في سلسلة وثائقيةٍ عن الكون بثتها إحدى القنوات العلمية، تناولت خلال حلقة كاملة سيناريو محتملًا – بعد مئات السنين – بإمكانية تدمير الكرة الأرضية عبر سيل من النيازك والشهب الكبيرة، وكيف يمكن إنقاذ مجموعة من البشر والمخلوقات الأرضية من خلال بناء (سفينة نوح فضائية) تؤدي مهمة البحث عن كوكب آهل للعيش في المجرة والاستيطان فيه، ناقش بعض علماء الفلك ورواد الفضاء وأطباء ومهندسون خلال تلك الحلقة كيفية بناء تلك المركبة وحجمها والصعوبات التي تواجهها (انعدام الجاذبية، الإشعاع الفضائي، الوقود والمؤونة، التكاثر)، وما احتمالية العثور على كوكب آخر وسط مخاطر قد تقضي على معظم الناجين الأرضيين في رحلة قد تستغرق أكثر من 40 عامًا.
لم يكن البرنامج مسلسلًا أو فيلمًا خياليًا، والسيناريو مُعد (نظريًا) من عشرات العلماء المختصين لاحتمالية قائمة – وإن كانت بعيدة حاليًّا -، ولا نعلم مستقبلًا ماذا سينجز منه ومتى، الذي يهمنا أن هناك “سيناريو” علميًا مُعدًا لاحتمالية “سيئة” بزوال البشرية.
ما جدوى الاستعداد للأسوأ؟
طوال فترة تفشي وباء كورونا – التي لم تتضح ملامح انحساره بعد – لطالما ذكرت عبارة “السيناريو الأسوأ” لتوقع أسوأ ما سيصيب المجالات الصحية والبيئية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية (توقع أسوأ عدد للضحايا، أسوأ فترة لاستمرار الوباء، أسوأ خسائر مالية متوقع حدوثها من الركود الاقتصادي)، فماذا يعني هذا المصطلح؟
حسب تعريف بعض المعاجم فإن (worst-case scenario) أو السيناريو الأسوأ هو أكثر الأشياء غير السارة أو الخطيرة التي يمكن أن تحدث في موقف ما، ويندرج ضمن إدارة المخاطر أو الأزمات أو الكوارث في علوم الإدارة والتخطيط الإستراتيجي، حيث يعتبر المُخطِط – في التخطيط للكوارث المحتملة – أشد النتائج المحتملة التي يمكن توقع حدوثها بشكل معقول في حالة معينة للاستعداد وتقليل حالات الطوارئ التي قد تؤدي إلى وقوع حوادث أو مشاكل أو أخطار أخرى، فحين تتوقع المخاطر وتندلع الأزمات في المؤسسات والشركات، فإن أول ما يفعله المسؤولون عن إدارتها هو وضع السيناريوهات المختلفة لاحتمالات تطورها بناءً على المعطيات والحقائق المتاحة والمتوقعة، ومن ثم تحديد كيفية التعامل مع كل سيناريو.
وأبسط القواعد في إدارة الأزمة، توقع أسوأ السيناريوهات والاحتمالات على الإطلاق حتى لو كان احتمال حدوثها ضئيلًا، وبناء حسابات احتوائها وفقًا لها، ومن أسوأ وأخطر ما يمكن أن يفعله القائمون على الإدارة هو التهوين من شأنها والاستهانة باحتمال تطورها إلى الأسوأ، ولهذا تطرح إدارة الأزمات داخل المؤسسات والشركات الأسئلة التالية: ما أسوأ أزمة يمكن حدوثها للمؤسسة حاليًّا وفي المستقبل؟ وما درجة احتمال وقوعها؟ وهل وقعت سابقًا لمؤسسات أخرى؟ وما الإجراءات اللازم اتخاذها لو وقعت؟
السيناريو الأسوأ لا يكون أبدًا أسوأ الحالات لأن المواقف قد تنشأ بحيث لا يمكن لأي مخطط توقعها بشكل معقول
وإذا ما تم أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، فإن الإدارات ستقيم إمكانتها على التعامل مع الأزمات والكوارث المتوقع حدوثها بطرق وأساليب مناسبة.
