لم يستدع الخيال السياسي والاجتماعي في لبنان ذاكرة الحرب الأهلية التي استمرت منذ عام 1975 وحتى 1990 أكثر من هذه الأيام، وإن كانت الأزمة أضافت ما هو جديد على مشاهد الطوابير التي تملأ الشوارع ويتقاتل أفرادها للحصول على مستلزمات الحياة، وهو تبخر الدولار من أسواق النقد، بسبب سعار الطلب عليه وتلاعب محال الصيرفة بأسعاره بالمخالفة لما حدده مصرف لبنان، الأمر الذي انعكس فورًا على تصاعد الكارثة الاقتصادية في البلاد.
أين الدولار؟
يزداد اقتصاد لبنان سوءًا بشكل مطرد، فسعر الدولار الأمريكي ارتفع للغاية أمام الليرة اللبنانية، والدولار الواحد أصبح يعادل 1512.8 ليرة بحسب الأسعار الرسمية الأخيرة، لكنه في السوق السوداء ارتفع بشكل متوحش ليصل إلى حدود 9 آلاف ليرة.
كانت الأزمة الاقتصادية التي واكبت الاحتجاجات المدنية اعتراضًا على الوضع السياسي القائم قد استدعت بحسب رؤية المسؤولين اتخاذ بعض القرارات المركزية مثل إغلاق بعض البنوك وحظر وصول المودعين إلى أموالهم ووضع قيود شديدة على عمليات السحب وخاصة على حسابات الدولار.
حددت بعض البنوك نحو 600 دولار أمريكي في الشهر، لكن هذه التقديرات لم ترحم البلاد من النزيف الحاد في العملة الأجنبية، لتضع السلطات الاقتصادية المزيد من القيود الشديدة على الحسابات اعتبارًا من مارس الماضي، حيث لم يعد مسموحًا لأحد إنفاق أكثر من 15 دولارًا شهريًا للمعاملات الدولية.
القيود الحكومية التي تهدف للحفاظ على الاحتياطي من العملة الأجنبية، وإن كانت مبرراتها تبدو موضوعية، لكنها تسببت في المزيد من الانفلات الذي ترتب على ذلك، فأضربت محطات الوقود بسبب عدم قدرتها على شراء الوقود بأسعار رسمية، وكذلك أصحاب المطاحن خاصة غير القادرين منهم على تحمل الأزمة، الذين توقفوا عن العمل بسبب انخفاض الإمدادات في البلاد إلى مستويات خطيرة.
الأزمة لم تقتصر على خطوط الإمداد الرئيسية لمختلف مجالات الحياة، بل انتقلت إلى عموم المواطنين، بعدما دفع الانهيار المالي للدولة اللبنانيين إلى البحث المحموم عن الدولار مع تبخر قيمة عملتهم المحلية، وأصبح الحصول على العملة الصعبة الثمينة هو الشغل الشاغل للجميع حتى لو جرى ذلك بالبحث عن استغلال أي ثغرات ممكنة.
رحلة البحث عن الدولار
أصبح من المعتاد أن يتم التفاوض على كل معاملة للدفع بالدولار، بداية من متاجر السلع مرورًا برسوم الطبيب وإيجارات المساكن والمحلات، وكل ذلك لتفادي التعامل بالليرة اللبنانية التي تتراجع قيمتها يومًا بعد الآخر، فضلًا عن أسعار الصرف المتعددة والمتغيرة للدولار.
يمكن القول إن ما يحدث الآن جديد تمامًا على الساحة اللبنانية والوعي الجمعي اللبناني، فرغم كم الصعوبات والتوترات والضغوط التي ولدتها التوترات السياسية والحروب على مدار تاريخ البلاد الحديث، من حرب أهلية إلى صراع مسلح مع “إسرائيل”، وتداعيات ذلك على انتشار الطوابير الطويلة للحصول على المياه والخبز وباقي السلع الاستهلاكية، لكن لبنان كان دائمًا مليئًا بالدولار.
