الظاهر أن السلطة الجديدة في الجزائر، تسابق الزمن من أجل التخلص من سياسية “الاقتصاد الريعي” القائمة على بيع ما وهبت به الأرض من موارد طبيعية كالذهب الأسود الذي كان مصدر الدخل الوحيد الذي اعتمدت عليه البلاد على مدار عقود طويلة من الزمن، وتنويع الاقتصاد من أجل مواجهة التحديات السياسية والأمنية والاجتماعية.
تتجه الجزائر للسير على خطى سويسرا وألمانيا التي زودت أسطح منازلها بألواح شمسية لتوليد الطاقة الكهربائية التي تحتاجها، والمغرب الذي ركّب 28 ألف مضخة تعمل بالطاقة الشمسية لاستخراج الماء من الآبار في القرى، لتعوض بشكل كامل استعمال الغاز لاستخراج المياه الجوفية مع حلول 2021.
ووجهت الحكومة الجزائرية، أنظارها نحو مشروع ديزيرتيك للطاقة الشمسية في الجنوب لإنتاج 15 ألف ميغاواط من الكهرباء بحلول عام 2030، ففي يونيو/حزيران الماضي، كشف وزير الطاقة الجزائري السابق، محمد عرقاب، لدى نزوله إلى مبنى الغرفة الأولى للبرلمان الجزائري، وجود مشاورات مع المبادرة الألمانية “ديزرتيك” لإطلاق مشاريع محطات لتوليد الطاقة الشمسية.
ما هو مشروع “ديزيرتيك”؟
مشروع للطاقة الشمسية في شمال إفريقيا، مقترح من طرف مؤسسة “ديزيرتيك ” التابعة لنادي روما، تقدر تكلفته بنحو 400 مليار يورو، يقوم على الطاقة الشمسية الحرارية، على أن تصدر في وقت لاحق الكهرباء المنتجة لأوروبا كما يحق لدول شمال إفريقيا الاستفادة منها.
لكن بعد مرور أربع سنوات فقط على ميلاده في مدينة ميونيخ الألمانية عام 2009، واجه المشروع عقبات كبرى حالت دون استكماله، بعد انفصال مؤسسة ديزيرتيك غير الربحية عن باقي الشركاء في المبادرة الصناعية، وبررت رغبتها في الانفصال بالقول إنها لم تعد مرتاحة للأهداف التجارية التي عبرت عنها الأطراف المشاركة، إضافة إلى تراجع النمو الاقتصادي لبلدان جنوب أوروبا، وثورات الربيع العربي خصوصًا في تونس وليبيا ومصر.
تحاول الحكومة الجديدة استدراك أخطاء الماضي والتخلص من الاقتصاد الريعي للنفط
ورغم التجارب الرائدة التي حققتها عدة دول في مجال الطاقة المتجددة، فإن الحكومات المتعاقبة في عهد الرئيس الجزائري المخلوع عبد العزيز بوتفليقة لم تحقق تطورًا ملحوظًا في هذا المجال، لعدة أسباب يذكر منها الدكتور مهماه بوزيان، باحث دائم وخبير مستشار في الشأن الطاقوي، في تصريح لـ”نون بوست” غياب الهندسة التقنية، ويقول إن الإرادة السياسية كانت متوافرة لكن الهندسة التقنية كانت غائبة.
وبرر وزير الطاقة الجزائري السابق نور الدين بوطرفة، أسباب رفض الجزائر قبول مشروع ديزريتيك الأوروبي إلى سعر بيع الكيلواط الساعي للكهرباء الشمسية في الفضاء الأوروبي الذي يبقى غير تنافسي، حيث رد على سؤال شفوي بمجلس الأمة (الغرفة العليا في البرلمان الجزائري)، بتاريخ 6 من يناير/كانون الثاني 2017، بالقول: “الجزائر غير مستعدة لقبول مشروع ديزيرتيك الأوروبي الذي يهدف إلى إنتاج الكهرباء بواسطة الطاقة الشمسية”.
وقال بلغة صريحة وواضحة ومباشرة: “مستقبل المفاوضات التي تجريها الجزائر مع ألمانيا بشأن هذا المشروع الضخم لا فائدة من استكماله في ظل وجود فائض في الطاقة الكهربائية في معظم بلدان أوروبا”.
وكشف بوطرفة أن مجمع سونلغاز للكهرباء والغاز أجرى دراسة تقنية سنتي 2012 و2013 على التوالي بالتعاون مع المركز الألماني “ديزريت أندوستري” التابع لمشروع “ديزيرتيك” تتعلق بإنجاز مشاريع لمحطات توليد الطاقة الشمسية بالجزائر وبطاقة إجمالية تبلغ ألف ميغاواط، 90% منها موجهة للتصدير نحو أوروبا.
