مرت أربع سنوات على محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وما زالت حتى اليوم لا تغيب ذكرى “أكبر الخيانات في تاريخ البلاد السياسي” – كما يصفها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان – عن ذاكرة الشعب التركي أو خطابات القادة السياسيين، لا سيما أن حزب العدالة والتنمية المعروف بحماسه الشديد لإحياء تراثه وتاريخه السياسي، بذل جهودًا ملموسة لتوثيق تفاصيل هذه الليلة وتصوير النصر الديمقراطي والنضال الشعبي الذي أفشل المخطط الانقلابي.
تنوعت جهود التوثيق بدايةً من إعلان الـ15 من يوليو/تموز من كل عام يومًا للديمقراطية والوحدة الوطنية في تركيا، ونهايةً بإنشاء عدد من المتاحف والأفلام الوثائقية، على اعتبار أن أحداث تلك الليلة “أمانة مباركة يجب نقلها من جيل إلى جيل”، كما صرح أردوغان سابقًا، ومؤكدًا ضرورة وأهمية عدم نسيان هذه الأحداث الدامية، معتبرًا مهمة تذكرها مسؤولية مشتركة بين جميع الفنانين والسينمائيين والمعلمين والطلاب والأكاديميين، فكيف خلدت تركيا ليلة الانقلاب الفاشل؟
المتاحف.. ذاكرة الأمة الحية
افتتح أردوغان منتصف يوليو/تموز الماضي متحف “الذاكرة 15 تموز” في الجانب الآسيوي من إسطنبول، وتحديدًا في مدخل جسر “شهداء 15 تموز”، وبحسب رئيس جمعية “15 تموز”، عبد الرحمن طارق شبيك: “المتحف يظهر مدى وحشية الانقلاب الغادر والدفاع الأسطوري الذي أظهره الشعب التركي ضد الانقلابيين دفاعًا عن قيم الديمقراطية”.
وتابع قائلًا “أقيم المتحف على مساحة ألف و500 متر مربع بجانب نصب لشهداء 15 تموز، ومكتوب في مدخله كلمة (لا تنسى)، ويضم أسماء الشهداء الذين ارتقوا خلال محاولة الانقلاب الفاشلة، وأغراض تخلد ذكرى الشهداء والمصابين في تلك الليلة، إضافة إلى وثائق عن تاريخ الانقلابات في العالم والتاريخ الاستعماري”.
مضيفًا “تضم المعروضات حربة وعمرة (بيريه) ضابط الصف عمر خالص دمير الذي تمكن من إطلاق النار على أحد قادة الانقلاب العميد سميح ترزي ليرديه قتيلًا قبل استشهاده، إضافة إلى هاتف خليوي للمذيعة التركية هاندة فرات، الذي استطاع الرئيس أردوغان من خلاله مخاطبة الشعب التركي عبر شاشات التلفزة، وشحذ هممهم للتصدي لمحاولة الانقلاب الغادرة”.
وأضاف “أما قسم عصر الانقلابات، فيتضمن معلومات عن الانقلابات التي شهدتها دول مختلفة حول العالم، ما بين أعوام 1950-2016، وتسعة محاولات انقلاب شهدها تاريخ الجمهورية التركية”.
كما يتضمن هذا القسم، وفقًا لشبيك، معلومات عن أهم القادة العالميين الذين ناضلوا ضد الاستعمار وأبرزهم مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك والسلطان العثماني عبد الحميد الثاني والزعيم البوسني علي عزت بيغوفيتش والزعيم الهندي المهاتما غاندي.
تشمل معروضاته مقاطع مصورة قصيرة وصورًا فوتوغرافية التقطت ليلة الانقلاب الفاشل، وتحتوي على ممتلكات شخصية لضحايا الانقلاب
تخلد السلطات التركية ذكريات هذه الليلة في متحف آخر بالعاصمة أنقرة، ويسمى “متحف الشهداء والديمقراطية”، بُني على مساحة حوالي 3600 متر مربع، بتكلفة نحو 17 مليون ليرة تركية، يضم أيضًا قاعة مؤتمرات تتسع لـ340 مقعدًا، وقاعة للمعارض الدائمة والمؤقتة، إلى جانب أماكن مخصصة لإقامة ورش عمل للأطفال.
