“قرصنة البرمجيات” واحدة من أخطر قضايا القرصنة في العصر الحديث، توسعت بشدة وبأشكال مختلفة، وهي في أبسط تعريفاتها النُسخ غير المعتمدة للبرامج المدفوعة والتحايل على الاستخدامات المرخصة لإنتاج ملايين النسخ الشعبية وانتهاك حقوق الطبع والنشر، وباستثناء بعض الأدوار الأخلاقية، تعتبر قرصنة البرامج واحدة من أبغض شرور التكنولوجيا.
متى ظهرت قرصنة البرامج؟
عرفت ظاهرة قرصنة واختراق البرمجيات، مع الانتشار الواسع لاستخدام الكمبيوتر، لكنها تعود تاريخيًا إلى ما قبل ذلك بكثير، وتحديدًا عند بداية عام 1903، حيث كان الفيزيائي جون أمبروز فلمنج يستعد لعرض إحدى عجائب القرن الجديد، التي تتخلص في نظام تلغراف لاسلكي بعيد المدى، ابتكره الإيطالي جوليلمو ماركوني.
تلخصت المفاجأة في إرسال الجهاز قصيدة ساخرة بدلًا من الرسائل المتعارف عليها للجهاز، والمثير أن التلاعب الذي حدث فسره البعض على أنه أعمال سحر وغيبيات، خاصة أن المخترق كان الساحر البريطاني نيفيل ماسكيلين الذي أوضح على الفور الهدف من هذه الخدعة، التي أراد منها كشف الثغرات الأمنية في هذا الاختراع من أجل الصالح العام.
تطورت قضية الاختراق البرامجي بعد أكثر من ربع قرن على حادثة التلغراف الاسلكي، وتحديدًا عام 1932 بعدما تمكن خبراء تشفير من بولندا وهما ماريان ريجيوسكي وهنري زيجلاسكي وجيرزي روزيكي من فكِّ شفرة جهاز إنيغما الذي استخدمه الألمان حصريًا خلال الحرب العالمية الثانية لإرسال واستقبال رسائل سرية.
تطورت القرصنة البرامجية بطريقة أكثر تعقيدًا في سبعينيات القرن الماضي، على يد جون درابر المبرمج الأمريكي الأشهر في تلك الحقبة، حيث استطاع التلاعب بأنظمة الهاتف والخصائص التشغيلية له، وتحكم في توجيه المكالمات، وأجرى مكالمات مجانية بعيدة المدى، وعلى ضوء هذا الاختراق ظهرت واحدة من أنجح شركات الكمبيوتر في العالم، التي أسسها كل من ستيف وزنياك وستيف جوبز.
في الثمانينيات كان الأمر مختلفًا، حيث كان عقدًا فاصلًا في تاريخ القرصنة البرامجية، إذ أتيح للجمهور العام الحصول على أجهزة الكمبيوتر بشكل شخصي، بعد أن كانت مقتصرة على الشركات والجامعات المرموقة، وأدى ذلك إلى الاستخدام الواسع لأجهزة الكمبيوتر الشخصية، وبالمقابل الزيادة المتسارعة للهاكرز أو القراصنة.
استخدم المخترقون الجدد في هذه الحقبة مهاراتهم الشخصية في تعظيم مكاسبهم، بدلًا من استخدامها لتحسين أجهزة الكمبيوتر، وتطور الأمر إلى الكثير من الأنشطة الإجرامية مثل خلق الفيروسات واقتحام النظم لسرقة المعلومات الحساسة، الأمر الذي استدعى مواجهة قانونية شاملة.
ظهر أول تشريع لمكافحة القرصنة عام 1986 وهو قانون الاحتيال وإساءة استخدام الكمبيوتر الفيدرالي، استطاع المواجهة قليلًا قبل أن تتطور آليات الاختراق في التسعينيات، وتزداد معها عدد الجرائم السيبرانية.
عرُفت هذه الحقبة بالعديد من القضايا الشهيرة التي تابعها العالم عن قراصنة حققوا الملايين من الدولارات على شاكلة كيفن ميتنيك وكيفين بولسن وروبرت موريس وفلاديمير ليفين، والأخير نجح في اختراق بنك “سيتي بنك” الأمريكي وحوّل عشرة ملايين دولار من حسابات عملاء إلى حساباته الشخصية في فنلندا و”إسرائيل” مستخدمًا حاسوبه المحمول.
