أحد أهم الأحداث التي وقعت خلال الأيام الماضية بشكل عام، وفي الذكرى الأولى لوفاة الرئيس محمد مرسي في قاعة المحكمة نتيجة الإهمال الطبي بشكل خاص، كانت شهادة المستشار أحمد مكي، وزير العدل الأسبق، على هذه الحقبة، حقبة مرسي.
كانت هذه الشهادة بالغة الأهمية نظرًا لعدد من الأسباب، أولها أنها صادرة عن رجل كان مقربًا من مرسي على المستويين المهني والإنساني لفترة غير قصيرة، منذ حلف اليمين وحتى الاستقالة من وزارة العدل، ثانيًا أنها تضاف إلى عدد من الشهادات السابقة عن تلك الفترة الاستثنائية في تاريخ مصر، وثالثًا أن الرجل – المستشار مكي – أدلى بهذه الشهادة التاريخية، رغم إقامته وأسرته في مصر حتى الآن.
لكن، ومع أهمية هذه الشهادة، فقد استوقفني جانب من حديثه عن دور المؤسسة العسكرية في أحداث الاتحادية، رأيت ضرورة ألا يمر دون التعليق عليه، نظرًا لاحتوائه على خلل “معرفي” قد يؤثر على السردية العامة “المؤكدة” عن أحداث الاتحادية، ويُشوش على ما نعرفه يقينًا عن دور المؤسسة العسكرية في إدارة المرحلة الانتقالية، خاصة إذا تم التركيز على هذا الجانب من الرواية دون غيره أو كان المتلقي غير مُلمٍ بكل كواليس أحداث الاتحادية.
ماذا قال المستشار أحمد مكي؟
حتى يكون القارئ مطلعًا على ما نناقشه، فقد تحدَث المستشار مكي إلى قناة الجزيرة مدة تفوق العشرين دقيقة في اتجاهين: الأول عن “وقائع” كان شاهدًا عليها بنفسه، تساهم روايتها في كشف النقاب عن شخصية الرئيس محمد مرسي الحقيقية، التي تختلف كليًا عما روجه عنه الإعلام المُضلل خلال عامه اليتيم، والثاني عن “رأيه” في تجربة مرسي وحكم الإخوان المسلمين بعد الثورة، وبالأخص إذا قورنت هذه التجربة بوضع ما بعد الثالث من يوليو.
وفيما يخص الاتجاه الأول، تحدث المستشار مكي عن وقائع مثل رفض مرسي النوم قبل خروج أحد صحفيي جريدة الدستور من الحبس الاحتياطي، وتوصله مع المستشار مكي إلى ضرورة تعديل القانون كي يفرج عن هذا الصحفي بشكل مؤسسي، بعد فشل محاولاته للتدخل المباشر من أجل إخراجه من السجن، كما ذكر أن مرسي قطع الطريق على تدخلات “وزراء العدل العرب” في الشأن المصري، رافضًا إيحاءاتهم بتضرر الاقتصاد جراء اعتصامات معارضيه في التحرير، مؤكدًا أن الميدان جزء صغير جدًا من البلاد، والشباب ينبغي أن يعبروا عما يخالجهم بحرية، وتوسع في هذا الاتجاه، حتى تطرق مكي إلى الادعاء القديم عن حرص مرسي على أكل “البط”، الذي أكد أنه فرية إعلامية كما جرت العادة.
ومن خلال اقتراب المستشار مكي من الرئيس الأسبق، رجح مكي أن مرسي كان، بشخصه على الأقل، منفتحًا على خيار تسليم السلطة قبل موعدها، شريطة أن يجري هذا الأمر بعد اكتمال بناء المؤسسات الديمقراطية كافة، متمثلة في مجلسي الشعب والشورى والدستور الجديد، وعبر انتخابات رئاسية مبكرة يدعو إليها الرئيس نفسه طواعية، إذا كان هذا هو الحل الوحيد للاستقطاب المجتمعي الحاد، منوهًا أن مرسي كان حريصًا على ترك مسافة رمزية معتبرة بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين.