تضم ممراته أيضًا ذكريات 251 شهيدًا فقدوا حياتهم مقابل الحفاظ على قيم الديمقراطية من الانقلابيين، وتشمل معروضاته مقاطع مصورة قصيرة وصورًا فوتوغرافية التقطت ليلة الانقلاب الفاشل، وتحتوي على ممتلكات شخصية لضحايا الانقلاب.
أقامت وزارة الثقافة والسياحة المتحف في حي “قهرمان قازان” الذي كان يُعرف سابقًا باسم “قازان”، إشارة إلى بطولة وتضحية تسعة أشخاص استشهدوا بعد أن فتح الانقلابيون النار عليهم بشكل عشوائي، ويعني اسمه باللغة العربية “البطل”.
المتحف سوف ينقل أحداث هذه الملحمة وغيرها إلى المستقبل من خلال حفظها في ذاكرة الأجيال المقبلة
وهي المنطقة التي تقع فيها قاعدة آكينجي الجوية التي توافدت إليها الحشود لوقف الانقلابيين بعد أن استخدموها كمركز لإطلاق وقيادة عملياتهم، حيث أشعل بعض السكان المحليين محاصيلهم في الحقول المحيطة بالقاعدة الجوية بغرض تصاعد الدخان وإعاقة رؤية الطائرات الحربية التي كانت تقلع من القاعدة لضرب مواقع معينة.
في هذا الخصوص قال وزير الثقافة والسياحة محمد نوري إرسوي، في حفل الافتتاح، إن منطقة قازان كانت شاهدةً على “واحدة من أعظم القصص الملحمية خلال ليلة محاولة الانقلاب المشؤومة”، وأن المتحف “سوف ينقل أحداث هذه الملحمة وغيرها إلى المستقبل من خلال حفظها في ذاكرة الأجيال المقبلة”.
توجد شاشات رقمية في جميع أرجاء المتحف تعرض مقاطع مؤثرة وصورًا معبرة عما حدث في ليلة 15 تموز 2016، وتعرض كيف أمضى أردوغان وعائلته ليلة الانقلاب الفاشل
وأضاف الوزير “هذه هي الذاكرة الحية لأمتنا الكريمة. إن الطبيعة البشرية تقتضي النسيان. لكننا نتذكر ونعي ما حدث في الماضي، رغم صعوبة فهم تأثير الحدث وقيمته في وقت حدوثه.. هذا المتحف هو أحد المعالم الثمينة التي تحفظ الذكرى، وتنقل إلى الأجيال القادمة كيف أن أمتنا الكريمة لم تستسلم، بل قدمت الأرواح صمودًا في وجه هؤلاء الانقلابيين الخونة، الذين سعوا للقضاء على استقلالنا وعلى دولتنا”.
خصصت إدارة المتحف قسمًا خاصًا لـ”الشهداء التسع” الذين قضوا حتفهم في حي قهرمان قازان، إذ تعرض الشاشات الموجودة مقاطع فيديو مدتها ثلاث دقائق تروي قصة حياة كل شهيد منهم على حدة، بينما تعرض رسومًا توضيحيةً عنهم وصورهم وممتلكاتهم الشخصية داخل أكشاك إلكترونية.
وإجمالًا، توجد شاشات رقمية في جميع أرجاء المتحف تعرض مقاطع مؤثرة وصورًا معبرة عما حدث في ليلة 15 تموز 2016، وتعرض كيف أمضى أردوغان وعائلته ليلة الانقلاب الفاشل ومقتطفات أخرى عن الحدث، كما تعطي جدولًا زمنيًا مفصلًا عن تطورات الأحداث، إضافة إلى استعراض معلومات دقيقة تشرح المجريات لحظة بلحظة.
أفلام وثائقية وأخرى قصيرة.. توثيق الأحداث بصورة حيوية وطبيعية
وثقت الحكومة التركية الأحداث التي وقعت في 15 من يوليو/تموز 2016 في عدد من الأفلام، وأبرزها فيلم “الفوضى العميقة” الذي تناول تاريخ بدء أولى المحاولات للانقلاب عبر “الكيان الموازي الإرهابي” التابع لمنظمة “غولن” عام 2013 ووصولًا إلى المحاولة الانقلابية الفاشلة، ومن أكثر مشاهده تأثيرًا، مشهد مساعي الانقلابيين للسيطرة على مبنى هيئة الإذاعة والتليفزيون التركي في العاصمة أنقرة.
