شهدتِ الساحة الليبية عددًا من التطورات النوعية الخطيرة خلال الأيام القليلة الماضية، مما دفع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى اعتبار هذه التطورات بمثابة “مرحلة جديدة، تتضمن مستويات غير مسبوقة من التدخل الخارجي، عبر استمرار انتهاك حظر إرسال الأسلحة والمرتزقة”.
لكن يبدو أن هذه المستويات غير المسبوقة من التدخل الخارجي في ليبيا لن تقتصر على المرتزقة وإرسال الأسلحة كما قال الأمين العام للأمم المتحدة، إذ تقول كل المؤشرات إن مصر أوشكت على التدخل عسكريًا، بشكل رسمي، في خريطة الصراع، كي تحارب بعضًا من هؤلاء “المرتزقة” كما تلوح منذ يونيو الماضي.. فما الذي حدث تحديدًا؟
زيارة أكار
بدأت القصة يوم السبت، الـ4 من يوليو/تموز الحاليّ، عندما زار وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، رفقة رئيس الأركان يشار غولار، ليبيا، وتفقد خلالها عددًا من المنشآت العسكرية الخاضعة للتنسيق المشترك مع حكومة الوفاق، مثل مستشفى معيتيقية والكلية الجوية في مصراتة وإحدى القطع البحرية، حيث التقى خلال الزيارة عددًا كبيرًا من العناصر التركية الموجودة لدعم قوات طرابلس.
صرح أكار خلال هذه الزيارة المفاجئة بعدد من التصريحات المتعلقة بطبيعة الوجود التركي في ليبيا وموقف تركيا من حكومة الوفاق، حيث ألمح إلى استمرارية القوات التركية في الغرب الليبي، باعتبارها امتدادًا للوجود العثماني الذي مضى عليه نصف قرن، منوهًا عن دفع الاتفاقية العسكرية الموقعة بين البلدين، في إشارة إلى نية بلاده الحصول على نفوذ ممتد في قاعدتي الوطية ومصراتة على الأرجح، كما طالب المجتمع الدولي بدعم مساعي حكومة الوفاق، على أساس كونها الكيان السياسي الشرعي في ليبيا.
استغل وزير الدفاع التركي هذه الزيارة أيضًا لإرسال عدد من الرسائل إلى خصوم تركيا في ليبيا، وعلى رأسهم فرنسا التي طالبها بالاعتذار عن مزاعمها بقيام القطع البحرية التركية بالتحرش بقواتها قبالة السواحل الليبية، ومصر التي أكد مجددًا رفض بلاده لخطها الأحمر (سرت/الجفرة) الذي تحاول فرضه على حكومة الوفاق، وصولًا إلى روسيا التي رأى البعض في وقوف خلوصي أمام إحدى مروحياتها التي سيطرت عليها قوات الوفاق، خلال لقاء مع “بي بي سي” إهانة وتهديدًا لها.
تزامنت تقريبًا هذه الزيارة التي أمر بها أردوغان، مع زيارة الرئيس التركي إلى العاصمة القطرية الدوحة، في أولى رحلاته الخارجية، بعد رفع قيود السفر المفروضة للحد من انتشار فيروس كورونا، حيث لم يفصل بين الزيارتين إلا يوم واحد، مما أعطى إيحاءً عامًا بأن تركيا ترسل إلى كل الأطراف المعنية رسائل سياسية مفادها أن كل الأمور تحت السيطرة، وأنها مدعومة سياسيًا واقتصاديًا من حلفائها، وأن الكلمة الأولى باتت لها في الملف الليبي.
ما لا تشتهي السفن
لم تكد طائرة أكار تحط الرحال في الأراضي التركية قادمةً من ليبيا، حتى وصلت الأنباء بتعرض قاعدة الوطية الواقعة في حزام السيطرة التركي إلى قصف جوي، فجر يوم الأحد، دون تبني أي من خصوم تركيا لهذه العملية.
أكدت تقارير محلية وأجنبية نجاح أنقرة في الثأر من عملية الوطية، من خلال قصف طيران مسير تابع لها مربع الحمام
بالنِسبة لخصوم تركيا، فقد أدى هذا القصف الذي تعرضت له قاعدة الوطية المطلوب منه، حيث أربك الرسائل الرمزية التي سعت أنقرة إلى إرسالها من خلال زيارة أكار وكسر الخط الأحمر الذي باتت تركيا تلتزم به من طرف واحد بعد هذه العملية مباشرةً، وأعاد الروح المعنوية لأنصار المحور المصري الخليجي الروسي الذي كان متأثرًا بالانسحاب من هذه القاعدة، ونجح في تحييد منظومات دفاع جوي أمريكية متوسطة المدى وصلت إلى هذه القاعدة لتوها من طراز “هاوك”.
