ترجمة وتحرير: نون بوست
انضم لبنان إلى مجموعة الدول الخاضعة للعقوبات بالوكالة. على الرغم من أن العقوبات القائمة كانت تستهدف بالفعل بلدا محددا، لكن قانون قيصر الأمريكي الذي يستهدف سوريا يلقي بظلاله على الاقتصاد اللبناني بأكمله. كان النظام المالي المتداعي في البلاد يكافح للحصول على أموال أجنبية جديدة. في الوقت الراهن، إن هذه الأموال عالقة الآن بين سندان النخب اللبنانية الفاسدة بشكل مريع التي تعرقل الإصلاح، ومطرقة الإكراه المالي للقوى الغربية.
بالإضافة إلى معدل التضخم المتنامي الذي امتد إلى سوريا، أثار شبح العقوبات على خلفية فشل محادثات صندوق النقد الدولي، صراعًا سياسيًا داخل لبنان بسبب تحوله شرقًا إلى الصين وروسيا وإيران بهدف البحث عن طرق لتخفيف حدتها.
متمسكا بالغرب
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتأثر فيها لبنان بالتحولات التي تشهدها موازين القوى العالمية والإقليمية. لكن يعيش هذا البلد على وطأة إحدى أخطر الأزمات في تاريخه. علاوة على الإفلاس المالي وتلاعب الطبقة الأوليغارشية، ناهيك عن عدم الاستقرار الإقليمي وتفشي فيروس كورونا المستجد والركود العالمي، من شأن العقوبات أن تكون عامل انهيار البلاد بشكل تام.
مما لاشك فيه أن لبنان على وشك الوقوع في كارثة. لكن المشهد الإعلامي المهين الذي يسلط الضوء على المعاناة اللبنانية المروعة، ينأى بنفسه عن إجراء مناقشة جادة للخيارات الصعبة التي تواجهها البلاد. في الوقت ذاته، يحد من الترويج للعقوبات ويسلط الضوء على معاناة الشعب. في الواقع، كان الخيار الأول المتاح للبنان هو التمسك بالغرب وتجاهل بقية الدول من خلال إظهاره الحياد السلبي. وهذا يعني التطبيع السلبي مع إسرائيل والابتعاد النشط عن سوريا، وهو ما يلبي التوقعات الغربية. وبغض النظر عن كونه أمرا خياليا، فإن الحياد اللبناني اليوم بات مجرد أمنية.
أولاً، تقلل الدعوات إلى الحياد من شأن حدّة الحرب الجغرافية الاقتصادية الحالية وطبيعتها، والتي يعد قانون قيصر أحدث ضربة ناتجة عنها. بعد خسارتها للحرب بالوكالة عسكريا، تعمل واشنطن على استعراض عضلاتها المالية القوية، مدعومة بتفوق الدولار في الأسواق العالمية، لتقويض جهود إعادة الإعمار في سوريا التي يبذلها كل من خصومها روسيا والصين وإيران.
تترسخ جذور الاعتماد على رأس المال الغربي والخليجي في المجتمع اللبناني، ويتعدى ذلك قطاعي البنوك والأعمال
على نطاق أوسع، أضحت العقوبات المالية الآن جزءًا أساسيًا من السياسة الخارجية الأمريكية التي طالت غالبية الدول المتضررة في الشرق الأوسط. وتندرج هذه العقوبات في إطار حرب متعددة الجبهات تشمل جهات ثالثة مثل تركيا ومصر ودول الخليج وترتبط بإعادة الإعمار في العراق وسوريا، والتنافسات الجغرافية العسكرية في اليمن وليبيا، والتوسع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، ناهيك عن السيطرة على حقول الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط. لكن لبنان جزء من هذه جميع هذه الصراعات.
انتحار سياسي
ثانيًا، يعد إظهار لبنان الحياد تجاه سوريا على وجه الخصوص بمثابة قتل رحيم للاقتصاد وانتحار سياسي نظرا للحدود المشتركة للبلدين والتاريخ المشترك والاقتصادات المترابطة والتهديد المشترك بالعدوان الإسرائيلي والنخب الحاكمة الأوليغارشية والسلطوية. وقد أثبتت العقوبات بأن الأزمات المالية متقاربة. من شأن الحياد أن يعزل لبنان عن سوريا والمنطقة الأوسع في الوقت الذي تتعطل فيه الرحلات الجوية والبحرية جراء أزمة كوفيد-19. كما سيعيد إحياء العداء بين الشعبين بينما لم يحرز أي تقدم لتخفيف الأزمة أو الإطاحة بالنخب الحاكمة.
