“ناس لها حظ وناس لها ترتر، افرجها يا كريم، ابسطها يا باسط، ويا أيتها السماء صُبي غضبك على الأغبياء”، عبارات وإفيهات ارتبطت في أذهان المشاهد المصري والعربي بالفنان الراحل عبد السلام النابلسي، أحد أباطرة الضحك في تاريخ السينما المصرية، الذي ترك بصمة فنية مميزة خلدت اسمه في سجلات عظماء الفن السابع.
قبل أيام قليلة مرت الذكرى الـ52 لرحيل “الكونت دي نابلوز” وهو اللقب الذي حمله النابلسي، فلسطيني الأصل، المولود في طرابلس بلبنان، الذي يتصدر قائمة أكثر الفنانيين خفة في الظل في مسيرة الكوميديا العربية، حتى بات علامة فارقة في شارع الفن من الصعب اكتشاف من يضاهيها ويملأ فراغها بعد وفاته رغم بساطة الأدوار التي كان يؤديها.
ورغم مشواره الطويل في رسم البسمة على وجوه مشاهديه وعشاقه من الأقطار العربية كافة، فإن حياته ملأى بالمحطات الصعبة التي زلزلت أركانه وهزت عرشه الفني والإنساني، حتى غادر الحياة في مشهد أدمى الكثيرين من المقربين منه، ليترك الساحة في صمت وهدوء بعدما ترك خلفه مسيرة فنية هائلة.
نشأة محافظة
وُلد النابلسي عام 1899 لأسرة فلسطينية محافظة، فهو امتداد لعلماء وفقهاء دين، فجده كان شيخًا للإسلام ولديه مكتبة ثرية في علوم الفقه، ووالده كان يعمل قاضيًا في مدينة نابلس، ومن ثم كان المقصود أن ينشأ عبد السلام على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالتحق بدار لتحفيظ القرآن الكريم، وبرع في العربية والفرنسية والإنجليزية كذلك.
حين بلغ العشرين أرسله والده للقاهرة للالتحاق بالأزهر الشريف، ليتعمق في دراسة المعارف الدينية ويبرع فيها كذلك، لكن رغم بلائه الحسن في هذا المجال، لم يجد نفسه فيه بالصورة التي كان يتمناها، ومن هنا بدأ رحلة البحث عن اكتشاف الذات، وكان الفن قبلته التي تمنى أن يقصدها.
كان الحلم الأبرز الذي يراود خيال النابلسي هو الوقوف على خشبة المسرح
لم يجد الشاب الأزهري صاحب الموهبة من يكتشفه مبكرًا، فأراد أن يدخل عالم السينما من خلال باب الصحافة الفنية، وذلك بعد تجربة مسرحية غير موفقة، فاخترق مجال الصحافة وعمل في أكثر من مجلة فنية، منها مصر الجديدة واللطائف المصورة والصباح، وكان عمره حينها 26 عامًا، ليضع قدمه على أبواب عالم الفن وإن كان عبر خطوات بعيدة نسبيًا.
تجربة مسرحية غير موفقة
كان الحلم الأبرز الذي يراود خيال النابلسي هو الوقوف على خشبة المسرح، حيث كان يرى في نفسه الموهبة التي ينقصها التجربة ومن ثم الاكتشاف، إلا أن أهله في فلسطين كانوا ينظرون إلى الفن كمهنة أقل من أن يعمل بها ابنهم، فكانوا يرون فيه مستقبلًا زاهرًا في مجال الدعوة والقضاء، ليواصل امتداد أجداده.
لكن بعد تفكير عميق استقر بالشاب المحافظ أن يخوض التجربة لتحقيق حلم حياته وليكن ما يكن، فالتحق بفرقة جورج أبيض وعزيز عيد، وهي الفرقة التي كانت تتمتع بشهرة وجماهيرية كبيرة في هذا الوقت، ومع تنامي خبر التحاقه بالمسرح لأسماع أسرته قررت منع الدعم عنه عقابًا له، ولإثنائه عن الطريق الذي اختاره لنفسه.
لم تدم تجربته مع جورج عزيز طويلًا بسبب خلافات في إستراتيجيات التمثيل والأدوار التي تمنح له والمقابل المادي، خاصة بعدما بات التمثيل مصدر الدخل الوحيد له بعد انقطاع الدعم الأسري، فقرر خوض تجربة أخرى عبر الالتحاق بـ”فرقة رمسيس” التي كان يقودها في ذلك الوقت الفنان يوسف وهبي.
ورغم موهبته التي فرضها على الجميع، فإن الموهبة وحدها لم تكن كافية لأن يحقق الفنان الشاب حلمه، فبعد أقل من شهرين فقط طرده وهبي من الفرقة بسبب تجاوزه للحوار والنص المطلوب أدائه على المسرح، وهي الخطوة التي أثرت في نفسيته بصورة كبيرة دفعته لأن يترك المسرح لتبدأ رحلة البحث عن السينما.