في هذا السياق، يرى دنيز أورال، أحد أفراد طاقم التمثيل أن “ليلة المحاولة الانقلابية كانت ليلة سوداء من انقلابيين، أطلقوا النار على جيشهم وشعبهم، وسيكون الفيلم بمثابة الأرشيف واستخلاص الدروس، والناس ستشاهد أحداثًا عاشوها”.
ركزت بدورها السينما التركية على إنتاج فيلم وثائقي آخر بعنوان “تركيا القلعة الأخيرة” استنادًا إلى كتاب “تركيا القلعة الأخيرة” من إعداد المسؤول في وزارة الدفاع التركية فوزي جاقر، الذي تم تصويره في فندق بمدينة مرمريس الساحلية التابعة لولاية موغلا غربي البلاد، وهو المكان الذي كان أردوغان يقضي فيه عطلته مع أسرته ليلة الانقلاب الفاشل، وغادره قبل أن يصل الانقلابيون إليه، وهو المكان الذي يشهد أيضًا على دعوة أردوغان للشعب التركي بالنزول إلى الشوارع والميادين والتصدي لعناصر تنظيم “غولن” الذين حاولوا السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها الأمنية والإعلامية.
تواصلت الجهود في هذا الإطار مع إعلان “اتحاد أوروسيا الإعلامي”، جهة إعلامية مستقلة مقرها تركيا، تصوير فيلم “المحاولة” للفت أنظار الأوساط الدولية إلى وحدة الشعب التركي في ليلة 15 تموز، وعكس مدى خطورة الحدث.
من جانب آخر، اختلفت زاوية التناول في فيلم سينمائي يسلط الضوء على المحاولات الانقلابية الثلاثة التي شهدتها تركيا في 17 و25 من ديسمبر/كانون الأول 2013، و15 من يوليو/تموز 2016، بعنوان “17-25-15 الانقلاب الموازي”، ويجيب عن السؤال التالي: “ماذا كان سيحدث لو نجحت منظمة فتح الله غولن الإرهابية في انقلابها؟”، مع توضيح آلية عمل تنظيم غولن ومحاولاته الحثيثة للسيطرة على الدولة التركية.
انطلقت أعمال مصورة قصيرة أخرى مثل “الوطن لنا والإرادة لنا” و”بُني”، ومعظمها أنتج بلغات أجنبية متنوعة كي تصل إلى أوسع شريحة من المشاهدين والمهتمين بالشأن التركي.
فعاليات دينية.. تذكير بالرحمة والوحدة
تنظم رئاسة الشؤون الدينية بتركيا مجموعة من الفعاليات الخاصة بإحياء هذه الذكرى، إذ ترفع الابتهالات في 90 ألف مسجد بعموم البلاد في نفس الساعة التي جرت فيها محاولة الانقلاب الفاشلة، أي عند الساعة (00:13)، حيث تبقي المساجد أنوارها مفتوحة حتى صلاة الفجر، ومآذنها تصدح منها الأذكار والأدعية والتكبيرات.
ويُقرأ في غالبية المساجد الدعاء الذي يقول:”يا إلهي، كما وحدتنا ليلة 15 تموز كجسد واحد ضد الخونة والظالمين وشبكات الخيانة، وبعد الآن أبقِ وحدتنا وتضامننا واستقرارنا وأخوتنا قائمة، واحفظنا من الانقسام والتشتت والانفصال، يا إلهي امنحنا من لطفك التعاضد واستخلاص العبر من هذا الحادث المشؤوم (الانقلاب)، وارزقنا التصرف بالحكمة والفراسة في مواجهة الفتن والحيل والمكائد، اللهم هيئ لنا تربية أجيال جديدة صالحة محبة لوطنها وشعبها ومحافظة على قضايا شهدائنا”.
وتجري جميع الدورات الصيفية لتعليم القرآن الكريم بالمساجد في اليوم ذاته فعالية خاصة بـ”تخليد ذكرى الشهداء”، علاوة على ذلك يتم تنظيم زيارات لأسر شهداء محاولة الانقلاب الفاشلة، والمصابين خلالها في الفترة ما بين 14-21 من يوليو الحاليّ.
