تجيد أبو ظبي إستراتيجية العزف المادي على أوتار فقر الشعوب وحاجة الحكومات، لتحقيق مصالحها الخارجية عبر آلية التنسيق الأمني والتعاون الاستخباراتي وهو الباب الأكثر انفتاحًا للحصول على خدمات المرتزقة والمقاتلين للمشاركة في ساحات المعارك نيابة عن الجيش الإماراتي النظامي.
حرص أبناء زايد في تدشينهم لجيش المرتزقة الذي يتولى القتال في الصفوف الأمامية في اليمن وليبيا، على تنويع جنسياتهم وبلدانهم، ضمانًا منها لاستمرارية هذا الرافد حال تعرض علاقتها بأي من الدول التي ينتمي إليها هؤلاء المرتزقة لأي هزة تؤثر على حجم التنسيق معها.
في الحلقة السادسة من ملف “مرتزقة أبناء زايد” نستعرض قبلة جديدة قصدتها السلطات الإماراتية لتنويع جيشها المرتزق البديل، لكن الدفة هذه المرة بعيدة تمامًا عن القارة الإفريقية التي استحوذت على النصيب الأكبر من عناصر هذا الجيش، حيث طرقت أبواب القارة الآسيوية عبر بوابتي الهند وبنغلاديش.
اللافت للنظر أن المرتزقة الذين جلبتهم أبو ظبي من هاتين الدولتين، كانت لهم خصوصية مميزة، فقد دفعت بهم لحماية مشروعها التوسعي للسيطرة على موانئ اليمن على الشريط الساحلي الغربي لها، وهو الهدف الذي تقاتل لأجله الإمارات في اليمن ومناط الخلاف مع الحليف السعودي في سياق الأهداف المعلنة والخفية بشأن التدخل العسكري عبر قوات التحالف منذ مارس 2015 وحتى اليوم.
تأهيل وترحيل
خلال السنوات الماضية دفعت الإمارات بعشرات المرتزقة الهنود والبنغاليين إلى اليمن، لا سيما إلى جزيرة سقطرى الإستراتيجية التي تحكم أبو ظبي قبضتها عليها رغم رفض سكانها للوجود الأجنبي على أرضها، ما دفعهم للتظاهر أكثر من مرة، مطالبين بخروج القوات الإماراتية من جزيرتهم.
وتشير التقارير إلى أن المرتزقة من البلدين الآسيويين وصلوا إلى مقر القاعدة العسكرية الإماراتية بالجزيرة على متن طائرة عسكرية إماراتية خاصة حطت في مطار سقطرى، فيما أشار آخرون إلى أن هذه العملية تكررت أكثر من مرة خلال السنوات الماضية.
أما عن إستراتيجيات التدريب، فتدفع السلطات الإماراتية بالمرتزقة للتدريب بالمعسكرات التابعة لها في أبو ظبي وعدن، ثم يعودون للجزيرة مرة أخرى بعد اجتياز الفترة التدريبية، ليباشروا مهامهم في شن الهجوم المتكرر على الميناء وبعض المرتكزات الأمنية والتنفيذية هناك.
وفي إطار خلخلة التكوين العسكري للجزيرة، بما يسهل من المهام الموكلة للمرتزقة، أطلقت أبو ظبي منحى لسكان سقطرى بشأن الرغبة في السفر للإمارات والعمل كمجندين هناك ضمن جيش الدولة مقابل رواتب شهرية مجزية، والتعهد بإمكانية تجنيدهم في السلك العسكري لمن يثبت جديته وكفاءته.
وبالفعل أغرت تلك الوعود المئات من السقطريين ممن سافروا إلى أبو ظبي للعمل كمرتزقة لصالح أبناء زايد، وبعد تلقيهم دورات تدريبية مكثفة يعاد بهم لتنفيذ أجندة الدولة الخارجية في اليمن أو ليبيا، بجانب دول أخرى في إفريقيا وخارجها.
في سبتمبر 2019 نشرت صحيفة “سقطرى بوست” المحلية وصول دفعات متتالية من الجنود الهنود والبنغاليين، الأمر الذي أثار قلق سكان الجزيرة الذين يصفون الوجود الإماراتي بالاحتلال، لافتة إلى أن عملية جلب المرتزقة الآسيويين لليمن بدأت نهاية 2015 ومستمرة حتى اليوم.
حشد المرتزقة لجزيرة سقطرى على وجه التحديد يرجع إلى ما تمثله من أهمية إستراتيجية ولوجيستية بالنسبة للإمارات
ليسوا جنودًا فقط
لم تكتف أبو ظبي في تدشين جيشها من المرتزقة بالاستعانة بالجنود وفقط، بل تجاوزت ذلك إلى استقدام ضباط وخبراء من الدرجات العليا، نظير مبالغ باهظة، بهدف وضع الخطط والإستراتيجيات وتدريب الجنود على مهام القتال المختلفة.
وبات الجيش الوطني الإماراتي اليوم متعدد الجنسيات والجذور، فكثير من الرتب العسكرية بداخله أجانب، بدءًا من القوات البرية مرورًا بالقوات الخاصة وحتى القوات الجوية والصاعقة، وهو ما كشفته صحيفة “التايمز” البريطانية في تحقيق لها نشرته في ديسمبر 2015.
