حين ظهر الراب في سوريا ولبنان في مطلع الألفية الثانية، كانت الأغاني تباع على شكل CD في المتاجر، مكن انتشارها من تشكل النواة الأولية لجمهور هذا النوع الموسيقي وتعرفهم على الهوية الأوسع لموسيقى الراب وبالطبع ثقافة البلد الآتية منه، فتنامى اهتمام الشباب به وكثر معجبوه حتى تطور الأمر إلى محاولات خجولة للتقليد والتجريب، لكن الأمر لم يكن سهلًا نتيجة ارتباط هذا النوع من الموسيقى ارتباطًا وثيقًا بمواضيع حساسة كالمجتمع والسياسة، فالراب بشكله الكامل لا ينفصل بأي شكل من الأشكال عن الوضوح والجرأة والمطالبات الصريحة والغضب الداعم لفكرةٍ أوالرافض لأخرى.
فهو إن كان واحدًا من أنواعٍ موسيقية شتى إلا أنه يختلف في مضمونه عن كل الأنواع الأخرى، فيحمل فكر ورسالة مؤديه بطريقةٍ لا يمكن فصل الطرفين عن بعضهما البعض، المغني وغنائه، فنجد الكلمات والأداء والموسيقى كلها تشبه صاحبها وحده وتعبر عنه.
بدايات الراب لم تكن سهلة وما زالت على هذا الحال حتى الآن نتيجةً لكثير من الأسباب الخاصة بالعالم العربي، أسباب ربما ليست موجودة بأي شكل في نوعها الغربي تفرض نفسها كمؤثر على الأغنية وحتى على الحياة الخاصة للمغنيين.
بدايات متعثرة
عاشت موسيقى الراب في بداية ظهورها بسوريا استهجانًا ورفضًا من المجتمع انعكس على مؤديها بطبيعة الحال، فتعرضوا للتنمر بأشكال مختلفة ولوحقوا أمنيًا لأسباب عدة منها ما يتعلق بمظهرهم وملابسهم، ومنها بسبب حملهم بعض الأفكار التحررية غير المألوفة لدى مجتمع محافظ، يخبرنا بهذا بو كلثوم، منتج موسيقي ومؤدي راب سوري اشتهر بأغانيه التي تناقش مواضيع متعلقة بالصحة النفسية والتجارب الشخصية التي لامست الجمهور بشكل كبير، ويضيف قائلًا: “لم يكن المجتمع قادرًا على تقبل ثقافة جديدة، ولم يفهم معنى الراب حتى تم نسبنا بشكل تلقائي بتوصيفات غريبة مثل عبدة الشياطين، وقد تعرضنا للكثير من التنمر بسبب طراز ملابسنا ونشاطنا ومحتوى الموسيقى التي قدمناها”.
بوكلثوم
ساهم كل هذا في وضع الراب ومؤديه في عزلة اجتماعية، ولم تؤخذ موسيقاهم حينها على محمل الجد، فبقيت محصورة ضمن دائرة صغيرة تتضمن عددًا محدودًا من محبي هذا النوع الموسيقي، فيما بقيت مواضيع الأغاني محصورة ضمن نطاق المشاكل الشخصية ليشمل لاحقًا نقدًا خجولًا للمجتمع والسياسة.
في لبنان كان الأمر مشابهًا في أكثر من ناحية، إذ ظهر الراب عام 2008 في منطقة بعلبك الهرمل من خلال فرقة “الطْفار” بعد نشرهم ألبوم “أصحاب الأرض“، تلك المنطقة التي وصفها بو ناصر الطفار، وهو مؤدي راب لبناني معروف بجرأته في الحديث عن قضايا سياسية ومعارضته لـ”حزب الله” قائلًا: “اقتصر سماع أهالي المنطقة على أغاني الدبكة في الأعراس والعتابا في السهرات ولم يكن لا الراب ولا غيره معروفًا لديهم”، لكن على عكس المتوقع لاقى ألبوم الطفار اهتمامًا كبيرًا من أهالي المنطقة وبدأ الناس بتناقل الأغاني على الهواتف المحمولة بالطريقة القديمة “البلوتوث”.
وبعد النجاح الكبير الذي حققه الألبوم سعت الفرقة لإقامة حفلتها الأولى في بيروت إلا أنهم تفاجأوا بالرفض القاسي، يضيف الطفار مستذكرًا: “ذهبنا لذات الصالات والمسارح التي تقيم حفلات الراب حاليًّا، فامتنع بعضهم عن استقبالنا ومنهم من بادر بالحديث إلينا بطريقة تهكمية ساخرة، أما البعض الآخر فطلبوا مبالغ مالية عالية لقاء حفل مدته ساعتين، فلم نجد حلًا إلا أن نستأجر صالة أعراس ورتبنا المكان بما يناسبنا”.