بعد العملية، قالت أنقرة إنها وضعت لنفسها إطارًا عامًا للرد، فالطيران بالطيران، والقاعدة الجوية المقصوفة (الوطية) سيقابلها قصف قاعدة مماثلة (الجفرة)، وكسر الخط الأحمر في الغرب سيقابل بكسره في الشرق، لكن الرد التركي جاء مختلفًا ومتشعبًا على عدة مراحل، خلافًا لما حاولت تصديره. فقد أسرعت تركيا أولًا بتعويض منظومات “هاوك” المتضررة في القاعدة، مع تركيب أنظمة رادار جديدة من طراز “Kalkan-2″، وتفعيل منظومة “Koral” للحرب الإلكترونية.
كما كثفت أنقرة من مهمة نشر منظومات الدفاع جوي في الغرب الليبي، وخاصة في منطقة العمليات بسرت، من خلال تسريع استلام منظومات “باتشورا” المطورة التي تعاقدت عليها من أوكرانيا لصالح حكومة الوفاق، لتنضم إلى العمل هناك مع صواريخ “ستينجر”، المحمولة على الكتف، في نسختها التركية التي تتميز بزيادات في المدى والارتفاع، وتزويدها بنظام “IIR” لتفادي الشراك الخداعية الحرارية.
وعلى نحو عملي، أكدت تقارير محلية وأجنبية نجاح أنقرة في الثأر من عملية الوطية، من خلال قصف طيران مسير تابع لها مربع الحمام، في السوكنة، بالجفرة، قصفًا أسفر عن تخريب منظومة “بانتسير”، وخسائر بشرية غير مؤكدة في صفوف عناصر شركة “فاغنر”، وفق معادلة: القصف المجهول غير المصور، وقد اعتبر جليل حرشاوي الباحث في الشأن الليبي، أن هذه العملية بمثابة نهاية لاتفاق منع المسيرات الذي أبرم ضمنيًا في الـ21 من مايو/آيار الماضي، وبداية انطلاق معركة تحرير سرت.
وبعد ذلك، أعلنت تركيا أيضًا شروعها في تنفيذ مناورة عسكرية ضخمة قبالة سواحل ليبيا في ثلاث مناطق، هي: بربروس، ودرغوث رئيس، وجاقا بيه، بمشاركة 17 طائرة و8 قطع بحرية، بغرض محاكاة إقامة جسر بحري وجوي يمتد من أقرب نقطة حدودية في تركيا إلى السواحل الليبية، والتعامل مع التغيرات المفاجئة في الميدان.
مصر مجددًا
بدأت مصر تعود إلى الواجهة في الملف الليبي بقوة، عقب إعلان تركيا تنفيذ مناوراتها الضخمة التي ستحمل اسم “نافاتيكس”، قالت مصر إنها تجري مناورات ضخمة تحت اسم “حسم 2020” على حدودها الغربية منذ أيام، بما يوحي أن الحدثين منفصلان، ولكنهما في الواقع تزامنا معًا، الإعلان التركي والتنفيذ المصري، كما أن مصر اعتادت أن تصف كل مناوراتها المفاجئة بأنها “جزء من خطة التدريب السنوية”، ضمن إستراتيجية أكبر لتفادي كلفة التصعيد الخطابي ضد خصومها.
شهدت المناورة المصرية مشاركة كل الأفرع الرئيسية على الاتجاه الغربي، جوًا وبرًا وبحرًا، تحت مظلة “معركة الأسلحة المشتركة”، بالإضافة إلى تنفيذ أعمال “الفتح الإستراتيجي” (حشد القوات)، ومحاكاة عملية إنزال برمائي على أحد الشواطئ للقوات البرية والخاصة المحمولة على حاملة المروحيات “ميسترال”، والتزود بالوقود جوًا.
التشكيلات البحرية المصرية نفذت أيضًا كل أنواع الرمايات المعروفة ضد العدائيات: سطح/ سطح، وسطح/ جو (الدفاع الجوي)، وسطح/ عمق (من السفن للغواصات)، وجو/ سطح، وعمق/ سطح (من الغواصات للسفن)، حيث كان صاروخ “هاربون” الأمريكي الجوال الذي يبلغ مداه نحو 120 كيلومترًا حاضرًا بقوة في هذه الرمايات، خاصة بعد نجاحه في إصابة إحدى القطع البحرية القديمة التي باتت هدفًا تدريبيًا.