ملك الكوميديا السينمائية
ساعد العمل بالصحافة النابلسي في التقرب من القائمين على أمور السينما في هذا الوقت، فكان لقاؤه الأول بالمخرج أحمد جلال الذي آمن بموهبته وقدمه إلى المنتجة والفنانة “آسيا” التي أسندت إليه دور الشرير في فيلم “وخز الضمير” كتجربة أولى له عام 1929 وقد حققت نجاحًا كبيرًا جعلته قبلة للمنتجين.
نجاح فيلمه الأول ساعده في التعرف بعدد من رموز الفن منهم الأخوان لاما وتوجو مزراحي وغيرهم، كما خاض تجربة العمل كمساعد مخرج لكنها لم تدم طويلًا، فسرعان ما تفرغ للتمثيل بصورة نهائية عام 1947، ليقدم نفسه للجمهور بثياب مختلفة عن تجربته الأولى، حيث ظهر بدور الضاحك الكوميدي في فيلم “القناع الأحمر” لينطلق بعدها كرائد للكوميديا النظيفة.
قدم النابلسي عددًا من الأفلام غير الكوميدية منها “العزيمة” لكمال سليم 1939 و”ليلى بنت الريف” لتوجو مزراحي 1941 و”الطريق المستقيم” لنفس المخرج 1943 وغيرها، إلا أن بداياته كانت في أدوار الشاب ابن الذوات المستهتر الذي يتعامل مع الحياة بسخرية وعدم جدية، ورغم نجاح تلك الأدوار، فإنها لم تقدم إمكاناته الفنية كاملة.
ظل عازفًا عن الزواج حتى بلغ الستين من عمره، وذلك عندما وقع في حب إحدى معجباته جورجيت سبات
في 1955 كان الظهور الأول له مع عبد الحليم حافظ من خلال فيلم “ليالي الحب” لينطلق في ماراثون الكوميديا بعد ذلك من خلال العديد من الأعمال الأخرى منها “ليالي الحب” ثم “فتى أحلامي” 1957 و”شارع الحب” 1958 و”حكاية حب” 1959 و”يوم من عمري” 1961.
لعب الفنان الفلسطيني أدوار “السنيد” في معظم أعماله الأولى، فلم يظهر في دور البطل، ومع ذلك حقق نجاحات مبهرة، إلا أن أول بطولة له كانت في فيلم “حلاق السيدات” أما آخر أفلامه مع فريد الأطرش فكان في العام 1956 و”إزاي أنساك”، هذا بخلاف أعمال أخرى أمام كبار الفنانيين مثل فاتن حمامة وعمر الشريف في “أرض السلام” عام 1957.
خاض كذلك تجربة ثرية مع الفنان الكوميدي إسماعيل ياسين الذي تقاسم معه بطولة العديد من الأفلام، أبرزها “إسماعيل يس في البوليس الحربي” وكان من المفترض أن يقدم فيلمه السادس مع العندليب “معبودة الجماهير” بجانب الفنانة شادية، إلا أن هروبه من مصر حال دون ذلك، ليؤدي الفنان فؤاد المهندس الدور ذاته.
لُقب الفنان عبد السلام النابلسي بـ”أشهر عازب في الوسط الفني”، إذ ظل عازفًا عن الزواج حتى بلغ الستين من عمره، وذلك عندما وقع في حب إحدى معجباته “جورجيت سبات” وحين أراد الزواج منها رفض أهلها تلك العلاقة، إلا أنهما أصرا على الزواج دون علم الأسرة التي دخلت في نزاع طويل معه أسفر في النهاية عن إرغامه على طلاقها قبل أن تحكم المحكمة برفض هذا الطلاق، معلنة صحة الزواج، ليتم الصلح بينهما فيما بعد.
الهروب من مصر
تفاقمت مشكلة الفنان الفلسطيني مع هيئة الضرائب المصرية التي اتهمته بالتقاعس عن أداء ما عليه من رسوم والتزامات ضريبية لا سيما بعدما وصل المبلغ المستحق عليه 13 ألف جنيه مصري، وهو رقم كبير في ذلك الوقت، وحاول النابلسي كثيرًا من أجل تخفيض المبلغ، فيما كان يرسل مبلغا شهريًا 20 جنيهًا لهيئة الضرائب كجزء من المستحق عليه.
غير أن المصلحة اعتبرت أن المبلغ المرسل شهريًا دليل كبير على عدم جديته في السداد خاصة أنه وفي هذه الوضعية (20 جنيهًا شهريًا) فإنه بحاجة إلى 37 عامًا لسداد ما عليه، ومن هنا وصلت المحاولات بين الطرفين إلى طريق مسدود، الأمر الذي دفعه للتفكير في الهروب خارج مصر.