الغوطة الشرقية – سوريا
لم يؤخذ الراب في لبنان على محمل الجد كما سوريا، وهذا يعود للمحتوى الذي كانت تطرحه الأغنيات حينها الذي لم يكن يشبه لا الناس ولا اهتماماتهم، فرغم كثرة الفرق الموجودة وتنوعها، فإن جميعها كانت متأثرة بالشكل الغربي من الراب.
يقول الطفار في هذا الخصوص: “فهمنا لاحقًا سبب عدم تفضيل الكثيرين لنوعنا الموسيقي، فالراب حينها لم يعبر عن الناس، لم يعبر عن غضبهم أو مشاكلهم، لم يكن الراب يشبه بيروت، حتى عرفنا أن المشكلة تكمن فيما تحتويه هذه الموسيقى، وكان سؤالنا حينها: هل نحن نؤدي الراب لأننا سمعنا عددًا من ألبومات الهيب هوب الأمريكي أم لأننا نريد استعماله كأداة لعكس مشاكلنا واهتماماتنا؟ هذا ما ساعدت الثورات العربية في كشفه، إذ انتقل الراب من الدائرة الضيقة إلى الواسعة جدًا، فساهم الربيع العربي الذي خلق الوعي الجمعي بدءًا من تونس حتى ثورة الشعب السوري في إعطائنا فرصتنا الحقيقية”.
حصار أمني شديد
القبضة الأمنية والسلطة السياسية لعبتا دورًا لا يمكن إغفاله عند الحديث عن نشأة الراب في البلدين، ففي سوريا واجه هذا النوع من الموسيقى وحتى منتجيه الكثير من الملاحقات التي كانت قد تصل إلى الاعتقال دون تهم واضحة، فلم تفهم الأجهزة الأمنية السورية ـ على سبيل المثال ـ حقيقة هذا النوع الموسيقي الجديد، مما جعلها تخشى تماديه على السلطة أو تجرؤه على الانتقاد الصريح، حتى إنها كانت ترفض التجمعات التي تقام في الشوارع أو في الحفلات خوفًا من بناء مساحات للنقاشات الفكرية، الأمر الذي دعاها إلى وضع قيود على إقامة الحفلات، حيث تتطلب إقامة حفل الراب في سوريا عدة موافقات أمنية من عدة أفرع أولها فرع الأمن السياسي، وفي الكثير من الأحيان حتى بعد تحصيل الموافقة كانت ترسل الأجهزة الأمنية مندوبين عنها لمراقبة ما يحصل من الداخل، وغالبًا كان يتم إيقاف الحفلة فجأة واعتقال المنظمين ومساءلتهم دون وجود تهم قانونية واضحة.
حائط المصرف المركزي في بيروت
مُنع الراب عن الكلام في بعض الأمور التي تمس المجتمع، فلم يتمكن حتى من انتقاد المنظومة التعليمية في البلاد أو الفساد المؤسساتي لدى موظفي الدولة، مما دفع المغنيين فيما بعد للالتفاف على الأجهزة الأمنية من خلال بناء استعارات معقدة بعض الشيء وصعبة التفسير في كلامهم لألا يتم فهمه بشكل مباشر، لكن مع كل هذا لم تتوقف الملاحقات، بل تم تعقب الإستديوهات التي تشتبه بتعاملها مع مغنيي الراب وتعرض أصحابها للمساءلة بحجة عدم وجود تراخيص، مما اضطر الكثيرين لبناء إستديوهات صغيرة وبدائية داخل منازلهم.
كان الأمر في لبنان مختلفًا من هذه الناحية، فلم يتعرض الراب اللبناني بالمجمل إلى المساءلة وذلك يعود حسب رأي الطفار إلى أنهم كانوا “ضمن دائرة العشائرية والذكورية التي ربينا فيها ولم نخرج منها، هذه الدائرة التي أرادنا النظام ذاته البقاء فيها”.
تعقد الأمر أكثر مع بداية الثورة السورية، حين أعلن العديد من مؤديي الراب في لبنان موقفهم بشكل واضح من الثورة ووقوفهم ضد النظام السوري، وبسبب التجاذبات السياسية في لبنان وتدخل “حزب الله” ومشاركته في قمع الثورة السورية وفيما بعد تدخل الحزب القومي في المعارك الجارية في سوريا، تعرض البعض لتهديدات ولكنها لم تتعد توجيه النصائح المبطنة “تأتينا نصائح ليست بريئة مثل: “شو بدك بهالشي”، و”بعّد عن هالشغلات”، ولكن لم يصل الأمر إلى حد الاعتقال، رغم أنهم كانوا يتمنون ذلك”.