وخلصت الدراسة التقنية بحسب ما كشفه الوزير السابق إلى مراجعة الشروط القانونية الأوروبية المرتبطة بنشاط إنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية الشمسية ومراجعة سعر بيع الكيلواط الساعي للكهرباء الشمسية في الفضاء الأوروبي الذي يبقى غير تنافسي.
مساعٍ لاستدراك أخطاء الماضي
تحاول الحكومة الجديدة استدراك أخطاء الماضي والتخلص من الاقتصاد الريعي للنفط، وهو ما أكده الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في آخر اجتماع له مع مجلس الوزراء، حيث دعا للتفكير في بدائل اقتصادية تنقل البلاد من الاعتماد الكلي على الاقتصاد الريعي للنفط، والاعتماد على الصحراء الكبرى وتحويلها إلى قطب اقتصادي وتنموي كبير.
وتجسيدًا لهذه الرؤية، استحدث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وزارة خاصة بالمناجم كلف بها محمد عرقاب، الذي كان وزيرًا للطاقة، بينما أسندت حقيبة الطاقة لعبد المجيد عطار ومستشار دولي في الطاقة، ووزير الموارد المائية السابق في الجزائر والرئيس التنفيذي السابق لشركة “سونطراك” النفطية المملوكة للدولة الجزائرية، وهو من أبرز المدافعين على إنتاج ثروات طاقوية جديدة في المدى المتوسط.
وتحدث وزير الطاقة الجزائري، عبد المجيد عطار، خلال تسلم مهامه على رأس وزارة الطاقة، عن تحديات جديدة في قطاع الطاقة بالنظر إلى الوضعية الطاقوية على المستوى العالمي التي شهدت تغييرًا جذريًا منذ نحو عقد من الزمن خاصة بسبب الركود الاقتصادي العالمي.
واستدل عبد المجيد عطار بالانخفاض المسجل في أسعار النفط منذ عام 2014، إضافة إلى وباء كوفيد-19 منذ مطلع العام الحاليّ، وتابع قوله إن الموارد الطاقوية الجزائرية من الغاز والنفط كافية، والأمن الطاقوي مضمون إلى غاية 2030 أو حتى 2040، لكن المشكلة يقول – عطار – إن الاقتصاد الوطني يجب أن ينسى الريع الطاقوى وينبغي أن يعمل على إنتاج ثروات جديدة على المدى المتوسط.
الحل في الطاقة الشمسية
يقول خبراء الاقتصاد إن الاستثمار في الطاقات المتجددة في الصحراء، يشكل مصدرًا مهمًا للعملة الصعبة خارج المحروقات وقد يساهم في إنعاش احتياطي البلاد من الصرف المقدر حاليًّا بـ62 مليار دولار، بحسب تصريح محافظ بنك الجزائر سابقًا ووزير المالية حاليًّا، أيمن بن عبد الرحمن، في فبراير/شباط الماضي، مع توقعات بتراجع الاحتياطي إلى 51 مليار دولار بنهاية السنة الحاليّة.
تمثل مساحة الصحراء 87% من مساحة الجزائر، وحتى اليوم لم يستغل إلا 14% من مساحتها الكلية
ويأمل الخبير الاقتصادي سليمان ناصر، استمرار المشروع وعدم تكرار السيناريو الذي شهده في عهد الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، ويؤكد في تصريح لـ”نون بوست” أن هذا المشروع سوف ينتج طاقة كهربائية تكفي الجزائر وتصدر الفائض إلى أوروبا، كما أنه يشكل مصدرًا مهمًا للعملة الصعبة خارج المحروقات، يقول المتحدث إن الجزائر تنتمي إلى أكبر صحراء في العالم وكلها معرضة للشمس، ولهذا السبب أسالت لعاب الأوروبيين.
وبحسب دراسة أمريكية نشرها مركز البحث الأمريكي عام 2019، تمثل مساحة الصحراء 87% من مساحة الجزائر، وحتى اليوم لم يستغل منها إلا 14% من مساحتها الكلية، وذكرت الدراسة أن الجزائر بقيت ولمدة 58 عامًا عاجزة عن إقامة جرد لثرواتها الباطنية والمناجم الغنية بالغاز والذهب واليورانيوم، كذلك تعتبر الطاقة الشمسية أبرز طاقة متجددة تزخر بها الجزائر، إذ تتوافر على ما يعادل أربع مرات مجمل الاستهلاك العالمي للطاقة، أي ما يقارب 37 ألف مليار متر مكعب من الغاز في العام.