يقوم بعض خصوم تركيا، مثل فرنسا واليونان وقبرص بمناوراتٍ بحرية على سواحل الأخيرة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية
مثلت المناورة “حسم” امتدادًا لما قامت به قوات المنطقة الغربية العسكرية المصرية خلال المناورة “قادر 2020” التي نفذها الجيش المصري مطلع هذا العام، لمحاكاة خوض حرب متعددة الجبهات في وقت واحد، كان للاتجاه الغربي نصيب الأسد منها، ولما قامت به نفس المنطقة من استعراض أمام السيسي خلال يونيو/حزيران الماضي، حتى إن إدارة الشؤون المعنوية استعانت ببعض المقاطع المأخوذة من هذه المناورات السابقة لتضيفها إلى هذه المناورة، وهو ما اعتبره آخرون محاولةً للتمويه عن بعض الرمايات غير الناجحة في المناورة الأخيرة.
وبغض النظر عن صحة هذا التحليل من عدمه، فإن المناورة “حسم 2020” شهدت عددًا من الرسائل العسكرية الواضحة التي تصب في اتجاه اقتراب مصر من التدخل في المعركة المرتقبة ضد حكومة الوفاق، ومنها الإشارة إلى حجم القوات بدقة ومهامها: كتيبة دبابات تشتبك تحت ستار نيران المدفعية وحماية وسائل الجوي، وسرية صاعقة تغير على مركز رئيسي للعناصر المعادية، ومجموعة من المظلات تحتل خطًا حيويًا في العمق لحين وصول القوة الرئيسية، بالإضافة إلى لقاء قائد الأركان (منصب ذو طبيعة ميدانية) محمد فريد مع عناصر البحرية، الذي طالبهم خلاله بالحذر من التغيرات المفاجئة في أثناء سير القتال، وتنفيذ المهمات بأقل الخسائر الممكنة.
شكل المعركة
المناورات المنتظرة للطرف التركي ستكون أيضًا نسخة من مناورات “البحر المفتوح” التي أجريت في الـ11 من يونيو/ حزيران الماضي، من حيث الحجم والأهداف، التي شاركت فيها طائرات “بوينغ – KC-135R” للتزود بالوقود جوًا، وطائرات “C-130E” للشحن الجوي، وطائرات “E-7T” للحرب الإلكترونية، ومقاتلات “F-16″، إلا أنها تختلف هذه المرة في الاسم والتوقيت ومستوى التصعيد الخطابي، ويبدو من تكرارها بوضوح أن أنقرة ترنو إلى صقل قدرات القوات على أداء نفس المهمات.
ومن جهته، ورغم أن تدريبات البحرية المصرية موجهة بوضوح إلى نظيرتها التركية، فإن الجيش المصري وضع لنفسه قيدًا عملياتيًا، وسياسيًا قبل ذلك، في بيان مناورات “حسم 2020″ عن طبيعة خصومه في المعركة المرتقبة، الذين وصفهم بـ”المرتزقة” و”الجيوش غير النظامية”، رافعًا شعار: “الجيش المصري يحمي ولا يهدد”، بما يعني أنه يستبعد تركيا، العضو في حلف الناتو، من أهدافه المباشرة في ليبيا، نظريًا على الأقل.
أما قوات حكومة الوفاق التي يصفها الجيش المصري بالمرتزقة، تواصل حشودها العسكرية عند خط سرت/ الجفرة، حيث انضمت إليها مؤخرًا كتيبة 92 مشاة وسرية الشهيد عثمان حمزة، وهو نفس ما تقوم به قوات حفتر، التي شدد السيسي على ضرورة وجودها على رأس القوات المصرية المتوغلة شرق ليبيا، من خلال دفع منظومات “بانتسير” وصواريخ “سكود” والمفارز المدرعة إلى حدود خط وقف إطلاق النار.
وفي نفس التوقيت، يقوم بعض خصوم تركيا، مثل فرنسا واليونان وقبرص بمناورات بحرية على سواحل الأخيرة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، تهدف من ضمن ما تهدف – بحسب محللين عسكريين – إلى ضبط موازين القوى في معادلة شرق المتوسط، ومحاولة لجم تركيا عن القيام بأعمال غير محسوبة، عند اندلاع المواجهة المرتقبة بين قوات حفتر وداعميه وقوات حكومة الوفاق في سرت.