أثار القرار التركي المتعلق بإعادة فتح “أيا صوفيا” كمسجد كما كان في السابق، جدلًا كبيرًا، ليس داخل الشارع التركي المنتشي فرحًا بهذه الخطوة التي اعتبرها أحد أهم القرارات في تاريخ تركيا الحديث، لكن داخل الشارع العربي والغربي على حد سواء.
العديد من الأصوات الغربية والعربية على حد سواء تعالت غضبًا حيال هذا الحكم القضائي الذي يلغي قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934 القاضي بتحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف، بدعوى أنه تحرك استفزازي لمسيحيي العالم بما يهدد التناغم الثقافي الداخلي في تركيا.
على أن القرار يحظى داخل تركيا بشبه إجماع بين الحكومة والمعارضة، وقليلة هي الأصوات الرافضة للخطوة التي حسمها القضاء التركي -وليس السلطة السياسية – بعد مطالبات شعبية وحزبية، مبنية على على حقيقة وجود صك ملكية لآيا صوفيا تعود صالح وقف خاص بالسلطان محمد الفاتح الذي اشترى الكنيسة وتملكها قبل أن يحولها إلى مسجد عقب فتح القسطنطينية.
إن فتح أبواب آيا صوفيا للعبادة هو استحالة الحنين الذي دام عشرات السنين إلى حقيقة .
وإن الموقف المسؤول الذي أبدته الحكومة والمعارضة جدير بالتقدير .
أطيب التمنيات لرمز الفتح وأمانة الفاتح جامع آيا صوفيا الذي يحوي تراكم حضارة اسطنبول بأسرها .
— Ahmet Davutoğlu (@A_Davutoglu_ar) July 10, 2020
٢) قلت البارحة على العربي والجزيرة مباشر أن أغلب المعارضة التركية مع القرار، وأن من ينتقد لا ينتقد مضمون القرار وإعادة آياصوفيا كمسجد، بل يؤكد على حق بلاده وأن القرار سيادي، وإنما ينتقد الاستخدام السياسي للموضوع أو يحذر من استفادة #اردوغان شعبياً وانتخابياً من الموضوع فقط.
— سعيدالحاج said elhaj (@saidelhaj) July 11, 2020
ورغم تأكيد المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن بأن فتح آيا صوفيا للعبادة “لا ينقص شيئًا من هويته التاريخية العالمية”، منوهًا إلى فتحه أمام الجميع بمختلف عقائدهم للزيارة دون إقصاء لأحد، فإن حملات إلكترونية ممنهجة باتت تسلط سهام النقد والاتهامات وكأنها سابقة في تاريخ البشرية أن يتحول متحف لمسجد أو العكس.
تحويل دور العبادة من دين إلى آخر، إجراء طبيعي وتقليدي مارسته مختلف الأديان منذ نشأة الخليقة، فصفحات التاريخ تزخر بمئات النماذج لمساجد تحولت إلى كنائس والعكس، حيث تفرض القوة المنتصرة أو المسيطرة على الوضع هويتها على ما في حوزتها من معالم وكيانات، وهو أمر ما زالت أصداؤه تخيم على الأجواء حتى اليوم.
ومن بين النماذج الصارخة على تحول أكبر المساجد في التاريخ الإسلامي لكنائس، ما شهده جامع قرطبة، ثاني أكبر مساجد العالم في القرن الثالث عشر، التحفة المعمارية التي تبهر الناظر حتى يومنا هذا، واستغرق بناؤه قرنين من الزمان.
هذا المسجد الذي بناه أمير قرطبة عبد الرحمن الداخل في 784م ثم تم توسعته في عهد خلفائه على الإمارة، وصولًا إلى آخر الإضافات التي أضيفت له عام 987 على يد المنصور بن أبي عامر، تحول إلى “كاتدرائية تناول العذراء” عام 1236 مباشرة بعد سقوط قرطبة فى يد فرديناند الثالث قائد مملكة قشتالة.
ومع ذلك لم يشهد العالم حالة الانتحاب التي يعايشها البعض الآن باسم الإنسانية واحترام مشاعر الآخرين، رغم أن الأندلس وحدها شهدت تحويل ما يزيد على ألف مسجد لكنائس، هذا بخلاف ما فعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن القدس ونقل السفارة الإسرائيلية هناك، ليذهب البعض أن حالة الانتحاب تلك تحمل أبعادًا أخرى غير الشعارات التي تدعيها إعلاميًا وإنسانيًا وثقافيًا.
تحفة معمارية
كان جامع قرطبة توقيت بنائه وما تلاه من عقود طويلة لوحة فنية معمارية نادرة، وقبلة للجميع من مختلف دول العالم، فكان يتمتع بتصميم مذهل، هذا بجانب الرمزية التاريخية والدينية التي كان يمثلها بوصفه أكبر مسجد في أوروبا والثاني عالميًا.
بينما كانت المعالم الإسلامية في ذلك الوقت تنتهج مدارس معمارية متشابهة، فإن مسجد قرطبة كان له خصوصية مميزة في التصميم والأداء والتنفيذ، حيث يتميز في تصميمه عن المتبع في المسجد الأموي في دمشق وهو المعلم الأبرز في هذا التوقيت.
كما اعتمد التصميم على إعطاء البعد الأفقي للمكان وليس العامودي، مرتكزًا في الوقت ذاته على البساطة والإبداع، فالسقف المزين بالذهب والرسوم الملونة، لا يتعارض مطلقًا مع الأرضية الحمراء المصنوعة من الرمل والجص، هذا بخلاف الأقواس المميزة التى تجسد الصحراء العربية ونخيلها المحمل بالتمر التي زينت جدران المسجد وأروقته التى كان يبلغ عددها 1293 قوسًا وتبقى منها 856 حتى اليوم.