اعتقل وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وكانت هذه الأحكام على ليفين وغيره من أشهر قراصنة العقد بداية تكثيف الجهود الدولية لمكافحة الظاهرة، حيث زادت التشريعات الدولية، وألقي القبض على الكثير منهم، لدرجة أن مجتمع القراصنة انهار من الداخل بسبب إبلاغهم عن بعضهم البعض، مقابل الحصانة التي منحتها لهم بعض القوانين.
القراصنة الأخلاقيون.. الهاكز من زاوية أخرى
في بداية الألفية الثانية، حاولت الظاهرة تجاوز أزماتها وظهر القراصنة الأخلاقيون بأنواع جديدة وخطيرة من الاختراقات التي أضرت بالهيئات الحكومية والشركات البارزة، مثل مايكروسوفت وإيباي وياهو وأمازون ووزارات دفاع ومحطة الفضاء الدولية التي اخترقها صبي يبلغ من العمر 15 عامًا.
كان الصبية والمراهقون الذين أشاعوا القرصنة الأخلاقية، يرون أن القراصنة طوال تاريخهم طالما وقفوا على حدود الخير والشر في أعتى أوقات الظلامية، واستشهدوا بحظر الكنيسة في العصور الوسطى ووصول بعض الكتب الدينية إلى متناول الجماهير، ولم يكن هناك إلا القراصنة الذين تحملوا المسؤولية الأخلاقية وسربوا الأناجيل وتفسيراتها إلى الناس حتى يعرفوا الحقيقة بأنفسهم ودون تدخل كهنوتي يمارس الاستبداد الديني على قناعاتهم.
اعتبر “القراصنة الأخلاقيون” القرصنة حالة يوتيوبية تساعد البشر على مواجهة استغلالهم من القلة التي تتزايد أطماعها ولا تشبع أبدًا، وليس هناك مفر من التدخل بأنفسهم لإعادة توزيع حصص المستهلكين بالشكل الذي اعتبروه عادلًا أمام جشع الشركات ورجال الأعمال وتخاذل الحكومات.
هذه الأفكار كانت مبررًا لتدخل القراصنة عام 2009 لمعاقبة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وانتقموا للشعب الأعزل بضرب بنية الإنترنت التحتية في “إسرائيل”، فهجموا بكثافة على مواقع إلكترونية حكومية، وقدرت عدد الأجهزة التي اشتركت في الهجمات بنحو خمسة ملايين حاسوب على الأقل وفقًا لمجلة “ناتو ريفيو” الإلكترونية، وتبنى أغلب الهجوم مجموعة قراصنة أنونيموس، واستمرت بعضها لترد الصاع صاعين في الفضاء الإلكتروني ردًا على كل اعتداء إسرائيلي ضد فلسطين.
آخر ضربات القراصنة الأخلاقيين ما فعلته مجموعة الهاكرتيف أو الـ Anonymous التي احتلت مركز الصدارة في هذا العقد وأصدرت وثائق سرية للغاية وفضحت أسرار حكومية شديدة الخطورة، وظهر أحد أفرادها قبل أسابيع تزامنًا مع التوترات العنصرية في الولايات المتحدة، وتصدر عناوين الأخبار بعدما توعد بالانتقام من مقتل جورج فلويد، وتعهده بفضح سجل شرطة مينيابوليس الحافل بالعنف والفساد على حد قوله.
بعد وقت قليل نُفذ بالفعل هجوم إلكتروني واسع على مواقع مدينة مينيابوليس وقسم الشرطة بها، مما جعل الوصول إليها غير ممكن، وتم تشويه صفحة الويب الخاصة بوكالة تابعة للأمم المتحدة واستبدالها بنصب تذكاري يخلد اسم فلويد.
وتحظى مجموعة الهاكرتيف بشعبية كبرى بين الأعمار الشابة، بسبب الحالة الحالمة التي تضفيها على أفكارها، واستخدامها لقناع Guy Fawkes أو ـ جاي فوكس ـ الذي خلدته كل من رواية ديستوبيا وفيلم v for vendetta الذي قاتل فيه فوضوي مقنع حكومة فاشية تؤمن بالتفوق الأبيض، فحشد الكثير من التعاطف معه، ولهذا كان هذا القناع حاضرًا في المسيرات الثورية والاحتجاجية حول العالم.
