أثارت التعديلات التي أقرتها السلطات السودانية بالقانون الذي دخل حيز التنفيذ، الجمعة 10 يوليو 2020، المتعلقة ببعض المسائل الحقوقية حالة من الجدل داخل الشارع السوداني، بين مرحب يراها خطوة مهمة في مسار الإصلاحات الحقوقية بالبلاد، وآخرين يعتبرونها جاءت مخالفة لقوانين الشريعة الإسلامية، وأن الثورة لم تأتِ من أجل إجراء تعديلات قانونية تشمل إباحة الدعارة والخمور.
القانون المجاز من مجلسي الوزراء والسيادة تناول بعض القضايا الخلافية التي كانت محل جدل طيلة العقود الماضية، أبرزها إلغاء عقوبة “الردة عن الإسلام” وخفف عقوبة الجلد، على ألا يعاقب غير المسلمين على شرب الخمر، وفق ما أعلن وزير العدل السوداني نصر الدين عبد الباري.
تعرض السودان على مدار السنوات الماضية للكثير من الضغوط الدولية من كيانات حقوق الإنسان، المحلية والإقليمية والعالمية، جراء اعتمادها بعض البنود التشريعية على رأسها حد “الردة” الذي يعتبر – وفق تصور حقوقيين – أحد أبرز القوانين سيئة السمعة في البلاد.
وفي الوقت الذي ترفع فيه الحكومة ومؤيدوها شعارات الانتصار الحقوقي وتخلص البلاد من جانب كبير من سهام النقد الموجهة إليها، هناك فريق آخر يرى في تلك التعديلات خطرًا ربما يعرض البلاد لهزة عنيفة، خاصة إذا ما تم تناول هذه الخطوة من منظور ديني، الأمر الذي ينذر بصدام مرتقب بين السلطات الحاليّة وبقايا الإنقاذ.
مقتضيات الضرورة
وزير العدل السوداني اعتبر أن تلك التعديلات تأتي في ظل مقتضيات الضرورة الملحة، لافتًا إلى أن القانون الجديد ألغى المادة 126 الواردة في القانون الجنائي لعام 1991 التي تتحدث عن الردة واستبدالها بمادة تجرم التكفير، مستندًا في ذلك إلى تضمين بند ضمان حرية الاعتقاد في الوثيقة الدستورية الجديدة، هذا بخلاف ما يمثله “تكفير الآخرين” من تهديد لأمن وسلامة المجتمع على حد تعبيره.
عبد الباري في حوار تليفزيوني له أشار إلى أن عقوبة الردة كتشريع إسلامي مسألة فيها خلاف بين علماء المسلمين، منوهًا أن التوافق على إلغائها جاء بعد مشاورات مكثقة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير على مدار العام الماضي، حيث توصل الجميع إلى ضرورة منح كل مواطن حرية الاعتقاد والتدين.
وعن تفاصيل التعديلات كشف أنها ألغت عقوبة الجلد إلا في نطاق الأحكام الحدية، محددًا الوصول إلى سن 19 عامًا لمحاكمة الأشخاص، وذلك بعد أن كانت المحاكمة تتم بمجرد ظهور علامات البلوغ على الشاب، هذا بخلاف إلغاء المادة التي كانت تلزم المطلقة بأخذ إذن من زوجها السابق حال أرادت السفر مع أبنائها من طليقها.
كما نفى الوزير ما أثير بشأن إلغاء مادة “تحرم ممارسة الدعارة”، موضحًا أنهم “أحكموا صياغتها فقط بتغيير بعض الكلمات والعبارات الفضفاضة التي توسع نطاق التجريم”، مؤكدًا في الوقت ذاته أن التعديلات الجديدة تقر عدم توقيع أي عقوبة على غير المسلمين في شرب الخمر، وكان قرار حظر المشروبات الكحولية قد فرض في عهد الرئيس الراحل جعفر النميري عام 1983، حين ألقى بزجاجات الخمر في النيل بالعاصمة الخرطوم.
