وضعت الانفجارات المستمرة التي تشهدها المدن الإيرانية منذ يوم 25 من يونيو الماضي، إستراتيجية الردع الإيراني أمام اختبارات صعبة، فعلى الرغم من نجاح إيران في تحقيق نوع من التوازن الردعي مع “إسرائيل” خلال الفترة الماضية، وتحديدًا في مجال الحروب السيبرانية، فإن ظروف العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، إلى جانب التداعيات الخطيرة التي أفرزتها جائحة فيروس كورونا، أعادت بدورها صياغة قواعد الاشتباك بين الطرفين، بحيث أظهرت الانفجارات الأخيرة عن وهن إيراني كبير في سبل إيقاف هذه الانفجارات.
وعلى الرغم من عدم صدور تصريح رسمي إيراني حتى اللحظة، يوجه أصابع الاتهام لـ”إسرائيل” بالوقوف خلف هذه الانفجارات، فإن المتابع للإعلام الإسرائيلي يستطيع تلمس العديد من الإشارات التي مررها خلال الأيام الماضية، بوقوفها خلف هذه الانفجارات، خصوصًا أن بعض هذه الانفجارات، وتحديدًا في مجمع بارتشين العسكري ومنشأة نطنز النووية، توحي بعملية اختراق استخباري كبير تتعرض له إيران اليوم.
وإلى جانب هذه الانفجارات، تشهد إيران اليوم صراعات سياسية حادة بين المحافظين الذين يسيطرون على مجلس الشورى الإيراني، والرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، بسبب ما اعتبره المحافظون فشل الحكومة الإيرانية في معالجة التداعيات السلبية للعقوبات الأمريكية والتصدي للأزمة الاقتصادية والصحية في البلاد، هذا بالإضافة إلى صراعات أخرى تجري خلف الكواليس بين الحرس الثوري والجيش الإيراني، إذ استجوب جهاز استخبارات الحرس الثوري في 12 من يوليو الحاليّ، العديد من محرري وصحفيي وكالة (إرنا) وهي الوكالة الرسمية للجمهورية الإيرانية، على خلفية لقاء أجروه مع نائب قائد الجيش الإيراني، التي أدلى فيها بتصريحات تظهر حجم التهميش الكبير الذي يعاني منه ضباط الجيش الإيراني، مقابل ما يتمتع به ضباط الحرس الثوري من امتيازات اقتصادية واجتماعية.
توحي التصريحات الإيرانية بعدم اتهام “إسرائيل” رسميًا بالوقوف خلف هذه الانفجارات، برؤية إيرانية واضحة لعدم الرد في الوقت الحاضر
لماذا لم ترد إيران؟
ما زالت إيران حتى هذه اللحظة تفكر في طريقة للرد على هذه الانفجارات، وعلى الرغم من التصريحات غير الرسمية التي عبر عنها مسؤولون إيرانيون، بأن “إسرائيل” هي من يقف خلفها، فإن ضيق أفق الرد أمام صانع القرار في إيران سيدفعه لمزيد من ضبط النفس وعدم الذهاب باتجاه التصعيد مع “إسرائيل”، خصوصًا أن “إسرائيل” تمتلك رؤية واسعة لكل المواقع العسكرية السرية في إيران، بعد عملية استخبارية نجحت فيها “إسرائيل” بالحصول على 111 ألف وثيقة تخص المواقع العسكرية الإيرانية عام 2018، وتحديدًا النووية منها، والأكثر من ذلك شنت إيران هجمات سيبرانية في الداخل الإسرائيلي في أبريل الماضي، إلا أن “إسرائيل” تمكنت من السيطرة عليها، وهو ما دفع قيادة الدفاع السيبراني في إيران، إلى إدخال تحديثات على منظومة الحروب السيبرانية لديها، بسبب الفرق الكبير الذي أظهرته القدرات الإسرائيلية.