يعد كل ما سبق، وغيره مما لا يتسع المقام لذكره، شهادةً تاريخية جريئة، ولكن ما يهمنا في هذا السياق، هو مراجعة ما قاله المستشار مكي عن عرض المؤسسة العسكرية، ممثلة في محمد ذكي قائد الحرس الجمهوري وعبد الفتاح السيسي وزير الدفاع حينئذ، على مؤسسة الرئاسة التصدي لمتظاهري الاتحادية الذين حاولوا اقتحام القصر، ولو باستخدام الرصاص الحي، وهو الأمر الذي رفضه مرسي كما قال مكي.. فهل كانت المؤسسة العسكرية حريصة على حماية مرسي أو نظامه السياسي، خلال أحداث الاتحادية كما توحي هذه الشهادة؟
ماذا حدث في الاتحادية؟
في الحقيقة ما نعرفه يقينًا من خلال الشهادات المتواترة عن أحداث الاتحادية يتنافى تمامًا مع مضمون شهادة المستشار أحمد مكي، فقد اجتمعت قيادات جبهة الإنقاذ الوطني وعلى رأسهم حمدين صباحي ومحمد البرادعي، قبل هذه المظاهرات، في مقر حزب الوفد، مع السفيرة الأمريكية وقتها آن باترسون، اجتماعًا مغلقًا، أبلغتهم فيه الأخيرة – كمعلومة لا كدعم منسق بين السفارة والجيش – أن الجيش المصري سيتحرك ضد حكم الإخوان، إذا نجحت الجبهة في حشد 100 ألف متظاهر أمام الاتحادية لعدة أيام.
وخلال أحداث الاتحادية التي اندلعت احتجاجًا على الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي، نوفمبر 2012، بغرض تحصين مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور، كان أداء القوات الأمنية غاية في الريبة، فقد انسحب الأمن المركزي انسحابًا مفاجئًا، أثنى عليه أحد أبرز قادة المعارضة ميدانيًا في حينها ممدوح حمزة، مما أدى إلى سيطرة المتظاهرين على محيط القصر بعضًا من الوقت، ونجاح أحد المتظاهرين في اقتحام القصر بالفعل، باحثًا عن مرسي، فلم يوقفه إلا “سفرجي” وبعض العاملين بالداخل، ولم تتمكن مؤسسة الرئاسة من التواصل مع وزير الداخلية، أحمد جمال الدين، لمدة خمس ساعات متواصلة، خلال ذروة الأحداث.
وعند منزل مرسي بالتجمع الذي كان يفترض أن يتحرك إليه الرئيس قادمًا من الاتحادية، شرع بعض الضباط في الوقوف وسب أسرة الرئيس الموجودة بالمنزل، وسب الرئيس نفسه، والحديث عن أن الوضع انتهى، حيث سمع العميد طارق الجوهري أحد ضباط القوة المكلفة بتأمين منزل الرئيس حينها من ضباط آخرين أن عددًا من المتظاهرين اختبأوا في “الفيلات” المجاورة، منتظرين قدوم الموكب لمهاجمته، ما دفع الجوهري إلى الاتصال بمرسي سريعًا، لإطلاعه على هذا المخطط، فرد عليه الأخير بأنه لن يعود إلى المنزل، طالبًا منه كتابة مذكرة تفصيلية بما يحدث عنده.
بعيدًا عن المستشار مكي، فإن أخطر ما قد يضرب ملف توثيق أحداث ما بعد يناير، مرورًا بفترة حكم مرسي، وصولًا إلى الانقلاب العسكري، أن تؤدي “الصدمة النفسية” المستمرة منذ سبعة أعوام إلى تغليب “الانحياز التأكيدي” على الشهود
ولما فشل هذا المخطط، نتيجة تدخل الإخوان بسرعة في المشهد أو لعدم وصول أعداد المتظاهرين إلى الحد الأدنى الذي حددته باترسون، بالإضافة إلى نجاة موكب مرسي من الاعتداء الذي وقع عليه بالفعل عقب خروجه من أحد الأبواب الخلفية لقصر الاتحادية، عاود الجيش والداخلية مباشرة تأكيد انتمائهم للوطن – لا إلى فصيل معين – في تصريحات ممنهجة، تلتها دعوة عسكرية “منفردة” إلى القوى السياسية للاجتماع بالسيسي، أسفرت في النهاية عن نشوب أول اشتباك لفظي بين الرئيس ووزير الدفاع نظرًا لشك الرئيس في دوافع السيسي من هذا الاجتماع، وإلغاء الدعوة، ثم الإطاحة بوزير الداخلية، أحمد جمال الدين، خلال التعديل الوزاري التالي، وقد نفى ذكي وأحمد جمال الدين، للمفارقة، في تحقيقات قضية قتل متظاهري الاتحادية بعد الانقلاب، أن تكون هذه الأحداث شهدت عنفًا من المعارضين أو محاولات لاقتحام القصر.