كيف تصاغ أسوأ السيناريوهات؟
أكثر الطرق شيوعًا للتعامل مع الأزمات وصياغة السيناريوهات في المؤسسات والشركات تتم عبر بناء منظومة إدارة الأزمات بطريقة فرق العمل، وتتطلب وجود أكثر من خبير ومختص وفني في مجالات مختلفة وحساب كل عامل بدقة وتحديد التصرف المطلوب بسرعة وتناسق وعدم ترك الأمور للصدفة، وفي أغلب الشركات والمصانع يتم توظيف مسؤول خاص بمسمى “مدير مخاطر Risk Manger” يقوم بتحديد وقياس وتقييم أنواع مختلفة من المخاطر التي يمكن أن تؤثر على أعمال الشركة، ويضع الإستراتيجيات لتقليل المخاطر أو إزالتها أو نقلها، ويجب أن يمتلك مهارات تحليلية، وأن يكون على دراية بالمجال الذي يعمل فيه ولديه اهتمام بالتفاصيل ليتمكن من تحديد المخاطر التي تتعرض لها شركته.
من المهم إدراك أنه لا يوجد سيناريو أسوأ حالة بالفعل دون مفاجآت سيئة محتملة، وبعبارة أخرى فإن “السيناريو الأسوأ لا يكون أبدًا أسوأ الحالات”، لأن المواقف قد تنشأ بحيث لا يمكن لأي مخطط توقعها بشكل معقول، فقد يكون أسوأ سيناريو يتوقعه خبير جوي هو حدوث إعصار عنيف، في حين يتوقع خبير زلازل حدوث زلزال مدمر، لكن من غير المحتمل أن يتوقع أي منهما سيناريوه تحدث فيه العاصفة العنيفة في نفس وقت وقوع الزلزال!
كورونا.. وضعف إدارة الأزمة عربيًا
في مختلف الأزمات والكوارث التي تمر بها بلدان العالم المتقدم، تتصدر فرق إدارة الأزمات المشهد بالدراسة والتقييم وتوقع أسوأ السيناريوهات، لاحظنا ذلك خلال الأشهر الأولى لتفشي وباء كورونا عبر تصريحات بعض قادة الدول المتعلقة بتوقعاتهم لانتشار الفيروس في بلدانهم وما سيخلفه من ضحايا وتأثيرات كارثية في العديد من المجالات.
بسبب الضغط المتواصل والنزيف البشري والمالي المستمر اتخذت العديد من القرارات والحلول التي ركزت على جوانب وأهملت فيها أخرى
فقد لفتت منسقة مجموعة العمل الخاصة بمحاربة كورونا في البيت الأبيض إلى أن أسوأ سيناريو يقضي بوفاة 1.5-2.2 مليون أمريكي بالوباء، فيما حذر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون شعبه بأن عليهم الاستعداد لفقد الكثير من أحبائهم، وبدورها صرحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من أن نحو 70% من الألمان قد يصابوا بالفيروس، قد يعتبر البعض هذه التصريحات والتوقعات تخويفًا وتهويلًا مبالغًا فيه، لكن الحقيقة أن هؤلاء القادة فعلوا الصواب حين طبقوا أبسط قواعد إدارة الأزمة بتوقع الأسوأ صحيًا وماليًا واجتماعيًا وسياسيًا.
وبالمقارنة مع معظم الدول العربية فإن التعاطي مع أزمة كورونا تم وفق قانون “الفعل ورد الفعل” الذي لا ينتمي لعلم إدارة الأزمات، بل إن بعض المسؤولين بنوا حساباتهم بعيدًا عن فرق إدارة الأزمات وبتوقعات متفائلة لم يكن لها داعٍ، ووجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة تطورات كارثية لم يحسبوا حسابها ولم يستعدوا للتعامل معه، وكأن وزارات الصحة والتخطيط في تلك الدول لم تتوقع يومًا تفشي أي وباء داخل البلد أو احتمالية تعرضه لهجوم بيولوجي أو كيمياوي!
وبسبب الضغط المتواصل والنزيف البشري والمالي المستمر اتخذت العديد من القرارات والحلول التي ركزت على جوانب وأهملت فيها أخرى، كمثل التركيز على الانقياد لحظر التجول طويل الأمد دون الاهتمام بتوفير الاحتياجات المالية والغذائية لألوف العوائل وتعويض المتضررين، أو التهاون بفرض القيود على لبس الكمامات والتجمعات، وغيرها من القرارات غير المدروسة التي دفعت أغلب شعوب تلك الدول إلى عدم التعامل بالجدية المطلوبة أو الالتزام بالتوجيهات والتعليمات الكفيلة باحتواء الفيروس والحيلولة دون انتشاره.
بالعودة لافتتاحية المقال، فإذا بقيت الحكومات والأنظمة والمؤسسات العربية – الحكومية وغير الحكومية – متخلفة في مجال التخطيط وإدارة الأزمات وتوقع السيناريوهات الأسوأ، فإن من المتوقع ألا يكون هناك وجود لأي عربي على متن (سفينة نوح الفضائية)، ليهلكوا مع من هلك بإهمال الخطر.