إذ نجحت إدارة الفضاء في مديرية الأبحاث والتطوير التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية وهيئة صناعات الفضاء، بإطلاق القمر الصناعي الاستطلاعي “أفق 16” إلى الفضاء الشهر الماضي، وأضافت وزارة الدفاع الإسرائيلية أنه قمر استطلاع بصري كهربائي مُزود بقدرات تقنية متقدمة، مُشيرة إلى أنه خلال الفترة الأولية لتشغيله سيخضع القمر الصناعي لسلسلة من الاختبارات لتحديد مدى ملاءمته ومستوى أدائه، وينتمي “أفق 16” إلى سلسلة أقمار صناعية تحمل نفس الاسم، أطلقت “إسرائيل” أول نسخة منها (أفق 1) في 19 من سبتمبر 1988، وسبق أن تولت أقمار من نفس الفئة مهام مراقبة نطاقات جغرافية بعينها، مثل إيران.
وإلى جانب الفرق الكبير في قدرات الحروب السيبرانية، تظهر الساحات الإقليمية التي توجد فيها إيران، التي كانت حتى فترة قريبة بيئات مهمة للرد الإيراني، وتحديدًا في سوريا ولبنان، لقربها من “إسرائيل”، مدى الصعوبات التي تواجهها إيران هناك، فسوريا اليوم تعاني من تداعيات تطبيق قانون قيصر، إلى جانب الضعف الكبير الذي تعاني منه الدفاعات الإيرانية هناك، التي قد تكون عرضةً لردات فعل إسرائيلية كبيرة، أما لبنان فهو اليوم يعاني من ظروف اقتصادية صعبة للغاية، إلى الحد الذي دفع بزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله إلى عدم الممانعة إذا كانت هناك مساعدات أمريكية مقدمة للبنان.
وعلى هذا الأساس، توحي التصريحات الإيرانية بعدم اتهام “إسرائيل” رسميًا بالوقوف خلف هذه الانفجارات، برؤية إيرانية واضحة لعدم الرد في الوقت الحاضر، خصوصًا أن البيئة الإقليمية غير مواتية لإيران، فمعظم أدواتها الإقليمية تعاني من تحديات أمنية واقتصادية، كما أنها ترزخ اليوم تحت وطأة تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة، ومن ثم فإن أي عملية رد على “إسرائيل”، قد تنتج عنها ردات فعل قد لا تستطيع إيران استيعابها.
الانفجار الأخير في منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم، ربما كان من عمل الموساد وشركائه المحليين، إذ أدى الهجوم على نطنز إلى تراجع برنامج الأسلحة النووية الإيراني إلى ثلاثة أشهر على الأقل
دور إسرائيلي غير معلن
إن قدرات “إسرائيل” في جمع المعلومات الاستخباراتية، أصبحت أهم أداة في الحرب السرية ضد إيران وحلفائها في الشرق الأوسط، حيث كانت الموجة المستمرة من الانفجارات التي طالت المواقع الإيرانية ذات الصلة بالطاقة النووية، والمنشآت العسكرية الحساسة الأخرى في إيران، على الأرجح من عمل الجيش الإسرائيلي وجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، إذ يمتلك الموساد شبكة واسعة من الجواسيس في إيران، كما أثبت عملية عماد الاستخبارية التي نفذها الموساد الإسرائيلي في الداخل الإيراني عام 2018، التي أدت إلى الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران في ذات العام.
فالانفجار الأخير في منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم، ربما كان من عمل الموساد وشركائه المحليين، إذ أدى الهجوم على نطنز إلى تراجع برنامج الأسلحة النووية الإيراني إلى ثلاثة أشهر على الأقل، حسب ما أشار إليه موظفو الطاقة الذرية الإيرانية، وأعقب هذا الانفجار، انفجار غامض آخر في منشأة تابعة للحرس الثوري بالقرب من طهران في وقت مبكر من صباح الجمعة الماضي، ومع ذلك، أخبر الإيرانيون على الفور وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، أنه لم يحدث انفجار أو أن الانفجار وقع في مصنع ينتج أسطوانات الغاز.
إذ نقلت وسائل الإعلام الإيرانية عن عمدة مدينة جاردماره، وهي بلدة قريبة من قاعدة الحرس الثوري، قوله إن انفجارًا في مصنع يصنع أسطوانات الغاز حدث، لكن وسائل الإعلام الإيرانية المستقلة اكتشفت أن العمدة توفي قبل عام، وتحدث عن حدث وقع قبل وفاته، يبدو أن إيران ليس لديها أي دليل عن الذي يستهدف مواقعها العسكرية والنووية، أو كيف تم تنفيذ الهجمات، لكنها تلوم “إسرائيل” بشكل روتيني على الانفجارات الغامضة.