جاء نبأ وفاة الصحفي المصري محمد منير، أمس الإثنين، 13 يوليو/تموز 2020 بمثابة الصدمة للأسرة الصحفية المصرية، لما كان يمثله لدى البعض من حالة استثنائية تلخص حال مهنة الصحافة في المحروسة وما تتعرض له من ضربات موجعة يومًا تلو الآخر، أدخلتها الموت السريري منذ سنوات بعدما قيدتها بسلاسل القمع والتنكيل.
الوفاة جاءت تأثرًا بإصابته بفيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” بعد أيام من إطلاق سراحه من أحد السجون المصرية، عقب اعتقاله بدعوى “نشر أخبار كاذبة” ومداخلة له مع قناة الجزيرة تحدث خلالها عن بعض المسائل الداخلية المتعلقة بأزمة الكنيسة المصرية تعليقًا على غلاف مجلة “روز اليوسف” الممولة حكوميًا.
ويعد منير واحدًا من الصحفيين اليساريين البارزين في مصر، كما أنه أحد رموز تيار الاستقلال بنقابة الصحفيين المصرية، وله باع طويل في التصدي لقضايا المظلومين من أبناء المهنة لا سيما الخاصة بملف الحقوق والحريات بشقيها المهني والسياسي.
الحديث عن إصابة المعارض المصري بالفيروس خلال فترة اعتقاله تفتح مجددًا ملف تفشي الوباء داخل السجون المصرية وذلك بعد التجاهل الواضح من السلطات الرسمية لمناشدات المنظمات الحقوقية خلال الآونة الأخيرة في ظل الأوضاع المتدنية لأماكن إيواء واحتجاز المعتقلين في البلاد، التي تعد بيئة خصبة لتفشي الأوبئة ونقل العدوى، فهل تدق وفاة منير ناقوس الخطر حيال الكارثة التي من المحتمل وقوعها حال عدم التحرك لإنقاذ الآلاف داخل السجون في مصر؟
ويبلغ إجمالي عدد الإصابات بفيروس كورونا في مصر حتى 13 يوليو/تموز الحاليّ 83001 حالة، شفي منها قرابة 24975 حالة فيما بلغت نسبة الوفيات 3935 حالة، بحسب البيان الرسمي اليومي الصادر عن المتحدث باسم وزارة الصحة الرسمية.
مات قهرًا
المأساة بدأت حين بث منير فيديو لاقتحام عناصر من قوات الأمن شقته في 14 يونيو/حزيران الماضي، متهمًا إياهم بالعبث بمحتويات شقته، دون سابق إنذار أو توجيه أي تهم إليه تستوجب هذا التحرك الذي وصفه حينها بأنه يتناسب مع “مجرم خطير أو تاجر مخدرات كبير”.
وفي اليوم التالي مباشرة وفي تمام الساعة الثالثة فجرًا، كتب الراحل على صفحته على “فيسبوك” جملة واحدة “تم اعتقالي من ساعة”، لتخرج أسرته ببيان رسمي على ذات الصفحة تكشف فيه تفاصيل إلقاء القبض عليه من شقة العائلة بمنطقة الشيخ زايد بمدينة السادس من أكتوبر.
الأسرة في بيانها أشارت إلى أنها أبلغت نقابة الصحفيين والمجلس القومي لحقوق الإنسان عن واقعة الاختطاف، مذكرة أن ما حدث مع منير “جاء بعد مشاركته في لقاء تليفزيوني على قناة الجزيرة تحدث فيه عن أزمة الكنيسة المصرية ومجلة روز اليوسف”، منوهة أنه “مجرد تعبير عن الرأي، ولم يقل في كلامه ما يسيئ للوطن أو للوحدة الوطنية بل إنه أحرص الناس على هذه الوحدة الوطنية وتاريخه السياسي والإعلامي يشهد بذلك” على حد قول البيان.
وبعد ما يقرب من 15 يومًا قضاها الصحفي المصري في السجن تم الإفراج عنه في الـ3 من يوليو/تموز الحاليّ، غير أن ظروفه الصحية تدهورت بشكل كبير، ليعلن بعدها بساعات قليلة إصابته خلال توقيع الكشف عليه في مستشفى ليمان طرة “مستشفي السجن” بجلطة وقصور في وظائف الكلى.
وبعد خروجه بأربعة أيام فقط وفي الـ7 من يوليو/تموز بدأت تظهر عليه أعراض الإصابة بفيروس كورونا، حيث بث فيديو مباشر على صفحته يناشد فيه نقابة الصحفيين بالتدخل لتوفير مكان له داخل أي مستشفى، وبعد تدخلات مجلس النقابة تم إجراء التحاليل اللازمة له في مستشفى أم المصريين (حكومي) ليتأكد بعدها إصابته بالفيروس، وعلى الفور تم نقله إلى مستشفى العجوزة “حكومي” لتلقي بقية العلاج.