الخلاصة
ليس الغرض من هذا السرد التربص بالمستشار مكي أو حتى إنكار حدوث الاجتماع الذي أشار إليه بعد أحداث الاتحادية، فالمستشار مكي رجل فاضل وشجاع شجاعةً ندر وجودها، بل وأجزم أن الاجتماع حدث كما رواه في شهادته مؤخرًا.
لكن المراد هو بيان أن هذه الشهادة، تحديدًا، وقد أخذت تُتداوَل بكثرة مؤخرًا بغرض إدانة قادة الجيش أخلاقيًا وتبرئة ساحة مرسي من تهمة المشاركة في قتل متظاهري الاتحادية، تلك التهمة التي تحولت إلى موضوع أولى القضايا التي حوكم فيها الرئيس بعد الانقلاب، لا تحمل أي قيمة معرفية وتوثيقية، أكثر من كونها جزءًا من خطة “الخداع الإستراتيجي” كما يسميها يحيى حامد، بل وتساهم في التشويش على خيط طويل من الشهادات التي تؤكد أن أحداث الاتحادية إذا لم يكن قد خُطط لها أن تكون انقلابًا عسكريًا، فقد كانت “بروفة” مكتملة لما حدث في الثالث من يوليو، من حيث توظيف المعارضة المدنية والحشد وحصار الإخوان وتدخل الجيش.
ولعل واحدة من أهم الشهادات غير الشائعة عن أحداث الاتحادية، تلك الشهادة التي حكاها المقاول محمد علي بشكل عفوي إبان مقاطع الفيديو التي كان يصورها، سبتمبر الماضي، لكشف فساد السيسي وعائلته، وقال فيها إنه ذهل من حضور السيسي إلى إحدى الاستراحات العسكرية التي تشهد أعمالًا إنشائية، ثم تفقده تلك الإنشاءات بـ”البُرنس”، بينما كان الإخوان والمعارضون يقتتلون في نهاية أحداث الاتحادية.
وبشكل عام، بعيدًا عن المستشار مكي، فإن أخطر ما قد يضرب ملف توثيق أحداث ما بعد يناير، مرورًا بفترة حكم مرسي، وصولًا إلى الانقلاب العسكري، أن تؤدي “الصدمة النفسية” المستمرة منذ سبعة أعوام إلى تغليب “الانحياز التأكيدي” على الشهود، بحيث ينتقي أو يؤول أو يُخيَل إلى كل من كان قريبًا من مؤسسة الرئاسة حينئذ، أحداث، لخدمة دوافع نفسية انتقامية من المؤسسة العسكرية – التي تسببت في كل ما حدث بعد ذلك بالفعل – أو للدفاع عن الإخوان المسلمين الذين وقع عليهم الظلم لاحقًا.
ومن المعلوم أن الشخص الذي لا يستطيع التفريق بين انحيازاته ودوافعه الحقيقية من جهة، وضرورة قراءة (وتحليل) الأحداث بموضوعية من جهة أخرى، قد يتسبب في تخريب ملف توثيق الأحداث، الذي يندرج، بدوره، تحت مظلة “المحدود، الذي يمكن التأثير فيه إيجابيًا”، بعد سحق الانقلاب كل أشكال الاجتماع ميدانيًا، التي تشمل ملفات أخرى مهمة مثل: توثيق القتلة بالاسم وتقديم الدعم النفسي للضحايا وملاحقة قادة الانقلاب العسكري في المحاكم الدولية.