أطلقت الرئاسة حملة “ختم القرآن 100 ألف مرة على أرواح الشهداء”، ونظمت “ولائم القرآن” في المساجد بدلًا من دروس الوعظ والإرشاد
يضاف إلى ذلك، بث برامج خاصة بتلك المحاولة التي نفذتها عناصر محدودة من الجيش تتبع منظمة “فتح الله غولن” الإرهابية، طوال يوم 15 من يوليو في قناة “الديانة تي في” و”راديو الديانة”.
يُذكر أنه في الذكرى السنوية الأولى للانقلاب، أطلقت الرئاسة حملة “ختم القرآن 100 ألف مرة على أرواح الشهداء”، ونظمت “ولائم القرآن” في المساجد بدلًا من دروس الوعظ والإرشاد، كما علقت لافتات ضوئية تُسمى “المحيا” على مآذن بعض المساجد، وكتب عليها عبارات مثل “الرحمة لشهدائنا، ولتكن وحدتنا دائمة، ولتكن أخوتنا دائمة”.
تخليد أسماء الشهداء وبطولاتهم
منذ حلول الذكرى السنوية الأولى للانقلاب الفاشل، أطلقت الحكومة التركية أسماء شهداء التصدي للانقلاب على عشرات المدارس والحدائق ومواقف الحافلات العامة، بما في ذلك جسر البوسفور، وهي إحدى النقاط الرئيسية والرمزية لمحاولة الانقلاب في إسطنبول، حيث أغلقت مجموعة من الانقلابيين الجسر بالدبابات والآليات العسكرية لكن حشودًا كبيرةً من الشعب التركي انتشرت حولها وأجبرتها على الانسحاب، ما ساهم بصورة كبيرة في إفشال المخطط الانقلابي.
فضلًا عن جسر البوسفور، قررت شركة “أوراسيا” المشغلة لمحطات الحافلات في إسطنبول تغيير اسم محطة الحافلات في المدينة إلى “محطة حافلات ديموقراطية 15 تموز”، وتعليقًا على هذا الإجراء قال غالب أوزتورك، رئيس مجلس إدارة الشركات الاستثمارية في تركيا، “إن قرار الشركة مهم في الكفاح ضد منظمة الكيان الموازي الإرهابية بمثابة حرب استقلال ثانية في تاريخ تركيا”، موضحًا أن الاسم الجديد يأتي “لتخليد ذكرى الشهداء الذين قدموا حياتهم فداءً للوطن والعلم والديمقراطية والدولة”.
كما تم تغيير اسم ساحة “كسيكلشيشمي” في منطقة إسكودار إلى “ساحة الإرادة الوطنية”، وذلك بالإضافة إلى العشرات من الأماكن الأخرى، وقد يكون أبرزها نصب “شهداء 15 تموز” في العاصمة أنقرة، وهو المكان الذي يزوره أردوغان ضمن فعاليات إحياء الذكرى السنوية للانقلاب الفاشل، يضاف إلى ذلك إنشاء مؤسسة وقفية خاصة بالشهداء وعوائلهم.
وبصفة عامة، في عام 2019 وحده أطلقت الوزارات والجامعات والمؤسسات العامة والمنظمات غير الحكومية ما مجموعه 1500 برنامج ونشاط في محاولة لإحياء ذكرى الانقلاب الفاشل وشرح مجرياته وأحداثه، وخلال العام الحاليّ، تخطط هذه الجهات لعقد نحو 2238 برنامجًا في تركيا و752 نشاطًا في الخارج، وتحديدًا في في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا والصين وقطر وإيطاليا وبلجيكا وكازاخستان وألبانيا وجنوب إفريقيا وإسبانيا وغواتيمالا وإثيوبيا وبنغلاديش.
يتحرك أردوغان وحزبه الحاكم بنشاط ملفت في المسائل التي ترتبط بالهوية الوطنية والذاكرة الشعبية الجمعية، وأبلغ دليل على ذلك الجهود العظيمة التي ذكرناها، فهو يعتمد في طرحها واستعادة أحداثها بالتمثيلات البصيرة والصوتية المثيرة للعاطفة التي تحفز الزوار أو المشاهدين على الانخراط سياسيًا وعاطفيًا واجتماعيًا مع نسخة معينة من أحداث الماضي التي تشكل جزءًا حساسًا من الذاكرة التاريخية والهوية السياسية.