تعقيدات العقد الأخير لـ”مجتمع القراصنة”
يمكن القول إن جميع ما مضى شيء، وما حدث خلال العقد الماضي من مجتمع القراصنة شيئ آخر، بعدما أصبح أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، حيث تكاثرت مجموعات القرصنة الصغيرة وأصبحت في كل ركن من أركان الإنترنت .
عرفت أجيال جديدة من الفيروسات أكثر خطورة مما مضى، مثل برامج الفدية وهجمات Wi-Fi، وزادت بشراهة عمليات النسخ والتوزيع غير القانوني للبرامج المحمية بحقوق الطبع والنشر بهدف تقليد المنتج الأصلي، وشملت عمليات التزييف معدلات الأمان وبطاقات التسجيل والعلامات الإلكترونية.
كما زادت مواقع المزادات العلنية على الإنترنت التي توفر للمستخدمين مواقع ويب مزيفة وتسمح لهم بتنزيل البرامج مجانًا، كما تكاثرت الشبكات التي تسمح بنقل البرامج المحمية بحقوق النشر دون إذن.
وفقًا لدراسة أجراها موقع Business Software Alliance بلغت خسائر الإيرادات التي تكبدتها شركات البرمجيات في عام 2015 نحو 52 مليار دولار، فمقابل كل نسخة برمجيات تم إنشاؤها بشكل غير قانوني تخسر شركة البرمجيات ملايين الدولارات.
الخسائر الكبيرة دفعت الكثير من البلدان الأوروبية إلى سن عقوبات قاسية ضد من تتم إدانته سواء شركات أم أفراد، ويثبت القضاء عليهم تهمة صنع البرامج المقرصنة أو مشاركتها أو بيعها، ويجبرون على دفع الخسائر مع دفع الأرباح التي حصلوا عليها أيضًا.
ويعتبر النسخ غير القانوني للبرامج جريمة في كل أنحاء العالم، لكن عددًا قليلًا من البلدان المتطورة هي التي تتشدد في تشريعاتها الخاصة، وتخضع الجناة لعقوبات تتجاوز ما خسره مالك حقوق الطبع والنشر، حيث يتم تغريمهم لصالح البلد نفسه، وتصل العقوبات في بعض الولايات الأمريكية على سبيل المثال إلى 150 ألف دولار لكل انتهاك لحقوق الطبع والنشر.
كيف تحمي نفسك من تبعات قرصنة البرامج؟
تختلف آليات الحماية من الأفراد للشركات، فالأفراد يستوجب عليهم قراءة اتفاقية ترخيص المستخدم النهائي، لكل برنامج يتم شراؤه، التي توضح الشروط التي تحكم استخدام البرنامج، وعدد الأجهزة التي يمكن للفرد استخدام البرنامج عليها.
حرص الشركات والأفراد على اتباع سياسة برامجية تحدد كيفية استخدام البرامج، هو بداية خلق هذه الثقافة ورعاياتها تمهيدًحا للقضاء على القرصنة
توضح هذه الاتفاقيات الحالات المسموح بها لإنشاء نسخ احتياطية أم لا، كما تشرح له كيفية التأكد من شراء البرامج الأصلية من البائعين المعتمدين، والعلامات المصادقة والأختام التي تؤكد أن المنتج قادم بالفعل من الشركة المصنعة.
أما آليات حماية الشركات فإجراءات الحماية فيها مختلفة، حيث يجب على صاحب العمل التأكد من إدراك موظفيه للشروط والأحكام التي تنظم عمل البرامج، والتأكد من أمانتهم في استخدام نسخ أصلية وليست مقلدة، حرصًا على أمنه الشخصي أولًا ومعلوماته، وهي مميزات توفرها البرامج الأصلية.
حرص الشركات والأفراد على اتباع سياسة برامجية تحدد كيفية استخدام البرامج، هو بداية خلق هذه الثقافة ورعاياتها تمهيدًا للقضاء على القرصنة وتحصين المجتمعات ضد أخطارها، فإن كانت تفيد في بعض المواقف الأسر الفقيرة وغير القادرة على الدفع للبرامج الأصلية، فاستمرارها وتثمينها بشراء منتجاتها يولد أضرارًا أخرى لا حصر لها.