الصحيفة نشرت ضمن تحقيقها خبر مقتل أحد الضابط الأستراليين ويدعى فيليب ستيتمان في اليمن، الذي كان مسؤولًا عن تدريب المرتزقة الهنود والبنغاليين والسودانيين والكولومبيين، حيث لقى مصرعه خلال اشتباك بينه وبين مجموعة من الحوثيين في محافظة تعز.
التحقيق كشف العديد من الأسماء الأخرى من الضباط التي جندتهم أبو ظبي للعمل لديها كمرتزقة من عدة جنسيات أخرى، منهم أمريكيون وبريطانيون وأستراليون، لافتة أن معظم هؤلاء الضباط تقلدوا رتبًا رفيعة وارتدوا الزي العسكري الإماراتي، وباتوا على قائمة الهرم العسكري لا يتلقون أوامرهم إلا من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي وصفته التايمز بأنه المحرك لجميع قوى المرتزقة داخل الإمارات وخارجها.
لماذا سقطرى؟
حشد المرتزقة لجزيرة سقطرى على وجه التحديد يرجع إلى ما تمثله من أهمية إستراتيجية ولوجيستية بالنسبة للإمارات، ولذا تجيش ما لديها من إمكانات لفرض سيطرتها عليها رغم المعارضة الرسمية والمقاومة الداخلية التي تواجهها من سكان الجزيرة.
وتطفوا على السطح بين الحين والآخر أزمات متتالية بين أبو ظبي والحكومة اليمنية، وتأتي سقطرى على رأسها، خاصة أن القوات الإماراتية لطالما تستهدف الجزيرة بالعديد من العمليات، أبرزها ما حدث في مايو 2018، إثر إرسالها قوات عسكرية تابعة لها سيطرت على المطار والميناء، دون إذن من السلطات المركزية والمحلية اليمنية.
وعلى مدار السنوات الماضية افتعلت أبو ظبي العديد من الخلافات لإحكام قبضتها على الجزيرة عبر إشاعة الفوضى بداخلها، منها ما حدث منتصف ديسمبر 2019، حين أعلن محافظ سقطرى تهريب القوات الإماراتية لعدد من الممنوعين من السفر على ذمة قضايا أمنية، وذلك عبر طائرة إماراتية خاصة، كذلك ما حدث في 30 أكتوبر 2019، حين حاصر مسلحون ممولون إماراتيًا مقر السلطة المحلية بالمحافظة، بهدف إسقاط السلطة الحكومية هناك.
كذلك نجحت الأيادي الإماراتية في التوغل داخل مفاصل الجيش اليمني، محدثة بداخله العديد من الانشقاقات، في مقدمتها إعلان الكتيبة الثالثة التابعة للواء أول مشاة بحري بسقطرى، في 27 فبراير 2019، التمرد على الشرعية اليمنية ورفع الأعلام الانفصالية، وهي الخطوة الأولى لخلخلة التماسك العسكري والأمني بالجزيرة الذي مهد الطريق للعبث الإماراتي بأريحية كاملة.
تحولت أرض اليمن السعيد على أيدي أبناء زايد إلى ساحة لتجميع المرتزقة من مختلف دول العالم
علاقات متشابكة
يأتي استقدام الإمارات لمرتزقة من الهند وبنغلاديش في إطار مساعي الدولة تعميق علاقاتها الآسيوية، وذلك رغم علامات الاستفهام على العديد من مقاصد تلك العلاقة لا سيما فيما يتعلق بنيودلهي التي تمارس العديد من الانتهاكات بحق المسلمين هناك.
وتشهد العلاقات بين محمد بن زايد ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، حالة من التناغم الشديد، ويمكن الاستدلال على هذه العلاقة من خلال اختصاص مودي للإمارات بالزيارة ثلاث مرات متتالية منذ 2015 وحتى اليوم، وهو ما لم يحدث مع معظم الدول الأخرى.
وخلال السنوات الخمسة الماضية حافظت الهند على حضورها الاقتصادي داخل الإمارة الخليجية، حيث تراوحت بين المرتبة الأولى والثانية على قائمة الشركاء التجاريين لأبو ظبي، هذا بخلاف التنسيق المتبادل في عدد من المجالات العسكرية والثقافية الأخرى.
الوضع كذلك مع بنغلاديش، التي بلغ حجم التبادل التجاري غير النفطي بينها وبين الإمارات 1.2 مليار دولار أمريكي عام 2016، وزاد بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية، هذا بخلاف جهود البلدين لتعزيز سبل التعاون الثقافي والسياسي وتحفيز الاستثمارات المتبادلة وتعزيز التعاون الثنائي، وزيادة الرحلات المباشرة بين البلدين.
وهكذا نجحت الإمارات في ترسيخ نظام جديد يعتمد على معادلة الدعم العسكري مقابل التمويل المادي، مستغلة في ذلك – كما أشرنا سابقًا – حاجة الحكومات والدول للاستثمارات الأجنبية من جانب، والوضع المعيشي المتردي لمقاتلي تلك الدول من جانب آخر، حتى تحولت أرض اليمن السعيد إلى ساحة لتجميع المرتزقة من مختلف دول العالم.