وانتهت الحكومة على لسان وزير العدل إلى أن الهدف الرئيسي من وراء تلك التعديلات “ضمان الحريات” ومنح المواطن مساحة أكبر لممارسة حقوقه دون قيود أو تضييقات تجعله مضطرًا لممارسة ما لا يتوافق مع معتقداته خوفًا من الملاحقة القضائية والشرطية.
انتصار حقوقي ومغازلة دولية
فريق وصف تلك التعديلات بأنها نقلة نوعية في المسار الحقوقي للبلاد بعد التركة المثقلة التي ورثها الجيل الحاليّ من نظام الإنقاذ التي تضمنت العديد من المواد المقيدة للحريات بزعم استنادها لأحكام الشريعة وهو ما وضع السودان في موقف المتهم دومًا، المطالب بالدفاع عن نفسه أمام ساحات المحاكم الحقوقية.
أنصار هذا الفريق يتبنون الرؤية الحكومية الرسمية المبررة لهذه الخطوة بأنها تأتي في سياق سيادة حكم القانون وعدم التمييز بين المواطنين وحقوقهم الاعتقادية في محاولة لبسط الحريات العامة على أكبر قدر من المشهد بما ينعكس على الحياة العامة للمواطنين ككل.
كما يستبعد هؤلاء أي أبعاد سياسية في تلك التعديلات ردًا على ما يقوله البعض كما سيرد ذكره لاحقًا، مؤكدين أنها أبعاد حقوقية فقط في كل النصوص المعدلة، التي ترتكز على فلسفة إزالة أي تمييز بين المواطنين وعدم فرض أي وصاية سياسية أو دينية على معتقداتهم وأفكارهم.
رئيس القطاع القانوني بحزب المؤتمر السوداني، كمال الأمين، يوضح أن التعديلات الجديدة لم تلغ واحدًا من أحكام الشريعة الإسلامية، مدافعًا في الوقت نفسه عن حق الحكومة الانتقالية في سن التشريعات والقوانين، لا سيما العاجلة والضرورية منها.
استبعاد الأبعاد السياسية بالكلية أمر غير موضوعي، وفق ما ذهبت إليه أميرة ناصر، الصحفية المصرية المتخصصة في الشأن السوداني، التي أشارت إلى أن الحكومة السودانية وهي تقر تلك التعديلات عينها على المجتمع الدولي، ساعية إلى تحسين صورتها أمام الآخر لا سيما أن الملف الحقوقي لديها كان عليه الكثير من علامات الاستفهام.
ناصر في حديثها لـ”نون بوست” كشفت أن هذا التحرك التشريعي يأتي ضمن جهود الحكومة لرفع اسم السودان من قوائم دعم الإرهاب الموضوعة عليها أمريكيًا منذ عقود، التي دفعت البلاد بسببها ثمنًا باهظًا، وما زالت تتجرع مرارته حتى اليوم، لافتة إلى أن إعادة تموضع البلاد عالميًا وتحسين صورتها دوليًا أحد التحديات والتعهدات التي قطعتها السلطة الحاليّة على نفسها منذ حلفها لليمين سبتمبر 2019.
ردة سياسية وإسلامية
فريق آخر حذر من تداعيات تلك التعديلات التي وصفها بأنها غير قانونية وتمت بشكل فردي من شخوص محددة، لافتًا إلى أنه كان من الأفضل أن تتم على مرأى ومسمع من البرلمان المنتخب، باعتباره صاحب الحق الوحيد في إصدار تلك التشريعات.