بالإضافة إلى ذلك، تستمر القوى الغربية في ممارسة لعبة الكيل بمكيالين متظاهرة بالقلق تجاه ما يحدث في البلاد، في حين تقوم بمزيد تضيق الخناق عليها. وبينما فرضت واشنطن عقوبات جنائية على جميع سكان لبنان، صرح سفيرها في بيروت كالمعتاد بأن حزب الله هو المسؤول عن زعزعة استقرار البلاد. وردد نظيره البريطاني هذا الاتهام، بينما قامت كلاب البوليسية في مطار هيثرو بلندن – كما شاهد هذا الكاتب مباشرة، بتفتيش مغتربين لبنانيين يحملون نقودا كانت البلاد في أمس الحاجة إليها. ووقع استجواب المسافرين الذين تم القبض عليهم “متلبسين” دون سبب.
علاوة على ذلك، تحجب دول الخليج الموالية للغرب المساعدات بينما تمتلئ صناديقها السيادية بتريليونات الدولارات. وأخيرًا، يتوقع حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم، مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تراجع قيمة الدور العالمي الأمريكي. والأهم من ذلك، أن الدول الأوروبية، وكذلك الولايات المتحدة ، لديها علاقات تجارية ومالية بمليارات الدولارات مع الصين وبقية الشرق، ولكن ليس لديها مخاوف من حرمان لبنان والمنطقة من حصتهما السيادية من العلاقات.
اللجوء للشرق
على الرغم من هذه الحقائق، استمرت المقاومة ضد البحث عن بدائل شرقية. في الواقع، تترسخ جذور الاعتماد على رأس المال الغربي والخليجي في المجتمع اللبناني، ويتعدى ذلك قطاعي البنوك والأعمال، ذلك أن قطاع التعليم الخاص والمنظمات غير الحكومية، الذي يضم شرائح كبيرة من الناشطين المؤيدين للانتفاضة، يعتمد بشكل كبير على التمويل الغربي. على العموم، يقع تعزيز هذه الروابط المادية من خلال انجذاب ثقافي داخلي للعالم الغربي والتحامل ضد العالم الشرقي. وتقوم بعض المقاومة على الرفض الأعمى والسخرية غير الناضجة من أي مقترحات تقدمها قوى الوضع الراهن.
رجل يمر أمام شركة صرافة في بيروت في الأول من تشرين الأول / أكتوبر.
من الناحية النظرية، يؤدي التحول نحو الشرق إلى زيادة قوة التفاوض مع الغرب، وتنويع مصادر الاستثمار الأجنبي، ويمكن أن يقدم حلولًا عملية وسريعة للمشكلات الملحة مثل توليد الطاقة وإدارة النفايات والبنية التحتية للنقل. ولكن في الواقع، ليس الأمر سهلا كما يبدو. أولا، يقلل أنصاره الحاليون من التوجه نحو الشرق كأداة ضد التدخل الغربي الذي من شأنه تعزيز العلاقات مع النظام السوري دون مساءلته عن دوره في القتل والتشريد والتدمير في سوريا، أو الحد من القبضة الخانقة التي تفرضها حكومة الأقلية السورية المرتبطة بالنظام على المستقبل الاقتصادي للبلاد.
إن حكومة الأقلية التي نهبت الثروة العامة على مدى طويل لن تتحمل تكاليف الخسارة المالية، ناهيك عن مواجهة العدالة فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبوها. دون هذه الإجراءات التصحيحية، من المحتمل أن تتحول الاستثمارات الصينية أو غيرها من الاستثمارات الأجنبية إلى تقسيم غنائم الحرب. وستتعزز الهياكل القائمة على القمع والمحسوبية والتفاوت.
ثانيا، العاصمة الصينية ليست هدية من السماء. في الواقع، إن التقارير عن خطط لبعث تسعة مشاريع تنموية تزيد قيمتها على 12 مليار دولار تبدو واعدة وقد توفر مهلة وقتية قصيرة، لكن تتطلب هذه الخطط بعض الشروط. وهي تشمل خصخصة محتملة لأصول الدولة، وضمانات حكومية لتعويض الخسائر المحتملة التي ستُثقل كاهل المواطنين في نهاية المطاف، واستمرار، الاعتماد، وإن كان جزئيًا، على الأنظمة المصرفية القائمة على الدولار، والحصول على موارد الطاقة، وفي حالة لبنان يعني ذلك الاقتصار على احتياطيات الطاقة المحتملة في منطقة بحرية شديدة التنافس.
