خاب أمل الماليين في رئيسهم ولد إبراهيم بوبكر كيتا، فخرجوا للشوارع مطالبين باستقالته بعد 7 سنوات من توليه حكم البلد الذي يعاني من انقسام شديد، خرج هؤلاء مجددًا للاحتجاج بسبب إخفاق الرئيس في تقديم حلول لمشكلات البلاد الأمنية والاقتصادية المتواصلة منذ سنوات طويلة.
مظاهرات متواصلة
احتجاجات الأمس، التي سنستعرض في هذا التقرير بالتفصيل مظاهرها وأسبابها، ليست الأولى من نوعها في هذا البلد الإفريقي، فقد عرفت البلاد احتجاجات مماثلة في أوقات سابقة، بدأت عقب إجراء انتخابات تشريعية في مارس/آذار الماضي فاز فيها حزب الرئيس ولد إبراهيم بوبكر كيتا “التجمع من أجل مالي”.
جاءت الاحتجاجات الأخيرة، مباشرة بعد إعلان أنصار ما يعرف بحركة “الخامس من يونيو” (تجمع القوى الديمقراطية) ما أسموه عصيانًا مدنيًا للضغط على الرئيس حتى يستجيب لمطالبهم، ويدعو هؤلاء لرحيل الرئيس إبراهيم كيتا وأعوانه من السلطة وحل المحكمة العليا وحل البرلمان الجديد وإعادة الانتخابات التشريعية وإنشاء حكومة وطنية لها برنامج إصلاحي محدد.
وتؤكد حركة 5 يونيو الاحتجاجية أن خطاب الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، الذي ألقاه ليل 8 – 9 من يوليو الحاليّ “لم يرق للانتظارات المشروعة للمواطنين الماليين”، معتبرة أنه “لم يختلف عن باقي خطاباته”، وأضافت الحركة في بيان لها أن الخطاب “لم يحمل جديدًا بشأن الأزمة الحاليّة”، وأن مذكرتها “تم تجاهلها من طرف السيد الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا”.
ترى المعارضة أن ولد إبراهيم بوبكر كيتا لم يهتم للوثيقة الجديدة التي تم تقديمها له، وتتضمن الوثيقة 11 نقطة تشكل مقترحًا للخروج من الأزمة السياسية، في مقدمتها حل الجمعية الوطنية التي انتخب أعضاؤها نهاية مارس الماضي وتشكيل “هيئة تشريعية انتقالية”، وإعادة تشكيل محكمة العدل السامية.
هذه الاحتجاجات الشعبية الضخمة جاءت نتيجة تراكمات كبرى، فالغضب الشعبي يتراكم في مالي منذ سنوات عدة
فضلًا عن تشكيل حكومة انتقالية من طرف “وزير أول كامل الصلاحيات” تختاره المعارضة ولا يمكن لرئيس الجمهورية أن يقيله، وعندما يشكل حكومته لا يتشاور مع الرئيس فيها، ويمتلك صلاحية التعيين في المناصب الوطنية السامية (إدارة، عدالة، قوات مسلحة، أمن).
ووفقًا للمقترح فإن الوزير الأول سيكون الرئيس الفعلي للبلاد في الخارج، بينما سيحتفظ رئيس الجمهورية بصفة “الرئيس الشرفي” دون أي صلاحيات، وتنص وثيقة المعارضة في النقطة الثامنة على “انسحاب رئاسة الجمهورية من الهيئات التنفيذية للدولة”.
وكان الرئيس كيتا قد دعا في خطابه إلى الوحدة، وأكد سعيه إلى التوصل لتوافق مشترك بين مختلف القوى الوطنية، وذلك من خلال سلسلة اللقاءات التي بدأها مؤخرًا، كما أشار إلى أن محكمة حديثة يمكن أن تعيد النظر في قرار إبطال بعض نتائج الانتخابات التشريعية السابقة.
ويرفض الرئيس الذي ترقى في المناصب السياسية في بلاده حتى وصل إلى هرم السلطة بعد انتخابه رئيسًا للبلاد يوم 11 من أغسطس/آب 2013، أن ينسحب من رئاسة الجمهورية ومن الجهاز التنفيذي، وتحولها إلى “رئاسة شكلية”.