رئيس حزب دولة القانون والتنمية، محمد علي الجزولي، يتهم المكون العسكري في النظام الجديد بتدمير قيم الأمة وإباحة المنكرات وإفساد الأخلاق وتمزيق البلاد وضرب السلم الاجتماعي بتقسيم المجتمع، تعليقًا على التعديلات الجديدة، متسائلًا على صفحته الشخصية على “فيسبوك”: “كيف يقبل الشعب ويقبل جيش الشعب توقيع القائد العام لقوات الشعب المسلحة على قانون يحلل المحرمات ويجعل ممارسة الدعارة بلا عقوبة وغدًا سيعدل شركاؤه المدنيون قانون الأحوال الشخصية فيطعنون في أحكام الميراث والقوامة والزواج والطلاق”.
واتهم من أسماهم “التيار المتطرف” باختطاف الثورة وتنفيذ أجندة ثقافية بعيدة عن الشريعة، لا يمكنه فرضها عبر انتخابات حرة ونزيهة، فاضطر لفرضها من خلال الثورات، مختتمًا حديثه: “ما الفرق بين انقلاب 30 يونيو الذي سلم السلطة للإسلاميين وانقلاب 11 أبريل الذي سلم السلطة لليساريين؟”.
وفي ذات السياق أصدر كل من حزب المؤتمر الوطني (المُنحل) وتيار نصرة الشريعة والقانون بيانًا مشتركًا، أعلنوا من خلاله رفضهم القاطع لتلك التعديلات التي وصفوها بأنها عدوان على دين الأغلبية، وأنها ليست من ضمن اختصاصات الحكومة الانتقالية، التي جاءت لمهام محددة، على حد وصف البيان.
الصحفي السوداني خالد الأعيسر، يرى أن نموذج حكومة الانتفاضة 1985 هو الأفضل وكان يجب على الحكومة الانتقالية الحاليّة الاقتداء به، حيث قررت التزام الحياد وعدم التدخل في أي قرارات أو قوانين، تشريعًا كان أو تعديلًا، وأرجأت كل هذا لحين انتخاب برلمان يجسد طموح السودانيين.
وفي تصريحات صحفية له حذر الأعيسر من التداعيات المترتبة على هذه الخطوة، كاشفًا أنه سيكون لها ارتدادات سياسية ربما تزيد الوضع تأزمًا، وذلك بخلق بيئة صالحة للصراعات السياسية والاستقطاب، كما ستكون بابًا كبيرًا لإفساد المرحلة الانتقالية وإفشال المسار الثوري.
أنصار هذا الرأي يتهمون السلطات الحاليّة والقوى السياسية الداعمة لها باستغلال قطار الثورة لتمرير أجندتهم اليسارية على حساب المكون الديني للشارع السوداني، وهو ما سيعزز حالة الاحتقان الشعبي، الأمر الذي ربما يقود إلى حالة احتراب داخلي حال استمر الوضع على ما هو عليه.
كما يميلون إلى أن عدم استشارة أحزاب المعارضة وبقية ألوان الطيف السياسي الداخلي في مثل هذه التعديلات رغم ما تحمله من خطورة، مؤشر سلبي على نوايا مبيتة للسلطات الحاليّة لتجاوز الموروث الثقافي للشعب السوداني، وهو ما يمكن أن يخلق حالة اختناق وغضب شعبي من جهة، واستغلاله من البعض لإعادة نظام الإنقاذ للحكم من جهة أخرى.
هذا الفريق يرى كذلك أن القانون الجديد بتعديلاته مخالفًا بصورة كبيرة للوثيقة الدستورية التي تقر بعدم أحقية الحكومة ومجلس السيادة في التشريع، وعليه فإن هذا التحرك من السهل جدًا الالتفاف عليه قانونًا، وما لذلك من فوضى محتملة من الممكن أن تترتب على هذا الجدل.
وفي ظل حالة الاحتقان بين التيارات السياسية المختلفة يبقى أي تحرك رسمي كان أو غير رسمي محل جدال فيما يقبع الملايين من الشعب السوداني في انتظار ما يحسن أوضاعهم المعيشية بعيدًا عن التناطح والسجال الإعلامي والسياسي بين أطراف الصراع على السلطة.