17 كانون الأول/ديسمبر 2010 مثّل يومًا تاريخيًا غيّر مسار المنطقة العربية، فمع إضرام محمد البوعزيزي النار بنفسه في تونس اعتراضًا على مصادرة عربة الخضار التي يكسب منها قوت يومه، توالت الاعتراضات والاحتجاجات في المناطق التونسية كافة وتدحرجت كرة الثلج من احتجاجات فردية إلى ثورة عامة أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي.
لم تكن هذه إلا الانطلاقة، فقد توالت الثورات التي أطاحت برؤساء دول عربية حكموا البلاد لسنين عديدة، فبعد الإطاحة بزين العابدين بن علي في تونس، أسقطت الثورة المصرية محمد حسني مبارك، ثم اندلعت ثورة في ليبيا أنهت حياة معمر القذافي وصولًا إلى ثورة يمنية نحّت علي عبد الله صالح عن الرئاسة وأخيرًا جاء عزل البشير في السودان.
إن الإطاحة بالرؤساء لم تكن السمة الوحيدة للثورات، ففي بلدان عربية أخرى لم تبلغ الاحتجاجات حد الإطاحة بالرؤساء، لكنها حققت شيئًا من هدفها المنشود، وفي أخرى، ولعوامل كثيرة، دخلت البلاد في آتون نزاع مسلح، لكن الاحتجاجات لم تستثن أي بلد عربي تقريبًا، فقد وصلت الاحتجاجات إلى سوريا والمغرب والعراق وجيبوتي والأردن والجزائر، إضافة لبعض دول الخليج وأخيرًا لبنان.
الشك بعد منعطف الثورة السورية
لا شك أن الثورة السورية شكلت منعطفًا مهمًا في تسلسل الثورات، فمع التدخل الإيراني والروسي لم تستطع الثورة السورية، رغم تسلحها، الإطاحة برئيس النظام، فشكلت سوريا خيبة أمل لجمهور التحرر في العالم العربي، تبعتها خيبات أمل مع موجة الثورات المضادة التي قاومت الثورات العربية وزرعت أذرعًا لها في كل دول المنطقة، محاولة إدراك ما فاتها بدعم من دول عربية وإقليمية ودولية.
انهيار الاقتصاد اللبناني لم يكن مفاجئًا كما يعتقد البعض، فالبلد الذي اعتاد الاستدانة من باريس إضافة للهبات العربية المتنوعة لم يستطع تأمين أبسط مقومات انتعاش الاقتصاد
ومع تراجع ثورات وعدم تحقيق أخرى لكل أهدافها، ومع الأزمات المتتالية في كثير من بلادها بدأت رحلة الشك والتساؤلات وتقاذف الاتهامات، ففي لبنان على سبيل المثال، انفجر الواقع الاقتصادي والمعيشي وخرجت التظاهرات وازداد الواقع الاقتصادي والنقدي سوءًا وبات الوضع الأمني على المحك.
هذا التراجع دفع جزءًا من اللبنانيين لتحميل مسؤولية ما آلت إليه الأمور إلى المحتجين، فكالوا لهم اتهامات متنوعة على رأسها أنهم مسؤولون عن انهيار الاقتصاد، إضافة لاتهامهم بالتحرك بأوامر خارجية، ناهيك بكونهم سيسببون انفلاتًا أمنيًا قد يؤدي لحرب أهلية، فما صحة هذه الاتهامات؟ ومن المسؤول الحقيقي؟
من المسؤول عن انهيار الاقتصاد اللبناني؟!
انهيار الاقتصاد اللبناني لم يكن مفاجئًا كما يعتقد البعض، فالبلد الذي اعتاد الاستدانة من باريس، إضافة للهبات العربية المتنوعة لم يستطع تأمين أبسط مقومات انتعاش الاقتصاد.
فالفساد “نخر” الدولة وبلغ درجات مرعبة على المستويات كافة، ويكفي أن نعلم أن لبنان يحتل أعلى المراتب في سلم الدول الفاسدة على مستوى العالم، فقد كان الفساد أحد أهم أسباب سحب الدولار من السوق اللبنانية، ما تسبب بانهيار العملة الوطنية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، راكمت الدولة منذ الحرب الأهلية وحتى عام 2017 عجزًا في الكهرباء قيمته 36 مليار دولار أمريكي أي ما يعادل 45% من مجموع الدين العام اللبناني ولم تستطع توفير الحد الأدنى من الكهرباء للمواطنين!
إضافة للحدود المفتوحة على تهريب الدولار والبضائع المدعومة التي تستنزف العملة الصعبة من خزينة الدولة، فقدرت كمية المحروقات المدعومة التي تهرب من لبنان بنحو ثلث الكمية الموجودة!
فقدان العملة الصعبة من بلد صغير كلبنان، يعتمد في قسم كبير من اقتصاده على الاستيراد، جعل المصرف المركزي يعتمد سياسة رفع الفوائد على الحسابات البنكية لجذب العملة الصعبة لتصل لنسبة خيالية (17%)، ما دفع المستثمرين للجوء للربح العالي المضمون من فوائد البنوك عوضًا عن استثمارها ما ساهم بتعثر الاقتصاد، إضافة إلى عدم اهتمام الدولة بالزراعة والصناعة، فكان الإنتاج المحلي يفقد قيمته بسبب مزاحمة البضائع المستوردة بطريقة شرعية وغير شرعية.