وفي نظر سليمان ناصر فإن الجزائر كانت ستتحول خلال العقدين الماضيين من الزمن إلى أكبر منتج للطاقة الشمسية، وعن مستقبل هذا المشروع، يقول: “للأسف قانون المحروقات الجديد ما زال يركز على استغلال الغاز الصخري وكأن الجزائر تصر على استعمال الطاقات التقليدية والتخلف عن العالم”.
ويؤكد المتحدث أن أي اعتماد على الطاقات التقليدية سوف يؤخر التوجه نحو الطاقات المتجددة، في وقت تتجه أوروبا بعد عشر سنوات من الآن نحو منع السير بالبنزين أو المازوت، ومع ذلك يقول سليمان: “نستبشر خيرًا لأن الانتقال الطاقوي يمثل أحد أهم المحاور الكبرى لبرنامج الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مثل الرقمنة والمؤسسات الناشئة، إضافة إلى ذلك قرر الرئيس في التعديل الحكومي الأخير إنشاء وزارة جديدة خاصة بالطاقات المتجددة والانتقال الطاقوي وفصلها عن وزارة الطاقة حتى يعطي لها أهمية أكبر”.
فك الارتباط مع الطاقات التقليدية أصبح حتميًا
من جهته يقول الخبير الجزائري في المسائل الطاقوية والشؤون الاقتصادية، الدكتور بوزيان مهماه، في تصريح لـ”نون بوست”: “يجب على الجزائر فك الارتباط مع الطاقات التقليدية، لكن ينبغي أن يكون عملا منظوميًا لأن الطاقة الشمسية ليست فقط عملية تركيب محطات لإنتاج الكهرباء من المصدر الشمسي، واستبدال محطات تربينات الغاز بها”.
ويؤكد المتحدث أنه وفي ظل الصعوبات المالية ومع التراجع الذي نشهده في المداخيل، توجد حلول عدّة لتمويل المشاريع الكبرى، مثلًا من خلال الدعوة الدولية إلى إقامة مشاريع بالجزائر والاستفادة من التوجه العالمي نحو الطاقات المتجددة والانخفاض الكبير والمتسارع في أسعار الكيلوواط ساعي للكهروضوئي، وبذلك تنجح في استقطاب استثمارات دولية مهمة.
كل مليون دولار أمريكي يتم استثماره في الطاقة المتجددة سيخلق ثلاث وظائف أكثر في حالة استثمار نفس المبلغ في قطاع الطاقة الأحفورية
واستدل المتحدث بالفرص التي استفادت منها دول عديدة على غرار استحضار مشروع إنجاز المحطة الشمسية الكهروضوئية بقدرة 300 ميجاوات بتونس (يناير/كانون الأول 2020)، وقد رست المناقصة لصالح شركة SCATEC النرويجية التي ستنجزها بسعر 0.0253 دولار/كيلوواط ساعي (أي ما يكافئ 3.02 دج/كيلوواط ساعة)، كذلك نجد مشروع الظفرة بأبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة (أبريل/نيسان 2020)، حيث سيتم إنجاز محطة شمسية كهروضوئية بقدرة 1500 ميجاوات، بسعر 0.0135 دولار/كيلووات ساعي (أي ما يعادل 1.62 دج/كيلوواط ساعة)، حاز على المشروع ائتلاف شركات تجارية (كونسورسيوم) (بقيادة (أو.دي.أف) الفرنسية و(جينكو باور) الصينية.
يرى الخبير الجزائري في المسائل الطاقوية والشؤون الاقتصادية، أن هذه المشاريع من شأنها خلق مناصب شغل واستدل بدراسة نشرتها الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، منذ أسبوعين فقط، يقول فيها إن الانتعاش الاقتصادي على المدى القصير، ستخلقه هذه القطاعات الحيوية، حيث يمكن بحلول سنوات (2021-2023) مضاعفة الاستثمار السنوي الانتقالي، مع تضاعف استثمارات القطاع الخاص بمعامل 3 أو 4، وهذا ما سيؤدي حتمًا إلى إضافة نقطة مئوية واحدة إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي، مع توفير 5.5 مليون وظيفة إضافية على المدى المتوسط، وهنا يركز التقرير على فكرة محورية مفادها بأن كل مليون دولار أمريكي يتم استثماره في الطاقة المتجددة سيخلق ثلاث وظائف أكثر في حالة استثمار نفس المبلغ في قطاع الطاقة الأحفورية، وخلق مناصب الشغل هو بعد مهم جدًا ومحوري للجزائر في أي مسعى للإقلاع الاقتصادي ولانبعاث “القيمة المضافة الاقتصادية” المرجوة.