في المقعد الخلفي على يسار وزير الدفاع – آنذاك – عبد الفتاح السيسي، كان يجلس جلال مُرة، أمين عام حزب “النور” السلفي، أثناء إلقاء بيان انقلاب 3 يوليو 2013، هذا في الوقت الذي يعتصم المئات من حلفاء السلفيين القدامى في ميداني”رابعة” و”النهضة”.
المشهد حينها كان يوحي بأن الحزب السلفي اختار طريقه بصورة واضحة، معلنًا بشكل رسمي تخليه عن شركاءه والبحث عن موطئ قدم في الخارطة السياسية الجديدة التي كان يحلم فيها بأن يحل مكان الإخوان سياسيًا ودعويًا، بعدما تم الإجهاز عليهم بصورة شبه كاملة.
أحلام النفوذ والتفرد بالنصيب الأكبر من الكعكة راودت أنصار ومؤيدي الحزب الوليد الذي خرج من رحم ثورة يناير المجيدة، وبات الصوت يرتفع رويدًا رويدًا على أنغام المستقبل السياسي المشرق، لكن بعد مرورة أقل من 3 أعوام على هذا المشهد تكشف أن وجودهم في الحياة السياسية ليس سوى “ديكور” لإكمال أضلاع المثلث، او بالأحرى كان دورهم أشبه بـ “المحلل” لتمرير الانقلاب على أول حكم مدني في تاريخ الدولة المصرية.
منذ الوهلة الأولى لنشأته السياسية عزف حزب “النور” على أوتار الوسطية أو بالمعنى السياسي “الرمادية” فهو ليس بالحزب المعارض ولا المؤيد بحسب أقوال قادته، كما أنه يصنف نفسه إسلاميًا ولا دينيًا، لكن الأحداث التي تلت 2013 كشفت النقاب عن الكثير من الحقائق التي تنافي الشعارات التي يرفعها الحزب.
كان الدعم المطلق لنظام مابعد الثالث من يوليو هو استراتيجية الحزب الجديدة التي تبناها طواعية، فدعم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ولايتين متتاليتين، كما كان من أشد المقاتلين لحث الناس على التصويت بـ “نعم” في استفتاءين على الدستور، ليواصل ممثل التيار السلفي في مصر سلسلة تنازلاته المقدمة من أجل المكاسب السياسية.
وكما يوجد “سنمار” في الأساطير القديمة، ففي السياسة كذلك “سنمارات” كثر، لهم نفس الجزاء مهما قدموا، إذ يواجه الحزب هجومًا شرسًا للمطالبة بحله وإقصاءه عن الحياة السياسية برمتها خلال المرحلة القادمة، بوصفه الحزب الديني الوحيد الموجود على الساحة السياسية بعد حل حزب “الحرية والعدالة” والنظر فى حل “البناء والتنمية” وذلك رغم ما قدمه من تنازلات ودعم لنظام الجنرالات في مواجهة الدولة المدنية.
برغماتية مستمرة
في دراستة المنشورة على موقع مركز كارنيغي للشرق الأوسط و التي عنون لها بـ “السلفيون البراغماتيون” يقول الباحث الفرنسي في الحركات الإسلامية ستيفان لاكروا إن حزب النور السلفي يوفّر “نموذجاً نادراً لحزب هو في آن شديد البراغماتية في مواقفه السياسية ومتشدّد للغاية في آرائه الدينية”.
الدراسة المنشورة في 2016 تكشف كيف اتخذ الحزب على الدوام مقاربة براغماتية للعمل السياسي، وإن تبدّلت أسبابها ودوافعها مع مرور الزمن تبعاً لطبيعة قيادته، فالبداية كانت خلال عامي 2011/2012 حيث كانت براغماتية النور متشابهة بصورة شبه متطابقة مع بقية الأحزاب الإسلاية الأخرى.
وفي هذه الفترة رأى الحزب الذي يريد أن يتحول إلى قوة سياسية مؤثرة بضرورة التكيف مع قواعد اللعبة السياسية وان يُعدّل مواقفه، عبر تلوين بعض مبادئه العقدية أو تنحيتها جانباً، فتبنى منذ 2013 مُقاربة تبريرية بحتة في السياسة، استهدفت الدفاع عن مصالح الدعوة عبر تقديم حزمة من التنازلات وذلك وفق القاعدة الشرعية “الضرورات تبيح المحظورات”.
بعض المقربين من دوائر صنع القرار أشاروا إلى أن هناك توجه سائد لدى السلطات المصرية نحو إنهاء أي حضور حزبي للتيارات الدينية رسميًا، بدعوى إقامتها على أساس ديني بما يخالف الدستور
وبعد سيطرة الجيش على الحكم في يوليو/تموز 2013 تغيرت براغماتية الحزب للميل نحو تأييد الجنرالات بدافع الحفاظ على مصالح الدولة العليا وإن كان ما خفي يذهب إلى البحث عن مكاسب سياسية أكبر بعدما تذوق قادة الحزب طعم النفوذ بعد ثورة يناير.
وتتجلى تلك البرغمانية في المرونة السياسية التي بات عليها الحزب منذ تأسيسه، فمن تحريم ولاية المرأة والمسيحيين، إلى القبول بمشاركتهم على قوائمه الانتخابية استنادًا إلى ذات القاعدة الشرعية السابقة، وقد تعزز هذا الموقف أكثر مع الاستحقاقات الدستورية والانتخابية اللاحقة.