وبينما هو في مأزقه هذا تلقى اتصالًا هاتفيًا من صديقه الفنان المخرج محمد سلمان يطلب منه السفر إلى بيروت لتصوير فيلم هناك، وكان ذلك عام 1963، وعلى الفور سافر عبد السلام دون أي تردد، وعقب وصوله وانتهائه من الفيلم، نصحه سلمان بالبقاء في لبنان تجنبًا للتعرض للسجن حال عودته إلى مصر بسبب القضايا المحتمل أن ترفعها عليه هيئة الضرائب، فاستمع إلى نصيحته واستقر في بيروت.
رواية أخرى ساقها البعض بشأن قصة هروب النابلسي من مصر، حيث أشارت إلى أن نية عدم العودة كانت مبيتة لديه، والدليل على ذلك – بحسب تلك الرواية – أنه نجح في تهريب ما تبقى من ثروته من مصر خلال سفره للبنان، داخل دمية دب كبير لابنة صديقه محمد سلمان، وقد عبر بها من المطار دون أن يكشفه أحد.
ورغم الحياة المرفهة التي عاشها في لبنان، فإن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فالبنك الذي أودع فيه الفنان كل ثروته “إنترا” في بيروت، أعلن إفلاسه، ما يعني أن أمواله ضاعت عليه، وهو ما أثر على نفسيته بصورة كبيرة، انعكست على حالته الصحية حيث بدأ يعاني من آلام بالمعدة كان يسمع لها صوتًا من شدتها بحسب شهادة بعض الفنانيين ومنهم الفنانة صباح.
أدواره الجميلة ما زالت خالدة في ذاكرة السينما وجمهورها، كما ظلت عباراته الشهيرة وإفيهاته المضحكة حاضرة وبقوة يتداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي
نهاية باكية
كان إمبراطور الضحك العربي يشعر بدنو أجله، فكان يضع مفتاح غرفته أمام الباب، خشية أن يموت بداخلها دون أن يعرف أحد كيف يفتح عليه الغرفة، وبينما هو كذلك كانت هيئة الضرائب في مصر تمارس صلاحياتها في فرض العقوبات عليه، فحجزت على أثاث شقته المستأجرة في الزمالك بعد سفره للبنان بثلاث سنوات تقريبًا، وذلك رغم تدخل بعض عمالقة الفن وعلى رأسهم كوكب الشرق أم كلثوم.
وفي حوار تليفزيوني لها، روت أرملته السيدة جورجيت، تفاصيل وفاة زوجها، لافتة إلى أنه لم يكن باستطاعته العودة إلى مصر – بسبب الضرائب التي هددته بالسجن حال عودته – رغم حنينه الدائم إليها، وهي الأزمة التي أخفاها عن صديق عمره عبد الحليم حافظ، الأمر الذي تسبب في حزن كثير من المقربين له بعد رحيله.
وبينما كان يصور فيلمًا في تونس بمشاركة صباح وفريد شوقي، شعر النابلسي بتعب شديد، إلا أنه تحامل على نفسه حتى أكمل التصوير ثم عاد إلى بيروت مرة أخرى لكنه لم يكمل الـ15 يومًا حتى غادر الحياة في 5 من يوليو 1968 بعدما تملك المرض من جسده المجهد بطبيعة الحال، وهو ما كان بمثابة الصدمة للمقربين منه.
وهنا تضاربت الأقاويل بشأن كلفة جنازته، فالراحل لم يكن لديه من المال ما يكفي لتحمل نفقة الجنازة، ليتحملها صديقه فريد الأطرش، إلا أن أرملته أشارت إلى أن النابلسي كان لديه حساب بنكي لكنها لم تستطع التصرف فيه بعد وفاته مباشرة، الأمر الذي دفع أصدقاءه لتحمل مصايف الجنازة.
لم تكن الوفاة بسبب أمراض المعدة كما كان معتقدًا قبل ذلك وهو ما كشفته صديقته الفنانة زمردة التي كشفت بعد وفاته بأيام قليلة أنه كان يعاني من أمراض القلب منذ 10 سنوات، وأنه إخفاءه هذا السر كان متعمدًا حتى عن أقرب الناس لديه، حتى لا يتهرب منه المخرجون والمنتجون ويبعدوه عن أفلامهم.
ورغم مرور52 عامًا على رحيل الضاحك الباكي، عبد السلام النابلسي، فإن أدواره الجميلة ما زالت خالدة في ذاكرة السينما وجمهورها، كما ظلت عباراته الشهيرة وإفيهاته المضحكة حاضرة وبقوة يتداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي ممن يرون فيه قيثارة الضحك التي لن تتوقف عن العزف مهما مرت السنين، ومهما تبادل عليها عشرات الفنانيين.