اقتحام التليفزيون والبرلمان
حركة 5 يونيو المؤلفة من زعماء دينيين وسياسيين والمجتمع المدني، دعت أنصارها إلى اقتحام مبان رئيسية في البلاد والسيطرة عليها، من بينها مكتب رئيس الوزراء ومقار حيوية أخرى في بداية حملة العصيان المدني للضغط على رئيس البلاد.
استجاب المحتجون مباشرة فاقتحموا البرلمان في العاصمة باماكو، ما دفع الشرطة المالية إلى استخدام الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين الغاضبين، فقتل شخص وأصيب نحو 20 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة ونقلوا مباشرة إلى المستشفى.
بالتزامن مع ذلك انقطع بثّ قناتي التليفزيون المالي العام، ولم تُعرف أسباب الانقطاع على الفور، لكنها حدثت بعد أن توجه المتظاهرون بعد مسيرة ساحة الاستقلال بباماكو إلى مقر الإذاعة والتليفزيون العام للسيطرة عليه بناء على توجيهات قيادة المعارضة.
إلى جانب ذلك، حاول متظاهرون آخرون السيطرة على جسرين رئيسيين من جسور العاصمة الثلاث، حيث أقاموا حواجز على أحد هذه الجسور، في حين أجبرت السيارات على الانحراف عن حركة المرور، كما اندلعت حرائق متفرقة في مواقع مختلفة من العاصمة باماكو.
ولم تقتصر الاحتجاجات على العاصمة باماكو فقط، فقد خرج المتظاهرون أيضًا في مدينة سيكاسو في الجنوب وفي الشوارع مدينة كايز في الغرب وسيغو في جنوب وسط البلاد، وحتى في مدينة تمبكتو الصحراوية القديمة الواقعة على أطراف الصحراء، وقد تنتشر الحركة أكثر من ذلك.
تراكمات كبرى
هذه الاحتجاجات الشعبية الضخمة جاءت نتيجة تراكمات كبرى، فالغضب الشعبي يتراكم في مالي منذ سنوات عدة، لكن زادت حدته في الأشهر الأخيرة نتيجة الإجراءات الصحية التي فرضتها الدولة للسيطرة على وباء فيروس كورونا.
وأيضًا الانتخابات التشريعية التي جرت في مارس وأبريل الماضيين، التي نتج عنها تصدر حزب الرئيس وفوزه بأغلبية مقاعد البرلمان، وتقول المعارضة إن انتخابات الجمعية الوطنية، شهدت عملية تزوير حيث تم الإبلاغ عن العديد من المخالفات في المناطق التي تم فيها انتخاب المقربين من الحكومة، وتتهم المعارضة محكمة العدل السامية، بالتورط في تزوير الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
استطاع الإمام محمود ديكو فرض صوته في قلب النزاع الحاصل في البلاد، إذا استطاع أن يصبح رأس الحربة لحركة تغطي كامل الطيف السياسي
ترى المعارضة أن سياسات الرئيس ولد إبراهيم بوبكر كيتا، زادت من حدة أزمة البلاد الاقتصادية نتيجة الفساد والمحسوبية، حيث ارتفعت نسب البطالة والفقر المدقع وتراجعت نسب النمو، وتعد مالي من أفقر 25 دولة في العالم، وتعتمد على المساعدات الخارجية ويعاني السكان من تَدنّي المستوى الصحي، حيث يقل متوسط العمر المتوقع عن 50 سنة، ويموت نحو نصف الأطفال حديثي الولادة.
كما ترى المعارضة أن الرئيس الذي تولى منصبه بعد أشهر من عملية عسكرية بقيادة فرنسية، فشل في إحلال السلام في البلاد، فقد عاد العنف في وسط وشمال البلاد، وتعاني مالي من عدم الاستقرار، فهناك العديد من قبائل الطوارق تسعى إلى الاستقلال والانفصال بإقليم أزواد في شمال مالي، فضلًا عن صعود تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، وظهور العديد من الجماعات الجهادية المسلحة هناك.