تبلغ مساحة المسجد المبني على قبة صخرية في جنوب غرب قرطبة (جنوب إسبانيا) قرابة 24 ألف متر مربع، ويتضمن عشرة صفوف من الأقواس، فيما يحتوي كل صف على 12 قوسًا، كل منها موضوع على أعمدة رخامية ذات مظهر جمالي بديع.
وعلى الجهة الشمالية لأحد أبواب المسجد يوجد صحن كبير يسمى “باحة البرتقال” أو “فناء النازنج”، أما المظهر الخارجي له فكان يوحي كأنك بداخل قلعة كبيرة مغلفة بالأسوار الرخامية المرمرية ذات البناء الشاهق والتصميم اللافت، فيما زينت أرضية المسجد بالفضة.
أما حرم المسجد فكان بمثابة عمل فني مكتمل الأركان، عبارة عن 11 رواقًا و10 صفوف من الأقواس، كل صف يضم 12 قوسًا آخرين يرتكزون على أعمدة رخامية ممتدة على الجدار الخالفي، كما يتألف من طبقتين من الأقواس، الأقواس السفلية منها على شكل حدوة الفرس، والعلوية تنقص قليلًا عن نصف دائرة، يرتفع مقدار 9.8 متر عن الأرضية وفوقهم 11 سقفًا جمالونيًا متوازيًا، بينها أقنية عميقة مبطنة بالرصاص، وذلك بمساحة عرضية تبلغ 73.5 متر.
ترسيخ الهوية المسيحية
ظل المسجد في قبضة الكنيسة الكاثوليكية، محرم على المسلمين دخوله، منذ 1236 وحتى ثمانينيات القرن الماضي، حيث سلم عمدة قرطبة خوليو أنغويتا، الملقب بالخليفة الأحمر، مفاتيح الجامع للجمعية الإسلامية عام 1981، وسمح للمسلمين لأول مرة برفع الأذان وأداء صلاة العيد، وكان ذلك استجابة لقرار البرلمان الإسباني لقانون الحريات الدينية عام 1979.
لكن يبدو أن هذا القرار لم يعجب الكنيسة ولا الصحافة الوطنية الإسبانية، حيث شنوا هجومًا حادًا على أنغويتا، وكانت نتيجة تلك الضغوط أن تراجع الرجل عن قراره ليعود المسجد برمته مرة أخرى للكنيسة، لكن رغم ذلك لم تتوقف مواجهات “الخليفة الأحمر” مع أساقفة المدينة حتى وفاته في مايو/أيار 2020، وقيل إنه اعتنق الإسلام سرًا.
عام 1984 دخل الجامع قائمة اليونسكو للتراث العالمي، إلا أنه وبعد جهود مضنية تحولت ملكيته من الحكومة الإسبانية إلى الكنيسة الكاثوليكية عام 2006، وهي الخطوة التي لم تحرك ساكنًا لدى رافعي شعارات الإنسانية والثراء واحترام مشاعر الغير.
وفي تقرير صادر عن لجنة تابعة لبلدية مدينة قرطبة الإسبانية، في سبتمبر 2016 عن ملكية مبنى المسجد، أكد أنه “لم يكن يومًا ملكًا للكنيسة الكاثوليكية”، مؤكدًا أنه يعتبر أحد أبرز المعالم الإسلامية في الأندلس، ضاربًا بادعاءات الملكية الكنسية له عرض الحائط.
التقرير الذي أعده خبراء من إحدى بلديات قرطبة بجانب الرئيس السابق لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فيدريكو مايور، أشار إلى أن دعاوى ملكية الكنيسة للمبنى ليست عادلة، كما أنها تتعارض ومصالح المواطنين الإسبان، مطالبًا المحكمة الدستورية العليا بدحض ادعاءات الكنيسة، وأن يفتح المسجد أمام الجميع.
ورغم ذلك أصرت الحكومة الإسبانية على محو أي أثر إسلامي للجامع الذي تحول إلى كنيسة، ففي 2006 أزالت كاتدرائية قرطبة اسم المسجد من المواقع الإلكترونية والنشرات والدليل السياحي، وهو ما فُسر بأنه ترسيخ متعمد للهوية المسيحية للمبنى رغم تاريخه الإسلامي على مدار عدة قرون.
وبعد عدة ضغوط ومطالبات وتحركات من المسلمين الإسبان وغيرهم من الداعمين لحقهم التاريخي في المسجد، وافقت السلطات الإسبانية – على مضض – على إعادة تسمية هذا المبنى باسم “مجمع المسجد والكاتدرائية والنصب”، لتعود إليه هويته الإسلامية جنبًا إلى جنب مع المسيحية.
وهكذا تحول أشهر معلم إسلامي في تاريخ أوروبا إلى كاتدرائية، دون أي اعتبار لمشاعر ملايين المسلمين، علمًا بأن السيطرة على المسجد كانت عنوة وقهرًا بعدما سقطت قرطبة في أيدي فرديناند الثالث، في الوقت الذي لم يحرك فيه أحد ساكنًا باعتبار أن ذلك شأن داخلي لإسبانيا.
لم يكن جامع قرطبة الحالة الوحيدة لتحول المساجد إلى كنائس، فصفحات التاريخ ملأى بعشرات النماذج منها مسجد قصر الحمراء في غرناطة الذي تحول إلى كنيسة سانتا ماريا، كذلك مسجد باب المردوم في طليطلة وجامع إشبيلية، حتى في داخل البلدان العربية كذلك، فهناك جامع كتشاوة في الجزائر الذي حوله الفرنسيون إلى كنيسة، بجانب مسجد عمرو بن العاص في القاهرة الذي تحوَّل لكنيسة أكثر من مرة.