ضاعفت أزمة فيروس كورونا من تبخر العملة الخضراء في السوق اللبنانية، لا سيما بعد قرار الحكومة بوقف الرحلات الجوية مما حدّ من قدرة البلاد على نقل النقد إلى لبنان، تنفيذًا لحالة التعبئة العامة التي أُعلنت لمواجهة تفشي الفيروس.
هذا المشهد المضطرب بسبب كورونا، ولدّ حيلًا جديدةً للإبقاء على أكبر قدر من ممكن الدولار داخل البلاد، حيث استفادت البنوك من قرار حظر الطيران واعتبرته فرصة ذهبية لتقرر وقف دفع الدولارات للموظفين الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار، وأولئك الذين تُحوَّل رواتبهم من الخارج، خاصة أن شحن الدولار يتم بطريقة مختلفة تمامًا، ويحمل في صناديق فولاذية توضع داخل طائرات شحن الأموال، ويتم تفريغها في مكان خاص بالمطار.
عرضت البنوك على أصحاب الحسابات الخضراء الحصول على قيمة الدولار بالسعر الرسمي بالليرة، ما يفقد مدخراتهم نحو نصف قيمتها، والغالبية وافقوا بالفعل حتى يستطيعوا تدبير مستلزمات المعيشة داخل لبنان في هذه الظروف الصعبة.
ورغم هذه التدابير الاستثنائية من المسؤولين في لبنان للسيطرة على أزمة الدولار في ظل أوضاع غير مسبوقة، فإن هناك حالةً من الحنق السياسي على طريقة إدارة الأزمة، وكان أكثر المنتقدين لها، رئيس الحكومة اللبنانية السابق وزعيم تيار المستقبل سعد الحريري.
يرفض الحريري طريقة معالجة المشاكل الاقتصادية والمالية التي يشهدها لبنان، ويتهم الحكومة بافتقاد أدنى الأساليب العلمية الواجب اتباعها للخروج من النفق المظلم الذي تمر به البلاد، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، ويعتبرها محاولة لضرب الاقتصاد الحر، وهي سياسة ثبت فشلها على حد قوله.
يتجاهل الحريري حالة الشلل والجمود التي تضرب جميع القطاعات والمؤسسات، وأطاحت به هو شخصيًا من منصبه، وجعلته منبوذًا من القوى السياسية المختلفة بعد أن كان تقريبًا العلامة الكاملة والحل الوحيد للخروج من عنق الأزمات السياسية المختلفة، ويؤكد ضرورة دعم مختلف القطاعات الإنتاجية في لبنان، حتى تتمكن من الاستمرار في توفير الوظائف وفرص العمل لآلاف العمال والموظفين.
لكن ما يقوله زعيم تيار المستقبل يتفق معه نقولا شماس، رئيس جمعية تجار بيروت، الذي هاجم هو الآخر الإجراءات الحكومية المتبعة التي أجبرت ما يقرب من 25% من المؤسسات التجارية على إغلاق أبوابها خلال الأشهر الست الأخيرة فقط.
يكشف نقولا أن تقديراتهم المستقلة تؤكد أن نسبة مماثلة من المؤسسات ستغلق أبوابها قبل نهاية العام الحاليّ، مما يعني استمرار الانهيار المالي والاقتصادي الذي يتعرض له لبنان، لافتًا إلى أن التجار في حيرة من أمرهم.
يضيف رئيس جمعية تجار بيروت “إذا أغلقوا منشآتهم بناءً على قرارت الحكومة ضاعت جهودهم في بناء مؤسساتهم، وإذا استمروا فالخسارة ستكون مفتوحة لا سيما أن سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية يشكل معضلة قاتلة للقطاع التجاري، الذي يعتبر أكبر ضحايا عمليات التلاعب بسعر صرف الدولار وعدم استقراره”.
يدعم أيضًا “الحريرية الاقتصادية” وتصوراتها للخروج من الأزمة العديد من الخبراء، على رأسهم الخبير الاقتصادي طلال أبو غزالة الذي يصف معالجة الأزمة بالخطأ الفادح، مطالبًا برفع القيود التي تفرض على الودائع المصرفية بشكل مباشر كأحد الإجراءات لتجاوز الكارثة.