وبعد تأرجح حالته الصحية على مدار الأيام الخمس الماضية، بين تحسن وانتكاسة، غادر منير الحياة في هدوء تام، إثر إصابته بكورونا، لتفتح وفاته ملف السجون المصرية وتفشي الوباء بداخلها، وهو الملف الذي حرصت السلطات الأمنية في البلاد عدم الاقتراب منه طيلة الفترة الماضية.
العديد من التصريحات والأحاديث تشير إلى إصابة الصحافي اليساري المصري بالفيروس في أثناء وجوده في سجن أحد مراكز الشرطة بمحافظة الجيزة لمدة أسبوعين، وهو ما يزيد احتمالية إصابة نزلاء هذا السجن، هذا بخلاف نقله إلى مستشفى ليمان طرة التابعة لسجن طرة لإجراء بعض الفحوصات الطبية واختلاطه بالأطقم الطبية والمرضى من المساجين هناك كذلك، الأمر الذي دفع بعض الصحفيين إلى المطالبة الفورية بإجراء مسحات عاجلة للمعتقلين والفصل بينهم وتوفير سبل الرعاية الصحية، محذرين من كارثة محققة داخل السجون.
دعوات دون استجابة
منذ إعلان أول إصابة بفيروس كورونا في مصر منتصف فبراير الماضي، خرجت بعض الأصوات تطالب بالإفراج عن سجناء الرأي وتوفير الرعاية الصحية داخل السجون تجنبًا لتفشي الوباء بداخلها، خاصة في ظل التقارير التي تشير إلى تردي مستوى تلك المراكز وكونها أرضًا خصبةً لانتشار الفيروس بصورة سريعة.
لكن كالعادة، قوبلت تلك التصريحات والمناشدات الصادرة عن العديد من المراكز الحقوقية المحلية والإقليمية والدولية بالتجاهل، وهو ما دفع شريحة كبيرة من الحقوقيين للتشكيك في النفي المتواصل من النظام بشأن الوضع داخل السجون.
البداية كانت مع منظمة “كوميتي فور جستس” الحقوقية التي اتهمت مصلحة السجون المصرية بتعمد إخفاء المعلومات بشأن انتشار الفيروس داخل السجون، لافتة إلى اتخاذ وزارة الداخلية بعض الإجراءات لحجب وصول أي معلومات من شأنها أن تكشف حقيقة الوضع داخل مقار الاحتجاز.
كما دشن نشطاء حملة إلكترونية تحت عنوان “خرجوا المساجين” طالبوا فيها بالإفراج الفوري عن المعتقلين لا سيما سجناء الرأي وأصحاب الأمراض المزمنة، خوفًا من إصابتهم بالفيروس الذي بدوره سيصيب المنظومة بأكملها، حراس ومساجين وأطقم طبية وزوار وخلافه.
وتحت عنوان “أنقذوهم” طالبت بعض المنظمات الحقوقية المصرية في بيان مشترك لها السلطات الأمنية في البلاد بإعادة النظر في الظروف الصحية الخاصة بالمعتقلين، وضرورة توفير معايير السلامة الصحية للسجون ومراكز الإيواء، فيما يتعلق بالتهوية ومستوى النظامة وتوفير الرعاية الصحية.
وفي أبريل/نيسان الماضي دعت الأمم المتحدة القاهرة إلى إطلاق سراح “المدانين بجرائم غير استخدام العنف” للحيلولة دون إصابتهم بالفيروس، فيما أوصى المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان روبرت كولفيل السلطات المصرية بالاقتداء بتجارب حكومات الدول الأخرى في التعامل مع السجون في ظل كورونا.
كولوفيل في تصريحات له قال: “إننا قلقون للغاية بشأن خطر الانتشار السريع لفيروس كورونا بين أكثر من 114 ألف شخص في السجون المصرية”، مضيفًا “من بين الذين نوصي بالإفراج عنهم المعتقلين الإداريين وأولئك المحتجزين بشكل تعسفي بسبب عملهم السياسي أو في مجال حقوق الإنسان”.
وقبلها بشهر تقريبًا، بث ناشطون مصريون رسالة مسربة من داخل سجن العقرب تكشف تفشي الوباء داخل المعتقل وتجاهل إدارة السجن لمناشداتهم، وجاء في الرسالة “استغثنا بإدارة السجن والمسؤولين أن أدركونا قبل فوات الأوان، وقد قوبلت الاستغاثة بتجاهل رهيب متعمد ولم يحركوا ساكنًا، فلم يعرض أحد منا على مستشفى ولا جاء طبيب للاطلاع علينا أو فحص أحد منا”.
وفي النهاية يبقى التساؤل: هل تدفع وفاة محمد منير – التي قيل إنها مسؤولية من أخرجوه من منزله وأودعوه السجن رغم كبر سنه – إلى فتح ملف تفشي الفيروس داخل السجون المصرية أم أن الأمر لا يعدو مجرد حملة تعاطف إلكترونية يسدل الستار عنها بتصدير قضية إلهائية جديدة تحول أنظار رواد مواقع التواصل كما هو الحال خلال السنوات الماضية مع القضايا المصيرية التي تواجه المصريين؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.