هذه الفضائح وغيرها جعلت أكثر من اقتصادي لبناني يتحدث مطولًا عن انهيار نقدي متوقع كمجموعة مقالات نشرها الاقتصادي “دان قزي” بعنوان “قصة الغبي والسجين” تحدث فيها عن الواقع الاقتصادي والنقدي وتوقع الانهيار، كما تحدث الاقتصادي والوزير السابق شربل نحاس في أكثر من مقابلة تليفزيونية عن حتمية فقدان الدولار من لبنان.
هذه الأمثلة وغيرها تمثل دليلًا واضحًا عن المسؤول الحقيقي عن الانهيار الاقتصاد اللبناني وإفراغ البلد من العملات الصعبة، ما ينفي تمامًا مسؤولية الحراك الشعبي عن هذا الانهيار الذي كان يلوح في الأفق.
هل الثوار يُدارون من الخارج؟!
تكيل الأحزاب اللبنانية الاتهمامات للثوار بأنهم مدعومون وممولون خارجيًا، فيتأثر قسم من اللبنانين فيحجموا عن المشاركة في التظاهرات متناسيين تاريخ هذه الأحزاب وحاضرها.
أي اقتتال داخلي في لبنان إن حصل، لن يكون للثوار دور فيه بل سيكون تناحرًا بين أحزاب السلطة والدول الخارجية كما حصل في السابق
كثير من المتابعين ينفون وجود أحزاب في لبنان أساسًا، بل هي فقط أذرع خارجية حتى وُصفت الحرب الأهلية بأنها حرب الآخرين على أرض لبنان، فهي عبارة عن أذرع لبنانية تحت مظلة إقليمية ودولية تتحكم بها وتحركها كلما دعت الحاجة لذلك، فقد ذهب أحد الأحزاب اللبنانية للقتال في سوريا بأوامر من إحدى الدول الإقليمية، في المقابل، أُجبر أحد رؤساء الحكومات على تقديم استقالته بشكل مفاجئ بعد احتجازه في دولة عربية، ناهيك بالتمويل الكلي أو الجزئي لكثير من أحزاب السلطة من جهات خارجية دون أن يترتب على ذلك مساءلة أو محاسبة بتهمة العمالة.
هل الثورة سبب الاقتتال الداخلي؟
بطبيعته يميل الشعب للاستقرار، وإن كان هذا الاستقرار على حساب غض الطرف عن الفساد والهدر والظلم والقمع، خوفًا من التغيير ودفع ضريبة الثورة من خلال السجن والتعذيب وسفك الدماء، ليصل لمرحلة يشعر المواطن أن الأمر سيان بين الموت والحياة فيخرج عن صمته ليطالب بحقوقه الأساسية وبعيشة كريمة.
يخرج الشعب على استحياء برفع الصوت مطالبًا بحقوقه فتتجاوب السلطة مع بعض المطالب أو تواجه المحتجين بالقمع والعنف، فينقسم المحتجون بين من يعود للركون فيسجن ويطارد ومن يدافع عن نفسه لأنه متيقن أن مصيرهما واحد، فإذا نجح في التغيير سيكون هناك احتمالية نهوض للبلاد وإن فشل فسينتظر دورة حياتية كاملة بانتظار ثورة ثانية والبحث حينها في الخيارات نفسها والتفكير ذاته.
الثورة ليست خيارًا بل فريضة تفرض على الشعب عند نفاد كل حلول الإصلاح الديمقراطية، فتلجأ السلطة للعنف وليس الشعب، وإن لجأ الشعب للسلاح فإنه ليس المسبب ولكنها ردة فعل ودفاع عن النفس، فكيف يُحمّل الثوار مسؤولية قتل النظام للشعب؟ وان دافع الشعب عن نفسه فهل يكون هو المسبب؟
أما في لبنان، فتلجأ أحزاب السلطة لإرسال مناصريها لقمع التظاهرات بالقوة، كما ترسلهم لافتعال مشاكل في مناطق حساسة لتثبيت شماعة الطائفية وشد العصب الطائفي لاتباعها.
إن أي اقتتال داخلي في لبنان إن حصل، لا سمح الله، لن يكون للثوار دور فيه بل سيكون تناحرًا بين أحزاب السلطة والدول الخارجية كما حصل في السابق، وعليه، يكون الثوار في لبنان بعيدين كل البعد عن تهديد الاستقرار الأمني أو التسبب في اقتتال داخلي.
ضريبة الثورة أو ضريبة الحياد
الثورات وإن اختلفت تفاصيلها، تتشابه ملامحها، وإن مما يتحمله الثوار من الضعف والاتهامات والتشكيك، والعجز في هذه اللحظات قد يمحو سنوات من الجهد والعمل والتضحية، فعلى الثوار أن يتيقنوا أنهم غير مسؤولين عن خراب البلاد وفساد العباد، بل هم ضحية سنوات من الظلم والاستبداد والفساد، ونسأل منتقدي الثورات: ما الحلول المقترحة مع أنظمة عاثت في الأرض فسادًا إضافة لتجذرها داخليًا وخارجيًا؟