الإمام محمود ديكو يقود الشارع
ضمن قيادة الحركة الاحتجاجية، يبرز الإمام محمود ديكو كصاحب قوة الحشد الحقيقية وراء المظاهرات المتواصلة في البلاد، ويعد محمود ديكو اللاعب الأساسي في الحراك الذي تشهده البلاد، خاصة أن الاحتجاجات التي قادها في أبريل/نيسان عام 2019 أدت إلى إقالة رئيس الوزراء آنذاك سوميلو بوبيي مايغا.
تلتف الحشود الضخمة حول الإمام محمود ديكو للاستماع إليه، فيظهر الإمام ملتفًا في لحاف أبيض، لون النقاء في الإسلام والاستقامة في السياسة لتأكيد نظافة يده، وعبر خطبه التي ترفع معنويات الماليين وتبعد عنهم الإحباط أصبح محمود ديكو شخصية مركزية في المشهد المالي.
بروز الإمام محمود ديكو في هذه الاحتجاجات ليس وليد الصدفة، فقد برز الإمام سنة 2009 كرئيس للمجلس الإسلامي الأعلى، حيث قاد حملة احتجاج جماعي أجبرت رئيس مالي آنذاك أمادو توماني توري على تخفيف قانون الأسرة الذي كان من شأنه أن يعزز حقوق المرأة.
سنة 2013، انتخب إبراهيم بوبكر كيتا رئيسًا لمالي وكان ذلك بمساعدة الإمام محمود ديكو، كانا صديقين وكان ديكو يوافق سياسة الرئيس، فيما كان هذا الأخير لا يعارض تزايد نفوذ الإمام، حتى إنه كلفه في بداية فترة حكمه بمهمة التفاوض مع جماعات مسلحة من أجل إطلاق سراح رهائن.
هذه العلاقة لم تبق على حالها، فقد عرفت تدهورًا وتوترًا في الفترة الأخيرة، حيث أصبح الإمام المحافظ محمود ديكو ناقدًا شديدًا لقوة الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، كما قاد مظاهرات شعبية دفعت رئيس الوزراء سميلو بوباي مايغا إلى الاستقالة عام 2019.
استطاع الإمام المعتدل فرض صوته في قلب النزاع الحاصل في البلاد، إذا استطاع أن يصبح رأس الحربة لحركة تغطي كامل الطيف السياسي، بما في ذلك خصوم الأمس، فأحزاب المعارضة التي فشلت في حشد الشارع كانت بحاجة إلى سلطة معنوية يثق فيها الشارع.
فرنسا ومسك الحبل من الوسط
هذه الاحتجاجات محل أنظار القوى الدولية، خاصة فرنسا التي تعتبر دولة مالي منطقة نفوذ حيوي، باعتبارها مستعمرة سابقة لها، ويتابع صانعو القرار في باريس الوضع هناك لكن في صمت، فهم إلى الآن لم يبدوا أي موقف مما يحصل في هذه الدولة الإفريقية.
ويعمل حكام قصر الإليزيه على مسك الحبل من الوسط وألا يتورطوا مع أي جهة في النزاع الحاصل، حتى يضمنوا مكانة فرنسا هناك في حال تغير النظام أو بقي على حاله، فباريس ترفض أن تفقد مناطق نفوذها السابقة لصالح أي قوى أخرى مهما كانت.
تتمثل أهمية مالي بالنسبة لفرنسا، بما يحمله باطنها من ثروات نفطية وغازية ومعدنية كبيرة (الذهب، البوكسيت، اليورانيوم، الحديد، النحاس، اللتيوم، المنجنيز، الفوسفات، الملح…)، إذ تعد ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا، كما تقع على مقربة من حقول النفط الجزائرية، وعلى مسافة قريبة أيضًا من أماكن التنقيب ذات المؤشرات الإيجابية في موريتانيا.
ورغم ما تواجهه فرنسا من رفض شعبي في مالي يومًا بعد آخر، بعد أن جعلت من وجودها العسكري أداةً لنهب ثروات البلاد، فإنها تأبى الانسحاب وترك البلاد لشعبها، وتعتبر فرنسا القوة الرئيسية التي تتحكم في هندسة خريطة القوى المؤثرة والمتحكمة في السلطة بمالي.