التجربة الديمقراطية ونجاح الثورة في تونس لم تجنبا الراب مواجهة القوى الأمنية، ففي عام 2013 تمت محاكمة مؤدي الراب التونسي “ولد الـ15” بعد إصداره فيديو كليب يصف فيه رجال الشرطة بالكلاب، واتهمهم من خلاله باستهداف أبناء الأحياء الفقيرة وترويجهم للمخدرات.
أثارت هذه القضية حينها جدلًا كبيرًا عن حرية الرأي والتعبير في الفضاء العام التونسي، فقامت احتجاجات شعبية ساهمت بشكل كبير بإطلاق سراح المغني، وعلق حينها “ولد الـ15” بأن “القضاء بحاجة للإصلاح. كنت أعتقد أنني أعيش في بلد يحترم حرية الرأي والتعبير ولكن خاب ظني”.
أداة ثورية
مع انفجار الشارع العربي ومطالبات الشعوب بحريتها توضحت معالم وأسس الراب في العالم العربي أكثر، وعرف مؤدوه شكل القضايا التي أرادوا طرحها وتسليط الضوء عليها، إلا أنه في لبنان ما لبث أن أخذ طابعًا سياسيًا خصوصًا عند الفنانين الذين أرادوا دعم الثورة السورية مثل الراس وبو ناصر الطفار اللذين اشتهرا بمواقفهما الواضحة ضد النظام السوري ودعم السوريين في ثورتهم منذ البداية.
خلال حديثنا مع بو ناصر الطفار سألناه عن سبب موقفه من الثورة السورية على الرغم من أنه يأتي من خلفية شيعية لم تكن راضية عن موقفه السياسي، قال لنا إن المعركة مع النظام السوري معركة شخصية “في لبنان، يمكنك تأييد الثورة في تشيلي لمجرد دعمك لحقوق الإنسان ورفضك للظلم، لكن في سوريا الموضوع مختلف قليلًا، النظام اللبناني هو إفراز بشع وصورة كاريكاتيرية عن النظام السوري، وبعد الحرب الأهلية كانت اليد في لبنان حتى فترة قريبة جدًا للنظام السوري وربما لليوم مع استلام “حزب الله”. هذا يعني أن معركتك مع النظام السوري كلبناني شخصية، لا يجب أن تتضامن معه، لدينا 20 ألف لبناني مخطوف في السجون السورية لا أحد يعلم مصيرهم. نحن هنا نتكلم في حال أنت لا تريد أن تحكم إنسانيتك وضميرك. الفساد والقتل وشكل القوى الأمنية في لبنان هذا كله كان في يد النظام السوري”.
بيروت 2019
نشأ بين مؤديي الراب اللبنانيين وناشطين في الثورة السورية تعاونًا نتج عنه فيديو كليب أغنية “تتليت” لبو ناصر الطفار ناقلًا صورةً عن دمار مدينة دوما عام 2016، بالإضافة إلى أغنية “عكل الجبهات” للمعري وهو مؤدي راب سوري يعيش في مدينة إدلب اشتهر بأغانيه التي تنتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية، من إنتاج اللبناني الراس.
أدى هذا التعاون المستمر ووجود مواقع التواصل الاجتماعي لانتشار هذا النوع الموسيقي بشكل أسرع بين الناس ونال الاهتمام الذي يستحقه، وكان هذا جليًا في الحراك اللبناني الذي عبر المتظاهرون من خلاله عن سخطهم ومطالبهم، الأمر الذي كان مفاجئًا للمغنيين أنفسهم بالأخص حين تحولت كلمات أغانيهم لشعارات ثورية يرفعها المتظاهرون، حتى قال الطفار معقبًا: “تفاجأت شخصيًا بأغان خرجت إلى الساحات كنت قد كتبتها في 2008 و2011، لكنني قلت مرة أن هذه الأغاني هي بذرة تزرع وبالفعل وجدت هذه الكلمات مكانها الحقيقي في الحراك”.
التجربة في العراق كانت خجولة مقارنةً بباقي بلدان العالم العربي، لكن ساحاته ومظاهراته شهدت أيضًا مشاركة فناني الراب وتصوير فيديوهاتهم من مواقع التظاهرات وبمشاركة الثوار الموجودين هناك كما في أغنية “هنا الشعب” لمؤدي الراب العراقي “مستر كوتي” الذي ركز في أغنيته على رفض حكم المراجع الإيرانية للبلاد وثبات الثوار في الساحات “مهما قتلوا منهم”.
أدت موسيقى الراب دورها في تحريض الناس على الانتقاد وعلى رفع الصوت بجرأة منذ بداياتها، الأمر الذي يؤكد ارتباط موسيقى الراب بقضية ما مهما كان نوعها سياسية أو فكرية أو مجتمعية أو لتعزيز موقف ما، وتحولها إلى أداة ثورية تُهدى للنشطاء يستخدمونها لخدمة قضاياهم.