على الخريطة العالمية لتخصصات زراعة الأعضاء، أصبحت تركيا اليوم، بجانب كوريا الجنوبية، تتربع على مواقع الريادة كخيار أول لعمليات زراعة الأعضاء بأسعار معقولة منافسة لأوروبا والولايات المتحدة، فسنويًا تُجرى أكثر من 1500 عملية زرع عضو بأكثر من 40 مركزًا متخصصًا بزراعة الأعضاء بمختلف مدن تركيا.
غالبية هذه العمليات الدقيقة والمعقدة، التي تشكل مسألة موت أو حياة لملايين الناس، كانت لمرضى استفادوا من أعضاء متبرعين أحياء، أي نحو 80% مقابل 20% لمرضى حصلوا على أعضاء من جثث موتى.
إذًا ما سر هذه الريادة في مختلف تخصصات زراعة الأعضاء كزراعة الكبد والكلي ونخاع العظم والرئتين والبنكرياس والعظام وقرنية العين بالمقارنة مع أوروبا والولايات المتحدة؟
تميز بزراعة الأعضاء من متبرع حي لمريض
“من العوامل المفسرة لتميز تركيا في هذا المجال أن غالبية عمليات الزرع تتم بين الأحياء نظرًا لكون ثقافة التبرع بالأعضاء من جثت الموتى غير متطورة عبر العالم. هذه الوضعية ساهمت بتطوير فرق طبية متخصصة ذات مستوى عالٍ للتغلب على إكراهات وصعوبات نقل الأعضاء من متبرع حي إلى مريض”، يؤكد الدكتور كوراي أجارلي، أشهر الاختصاصيين الأتراك في هذا المجال منذ تسعينيات القرن الماضي.
مبدئيًا، في حالة عدم توافر متبرع حي، يضطر المرضى للتسجيل بلوائح الانتظار المتعلقة بأعضاء جثث الموتى، التسجيل يؤدي إلى الانتظار سنوات لدرجة موت المريض -أحيانًا- قبل وصول دوره باللائحة نظرًا لقلة عدد المتبرعين بأعضائهم بعد الموت، في تركيا الآن، لائحة الانتظار للاستفادة من التبرع بأعضاء شخص ميت تصل إلى 30000 مريض.
السياسة الحكومية للتغطية الصحية شكلت كذلك دعمًا قويًا لتطوير خدمات زراعة الأعضاء، حيث تصل نسبة التغطية الصحية للضمان الاجتماعي لعمليات زراعة الكبد -مثلًا- إلى 100%
فلاعتبارات دينية وأخلاقية بالعديد من الدول، ومنها الإسلامية، هناك ندرة توافر للمتبرعين بأعضائهم في حالة الوفاة. هذه الإشكالية شجعت المنظومة الصحية بتركيا منذ سنة 1990 على استشراف فرص التبرع بين الأحياء، وبعد 30 عامًا أصبحت اليوم تركيا وجهة عالمية رائدة لزراعة الأعضاء في هذا المجال.
قانونيًا، يشترط أن يكون الشخص المانح من أقرباء المريض حتى الدرجة الرابعة (الوالدين، الأبناء، الأخوة، والأعمام والأخوال) لضمان درجة التوافق بالوحدات الوراثية والتطابق النسيجي بين المتبرع والمريض مستقبل العضو، كذلك، يجب التأكد من أن المتبرع سليم الجسم وليس هناك أي خطر على حياته مع التأكد أنه يتبرع عن اقتناع وبصورة عفوية دون أي ضغط اجتماعي أو إغراء مادي.