عجز السيادة
إن البروتوكولات الرسمية بين الدول تضع شروطا مسبقة لكل الخطط التي وقع التطرق إليها، على نفس النحو الذي تطالب به المساعدة القانونية لإعادة الأصول المسروقة المودعة في سويسرا أو غيرها من الملاذات المالية الخارجية.
كما يتطلب الأمر مراسيم حكومية داخليًا لتنفيذ المطالب الأساسية للانتفاضة وحل الأزمة بطريقة عادلة وسريعة. وتشمل هذه التشريعات ضوابط رأس المال، وإجبار الأوليغارشية ووكلائهم البنكيين على تحمل تكاليف الانهيار، وتنفيذ الرعاية الصحية الشاملة، وإعادة توزيع الثروة من خلال الضرائب التصاعدية، وقف انتهاكات الشواطئ الساحلية لإحياء السياحة في منطقة تنافسية، وإصلاح قوانين العمل غير العادلة وقوانين الأحوال الشخصية، ودعم النشاط الاقتصادي المنتج.
بمعنى آخر، سواء كان التوجه نحو الغرب أو الشرق أو أي مكان آخر، فإن إصلاح النظام السياسي في لبنان أمر حاسم لاستعادة السيادة الخارجية والداخلية، والتي في حال غيابها من غير المحتمل أن يحدث تغيير كبير. منذ تأسيسه، كان لبنان يعاني من عجز في السيادة فيما يتعلق بالقوى الأجنبية وأوليغارشيته الحاكمة. وهو يواجه الآن التحدي المزدوج المتمثل في استعادة كليهما وسط ظروف غير مناسبة.
في لبنان، نقطة البداية هي بالضرورة سوريا. مهما كانت الحساسيات والأحكام المسبقة والتعقيدات المرتبطة بالعلاقات السورية اللبنانية
إن الطريق نحو السيادة لا يضع جميع الأطراف الأجنبية في سلة واحدة. وإدراكا لقيودها الاقتصادية وموقعها كجزء من الجنوب العالمي، وفي مواجهة التهديدات الأمريكية، يجب على لبنان تبني استراتيجية الحياد الإيجابي التي تلعب على تناقضات الحرب الجغرافية الاقتصادية الجارية لتعظيم مكاسب شعبه وليس نخبه المغتصبة أو سادة الاستعمار الجديد، القدامى منهم أو المحتملين.
الكرامة والعدالة الاجتماعية
إن الكفاح من أجل السيادة على الجبهتين، سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي، في مواجهة القوى العالمية، يتطلب حشد قوة سياسية هائلة. وليس هذا بالأمر الممكن في ظل غياب حركة جماهيرية منظمة تنظيما جيدا في لبنان، ناهيك عن غياب التضامن الإقليمي الممتد من العراق إلى فلسطين، والذي يدمج الجغرافيا السياسية في النضال الثوري.
في لبنان، نقطة البداية هي بالضرورة سوريا. مهما كانت الحساسيات والأحكام المسبقة والتعقيدات المرتبطة بالعلاقات السورية اللبنانية، يجب إعادة تشكيلها بطريقة تخدم المطالب الأساسية لكل الانتفاضات من أجل الكرامة السياسية والعدالة الاجتماعية. ويشمل هذا، أولا وقبل كل شيء، مواجهة تناقضات القتال ضد القوتين التاريخيتين الرئيسيتين تؤثران عليهما اليوم وهما الأنظمة القمعية من جهة والاستعمار والاحتلال الصهيوني من جهة أخرى.
هناك طريقة أخرى تتمثل في إعادة رسم شروط الصراع عبر الطبقات، بدلاً من خطوط القومية. وهذا يعني إيجاد قضية مشتركة مع العمال السوريين والفلسطينيين في لبنان، بما يتجاوز النموذج الليبرالي لحقوق اللاجئين، وكذلك توحيد الجهود لإزاحة النخبة الحاكمة في كلا البلدين دون مزيد من التدخل الأجنبي. وتكوين رؤية موحدة لإدارة التحول العالمي من الغرب إلى الشرق بالتنسيق مع دول الجنوب العالمية الأخرى. في الواقع، إن إيجاد حلول لهذه القضايا الشائكة التي يمكن الدفاع عنها أخلاقيا وقابلة للتطبيق سياسيا ليست مهمة واضحة أو يمكن تحقيقها بسهولة.
المصدر: ميدل آيست إي