نجل السيسي وملف الانتخابات
الحديث عن تولي نجل الرئيس، القيادي في جهاز المخابرات العامة، محمود السيسي، ملف الإشراف على الانتخابات البرلمانية بغرفتيها، النواب والشيوخ، ربما يضع مستقبل السلفيين على المحك، في ظل ما يثار بشأن مساعي لإقصاء أي تيارات دينية عن الساحة السياسية.
الاجتماعات التي عقدها نجل السيسي مؤخرًا مع مسئولي جهاز الأمن الوطني لمباشرة الأسماء المرشحة للانتخابات القادمة كشفت عن نوايا مبيتة لتقليص عدد المقاعد المخصصة للمنتمين للتيار الديني السلفي، خاصة بعد تصاعد مطالب تقليص نفوذهم من قبل التيارات اليسارية الأخرى.
حالة من التخوف تنتاب البعض من تسرب أسماء مثيرة للجدل داخل البرلمان القادم كما هو في البرلمان الحالي، الأمر الذي فرض العديد من القيود على الأسماء المرشحة في محاولة لسد الطريق تمامًا أمام كافة التيارات المعارضة بشتى فئاتها.
بعد 7 سنوات كاملة من الدعم الكامل للنظام الجنرالي وما ترتب على ذلك من تنازلات ضرب بها الحزب مرتكزاته الأساسية التي قام عليها، آملا في مكافأته على دوره بترسيخ حضوره السياسي، هاهو يواجه شبح الإقصاء
وعليه يذهب البعض أن المعارضة المتوقع تدشينها داخل مجلسي النواب والشيوخ ستكون معارضة مصنوعة على عين النظام، ملتزمة بخط عريض تضع ملامحه وحدوده السلطات الأمنية، وعليه لا يمكن الخروج عنه أيا كانت الدوافع والمبررات.
يذكر أن حزب “مستقبل وطن” التابع لجهاز المخابرات العامة هو من يقود المشاورات مع بقية الأحزاب الأخرى للتنسيق على الأسماء المرشحة لعضوية البرلمان، حيث دعا عدد من الأحزاب التي تمثل ألوان الطيف السياسي المصري، باستثناء حزب النور وهو ما اعتبره محللون إقصار رسمي للحزب والتيار الذي يمثله.
إقصاء شبه نهائي
تصاعدت في الأونة الأخيرة المطالب التي تناشد بإقصاء الحزب بصورة رسمية من خلال حله من قبل لجنة شئون الأحزاب التابعة للبرلمان، وهو ما أكدت عليه مدير المركز المصرى للدراسات الديمقراطية الحرة، داليا زيادة، بقولها إن “هناك ضرورة لاتخاذ موقف حاسم من الأحزاب الدينية، التى ما زالت قائمة وتعمل دون أى تدخل من الدولة”، مطالبة لجنة شئون الأحزاب بوقف عمل تلك الأحزاب وشطبها لأن وجودها غير دستورى وغير قانونى، على حد قولها.
بعض المقربين من دوائر صنع القرار أشاروا إلى أن هناك توجه سائد لدى السلطات المصرية نحو إنهاء أي حضور حزبي للتيارات الدينية رسميًا، بدعوى إقامتها على أساس ديني بما يخالف الدستور، حتى لو كانت موالية للنظام الحاكم، وأن يقتصر ظهورها من خلال أشكال أخرى غير رسمية كجميعات ودور دعوية تحت الرقابة. بعيدًا عن السياسة.
هذه المصادر كشفت أنه قد يسمح للتيار السلفي بعدد قليل من المقاعد البرلمانية من باب التواجد الإعلامي لا أكثر، أما على أرض الواقع فلا مجال لحضورهم أو ممارسة أنشطة سياسية، لافتة إلى أنه قد تم الاتفاق على هذه الألية مع بعض قيادات الحزب.
ومنذ يناير الماضي، عقدت العديد من الأحزاب، ذوي الانتماءات السياسية المختلفة، اجتماعات دورية بشأن مناقشة ملف الانتخابات البرلمانية، بمعزل تام عن حزب النور، حيث بدأت الجلسة الأولى لحوار الأحزاب بـ4 أحزاب سياسية هي (الإصلاح والتنمية – مستقبل وطن – المصري الديمقراطي – حزب العدل) ثم توسعت فيما بعد لتشمل 7 أحزاب أخرى، وصولا إلى أخر اجتماع مؤخرًا بـ 10 أحزاب.
رئيس حزب “النور”، يونس مخيون، استنكر عدم دعوته لحضور هذا اللقاء قائلا : “للأسف هذه الأحزاب تمارس الإقصاء بعدما كانت تتخوف وتشتكي منه إبان فترة حكم الإخوان (2012/2013)”، مطالبًا تلك الأحزاب بالتوقف عن تلك السياسات الإقصائية، والتعامل وفق قواعد المشهد السياسي التي تقتضي قبول الجميع طالما أننا في دولة يحكمها القانون.
وبعد 7 سنوات كاملة من الدعم الكامل للنظام الجنرالي وما ترتب على ذلك من تنازلات ضرب بها الحزب مرتكزاته الأساسية التي قام عليها، آملا في مكافأته على دوره بترسيخ حضوره السياسي، هاهو يواجه شبح الإقصاء ليجد نفسه وحيدًا وتائهًا وسط المشهد، لا هو محسوب على المعارضة التي تكتسب احتراما شعبيًا ولو ضئيلا ولا هو من المؤيدين المشاركين في التنعم بالمكاسب السياسية التي حصلوا عليها بعد الإطاحة بأول نظام مدني منتخب في تاريخ البلاد.