تحرير القطاع الطبي.. قوة التغطية الصحية وعودة الأدمغة الطبية إلى تركيا
“يجب الأخذ بعين الاعتبار عامل تحرير القطاع الصحي منذ تسعينيات القرن الماضي. فتحرير السوق مكن من ازدياد وتيرة الاستثمارات العمومية والخاصة على مستوى المراكز والمدن الطبية وكذا الجامعات لتوفير رأسمال البشري المتخصص في المجال الطبي”، يشير بتفاؤل، حاجم شاركلي مدير التسويق الدولي للسياحة العلاجية بإحدى أكبر المجموعات الطبية الخاصة بتركيا، التي تجري سنويًا أكثر من 700 عملية زراعة أعضاء.
ارتفاع وتيرة الاستثمارات الخاصة والدولية، مكنت من توفير بيئة متميزة وبنية تكنولوجية للأطباء خاصة في التخصصات الدقيقة والمعقدة كزراعة الأعضاء التي تتطلب فرق عمل متعددة الاختصاصات وآليات تقنية معقدة لإجراء عمليات الزرع ومتابعة آثارها سواء على المريض أم المتبرع.
بفضل هذه الظروف المواتية، أصبحت نسبة نجاح عمليات زراعة الكبد تصل إلى 99% و93% بالنسبة لزراعة الكلى وذلك فيما يخص عمليات الزرع من متبرع حي إلى مريض.
السياسة الحكومية للتغطية الصحية شكلت كذلك دعمًا قويًا لتطوير خدمات زراعة الأعضاء، حيث تصل نسبة التغطية الصحية للضمان الاجتماعي لعمليات زراعة الكبد، مثلًا، إلى 100%، هذا بالإضافة لتوافر تغطيات صحية للقطاع الخاص تتحمل كذلك جزءًا مهمًا من مصاريف هذا النوع من العمليات الباهظة التكلفة.
للإشارة، تبلغ تكلفة عملية زراعة الأعضاء بالنسبة للأجانب، نحو 65000 دولار لزراعة الكبد و25000 دولار بالنسبة لعملية زراعة الكلي، وهو مبلغ مكلف طبعًا، لكن يمكن أن يغير حياة آلاف المرضى مثل الذين يعانون من فشل كلوي يجبرهم على الجوء بشكل منتظم ومدى الحياة لمراكز غسيل الكلى.
“عامل عودة الأدمغة التركية من الخارج إلى تركيا، خاصة الولايات المتحدة وألمانيا، مكن وساعد على تكوين نواة أطباء مختصين عالميين قادرين على إجراء هذا النوع من العمليات المعقدة والدقيقة في مستشفيات عمومية وخاصة تتوافر على أحدث التقنيات الطبية”، يضيف حاجم شاركلي.
مستقبل زراعة الأعضاء.. الأعضاء الاصطناعية وجراحة الروبوت
تجدر الإشارة إلى أن تخصصات زراعة الأعضاء تعرف طفرات تقنية وطبية متنوعة وبشكل متسارع، “الاتجاهات المستقبلية الواعدة في مجال زراعة الأعضاء تتجه إلى تطوير زراعة الأعضاء الاصطناعية للمرضى، فسيصبح يومًا ما أمرًا واقعيًا اللجوء المتزايد إلى الجراحة باعتماد تقنيات الروبوت Robotics من أجل مزيد من الدقة والسرعة”، يبشر بثقة، الدكتور كوراي أجارلي.
ما بعد كورونا، تركيا تراهن بقوة للاستفادة من هذه الريادة لقطاع الصحة لتشجيع السياحة العلاجية، حيث استقبلت أكثر من 550 ألف شخص لأغراض علاجية بمختلف التخصصات سنة 2018 وتراهن على تحقيق رقم معاملات بقيمة 20 مليار دولار بحلول عام 2023.
بغض النظر عن هذه الآفاق الواعدة طبيًا وتكنولوجيًا، يبقى الرهان هو كيف يمكن نشر الثقة بثقافة التبرع، فرؤية طفل أو امرأة أو رجل يستعيد صحته بعد أن كان على حافة الموت بفضل عملية زرع عضو تعتبر من العوامل المشجعة من أجل التسجيل بقاعدة بيانات التبرع بالأعضاء بمختلف دول العالم.