفاخ مع فريقه الحكومي المقرّب ونواته الصغرى رافضًا الاستقالة ومنتظرًا حكم القضاء دون تنازلات يبدو خيارا عبثيًا لن يجد فيه دعمًا من أقرب حلفائه في الائتلاف الحالي (التيار والشعب) خاصة إذا أثبت التحقيق تورطه في الفساد خاصة وأنّ هذه الأحزاب تقدم نفسها على أساس أقطاب محاربة الفساد ونظافة اليد.
- في حال تواصل حالة التنافر بين الأحزاب الحاكمة فإنّ حركة النهضة ستتجه نحو سحب وزرائها والمرور ربما إلى سحب الثقة في مرحلة ثانية، وفي حال تقاطعت مصالحها مع أحزاب أخرى فإنّ الفخفاخ سيُقدم استقالته وسيُحاول تفادي دخول البرلمان حتى تبقي العهدة في يد قرطاج.
- عودة العهدة الى رئيس الجمهورية ستجعل المسؤولية ثقيلة على قيس سعيد الذي سيضطر إلى اختيار اسم قادر على تشكيل الحكومة تلق حاضنة برلمانية وتأييد من أغلب الأحزاب لضمان شعبيته والحفاظ على قاعدته الانتخابية، وهنا يُمكن القول أن الأحزاب بدورها ستجبر على القبول بأي اسم يطرحه سعيد بديلًا للفخفاخ خوفًا من حل البرلمان وخسارة مواقعها أو لدفع سعيد إلى الركن خاصة وأن أي فشل جديد للحكومة سيُحسب عليه.
- حل البرلمان، بعد تنقيح القانون الانتخابي وتعديل هيئة الانتخابات واستكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، وفق مقترح اتحاد الشغل، هو أمر مستحيل وبعيد المنال بالنظر للأزمة داخل البرلمان وخارجه.
موسي.. الرابح الأبرز
وسط حالة التشرذم والانقسام بين الأحزاب التي يُمكن وصفها بحاملة اللواء الثوري (النهضة التيار وحركة الشعب)، تخرج عبير موسي زعيمة حزب الحر الدستوري كأكبر مستفيد من الوضع الحالي، إذ تستغلّ بشكل كبير فقدان قطاع لا يستهان به من التونسيين الثقة في العملية السياسية خاصة بعد شبهة تضارب المصالح التي تُلاحق الفخفاخ المُعين من قبل الرئيس سعيد، واشتداد الأزمة الاجتماعية المرشّحة للتفاقم في ظل تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد التونسي الهش.
وتشتغل موسي بشكل جيد على الاستثمار في القطيعة بين أحزاب الائتلاف الحاكم، والتركيز اتصاليًا من خلال تصريحاتها ومبادراتها على مقاربة “الاستقرار مقابل الحريات” الذي كان ينتهجه النظام السابق باعتبارها سليلة حكم بن علي، مستغلة الدعم غير المحدود الذي تُقدمه بعض الدول العربية وخاصة الإمارات التي تسعى لفرض أجندتها في تونس من خلال التغلغل في البرلمان مركز القرار والسيادة.
وتسعى موسي الصاعدة على ظهر الائتلاف المتصدع، إلى تعبئة طيف واسع من التونسيين بهدف أن يكون حزبها الأكثر وزنًا بالبلاد، وذلك من خلال تركيز حربها على حركة النهضة حصرًا، وهي خطوة تُعمّق الاستقطاب الثنائي داخل الساحة السياسية ويضع المواطنين أمام خيار وحيد، إما الاصطفاف وراء بقايا النظام القديم الذي يسعى نحو إعادة التشكل من جديد، أو اختيار حركة “النهضة” التي يتهمها هؤلاء بمحاولة أخونة النظام والمجتمع، وهو صراع يخدم موسي جيدًا باعتباره طريقًا يطحن أحزاب منطقة الوسط.
وعلى شاكلة موسي، تعمل بعض الأحزاب والقوى الفاعلة في تونس إلى استعمال مطية إيديولوجيا الإسلام السياسي والترويج للخطر الذي تُمثله على عملية الانتقال الديمقراطي، من خلال الضغط على حركة النهضة وحشرها في الزاوية أو إخراجها من المشهد السياسي برمته، والحال أنّ هذه الأحزاب المنبثقة من تجارب الحكم الاستبدادي أو ذات التوجه اليساري الستاليني أو القومي بشقيه الناصري والبعثي أو الدستوري لم تتحوّل بدورها بعد إلى حركات ديمقراطية مكتملة ولم تؤصل إلى نظام حكم تشاركي يقوم على مبدأ التعايش السلمي، لذلك فإنّ مسار الإقصاء الذي تنتهجه هذه الأحزاب لن يُخرج البلاد من حالة الانقسام والفوضى ولن يقودها إلى الاستقرار ومرحلة البناء الفعلي.
بالمحصلة، فإن تونس تعيش على وقع أجواء 2013 حيث تظافرت بذور التوتّر وعوامله وأنتجت أزمة عميقة كادت أن تعصف بالمسار الانتقالي، إلاّ أنّ الوضع الراهن يمكن أن يكون أشد وطأة خاصة في ظل الانهيار الاقتصادي الذي لم يكن حاضرًا بقوّة قبل 7 سنوات، لذلك بات من الضروري والملح أن يتداعى السياسيون إلى العمل على تفادي انزلاق البلاد إلى الهوّة والفوضى من خلال توحيد جهودهم لقيادة سفينة البلاد إلى بر الأمان عبر خطوات تهدف أساسًا إلى مراجعة الثغرات التي تُهدد النظام السياسي وتقييم موضوعي وجاد للعقد الأول لما بعد ثورة 14 يناير.