يكشف أبو غزالة واحدة من مآسي لبنان، ويلخصها في سياسة الحكومات السابقة التي اعتمدت على الاقتراض من المصارف المحلية لسد العجز، بدلًا من تشجيع الاقتصاد وزيادة الناتج المحلي، ويؤكد أن مشكلة لبنان الحقيقية تتقاسمها المؤسسات الثلاثة المسؤولة عن السياسات النقدية والمالية والاقتصادية، وهي الحكومة ومصرف لبنان ـ البنك المركزي ـ والمصارف.
يرفض الخبير الاقتصادي فرض أي قيود على الودائع المصرفية، فهذه الطريقة في إدارة “اقتصاد حر” تفتقد أولًا للشرعية القانونية، فضلًا عن الرؤية العلمية اللازمة للتعامل مع الأزمة.
كيف يتوافر الدولار من جديد؟
بالمعطيات التي ذكرناها لا يبدو أن هناك حلًا داخليًا للأزمة يلوح في الأفق، خاصة مع استمرار الصراع والتجاذبات بين الصقور السياسية في البلاد، وبالتالي مهما حاولت الجهات التنفيذية واتخذت المزيد من الإجراءات الاستثنائية واتبعت أسوب المسكنات، ستظل الأزمة تغلي تحت الرماد طالما غاب التوافق والإرادة السياسية.
ما يؤكد ذلك فشل كل الحلول التي اقترحتها البنوك، على رأسها بيع أصول للدولة بقيمة 40 مليار دولار حتى تتمكن الحكومة من سداد ما تدين به وذلك لأسباب عدة أهمها استمرار رياض سلامة محافظ البنك المركزي في مكانه منذ عقود.
ويتهم سلامة من بعض القوى السياسية والخبراء والقيادات الشعبية في الشارع الثائر، بإفقار المزيد من اللبنانيين بسياساته التي يطبقها مباشرة دون حسيب أو رقيب، لا سيما أن الحكومة بالفعل لا يمكنها محاسبته أو مراجعة سياساته بحكم الأعراف السائدة التي تشكل البيئة السياسية للسلطة في البلاد.
ولهذا لم ينجح لبنان رغم بذله مجهودات ضخة في محادثاته مع صندوق النقد الدولي، لإقناعه بتمويل خطة إنقاذ بقيمة 10 مليارات دولار لإصلاح اقتصاده، بعد أن فقدت عملته المحلية ما يقارب 80% من قيمتها في السوق السوداء.
وتقدر خطة الإنقاذ الخسائر التي تكبدها البنك المركزي والمقترضون المحليون بنحو 241 تريليون ليرة لبنانية – 69 مليار دولار -، غير أن صندوق النقد الدولي يرى هو الآخر أن الأزمة أكبر من مجرد الاقتراض في بلد أوضاعه الاقتصادية أصبحت “تفطر القلب” بحسب تعبير مديرة الصندوق كريستالينا جورجيفا.
رؤية الصندوق للخلل الكبير في كيفية إدارة الأزمة، كان أحد أهم أسباب تجميد محادثاته مع لبنان سواء بسبب عدم اتفاق القوى السياسية على بدء الإصلاحات الاقتصادية أم للزيادات المستمرة في الخسائر الاقتصادية.
يتوجب على لبنان الوصول إلى توافق للبدء فورًا في تحديد الخسائر وحجمها بكل القطاعات والخروج بمقاربة موحدة متّفق عليها مع القوى السياسية كافة وبالتنسيق بين الحكومة ومجلس النواب، للعودة للمباحثات مع الصندوق، حتى يمكنه تدبير مساعدة البلاد على معالجة أزمتها المالية.
البلد الذي كان يعرف قبل سنوات بـ”سويسرا الشرق” يواجه تحديًا غير مسبوق في تاريخه حتى لا ينتهى إلى فقر مدقع، ولن يتحرك خطوة واحدة للأمام للإفلات من أزمة الدولار وغيرها من الأزمات الطاحنة إلا بتوقيع اتفاق بين طبقة سياسية تشكلت وفق أسس طائفية وعائلية جعلته دائمًا أبعد ما يكون عن الاتفاق على نهج مشترك!