أعلنت الحكومة المصرية، الإثنين 13 من يوليو/تموز، في بيان رسمي لها، نشرته على صفحتها على موقع فيس بوك، فشل جولة مفاوضات سد النهضة الأخيرة التي استمرت 11 يومًا بين أطراف الأزمة الثلاث (مصر – إثيوبيا – السودان)، والخروج منها دون التوصل إلى أي اتفاق يذكر بشأن النقاط الخلافية.
الحكومة في بيانها أشارت إلى اختتام المحادثات التي جرت برعاية الاتحاد الإفريقي وحضور وزراء المياه والري في الدول الثلاثة، بالإضافة إلى المراقبين، بالاتفاق على قيام كل دولة على حدة برفع تقريرها النهائي عن مسار عملية المفاوضات، إلى جنوب إفريقيا بوصفها الرئيس الحاليّ للاتحاد الإفريقي.
يأتي هذا التعثر الجديد بعد ساعات قليلة من إعلان وزير الطاقة والتعدين السوداني خيري عبد الرحمن، التوصل لاتفاق بين بلاده وإثيوبيا بشأن توفير 3000 ميجاوات من الكهرباء التي ستولد من سد النهضة للسودان، هذا بجانب اتفاقية إقليمية جديدة تخص خمس دول تحصل بموجبها الخرطوم على 1000 ميجاوات بأقل تكلفة.
وزير الطاقة السوداني في تصريحاته التي نقلتها صحف محلية سودانية أوضح أن منسوب المياه المتوقع ارتفاعه بعد تدشين سد النهضة سيعود بالفائدة على بلاده لا سيما في مجال الكهرباء، لافتًا إلى أن هذه الخطوة ستسمح للسودان بإمكانية زيادة السدود الحاليّة.
الاتفاق السوداني الإثيوبي المعلن جاء بمثابة الصدمة للكثير من المراقبين لمسار المفاوضات من الجانب المصري، حيث اعتبروا ذلك انقلابًا واضحًا على الموقف الرسمي للخرطوم الذي جاء داعمًا لرؤية القاهرة خلال الأيام الماضية، وهو ما أثار التساؤل عن دوافع هذا التغير.
المخاوف التي تصاعدت مع التغير الطارئ في الموقف السوداني تعززت بصورة كبيرة مع الصور التي نشرها الصحفي البريطاني بينجامين سترايك، اليوم، لارتفاع منسوب المياه في خزان سد النهضة، ما يزيد من احتمالات بدء أديس أبابا عملية ملء السد بصورة منفردة وهي التي نوهت عن ذلك قبل فترة حتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق مع أطراف الأزمة.
الصور الملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية التابعة لإحدى الشركات الأمريكية وتداولتها مواقع التواصل الاجتماعي، توضح أن عملية الملء ربما تكون قد بدأت، وهو ما يتوافق مع ما تم الإشارة إليه في بعض الصحف المحلية الإثيوبية التي نفتها حكومة أديس أبابا.
يذكر أن المفاوضات بين مصر وإثيوبيا، تشهد تعثرًا كبيرًا لا سيما خلال الجولات الأخيرة، في ظل اتهام القاهرة لأديس أبابا بـ”التعنت في مواقفها” فيما يخص قواعد ملء وتشغيل السد الذي يعول عليه الإثيوبيون في إنتاج الكهرباء، فيما يتأرجح موقف الخرطوم بين الميل إلى هذا وذاك، الأمر الذي أثار الكثير من الشكوك والجدل.
لا جديد
عقد الأطراف الثلاث اجتماعات مكثفة خلال الأيام الماضية، استهدفت التوصل إلى تفاهمات بشأن النقاط الخلافية العالقة بين القاهرة وأديس أبابا على وجه الخصوص، حيث تم استعراض تقارير اللجان الفنية والقانونية التي كشفت اتساع الهوة بين الأطراف.
وزير الخارجية المصري سامح شكري، أكد عقب انتهاء الاجتماعات التي خرجت دون أي تقدم يذكر، أن بلاده ملتزمة بعدم اتخاذ إجراءات أحادية الجانب فيما يخص السد، مناشدًا بقية الأطراف احترام تلك التعهدات وحذو الموقف ذاته، وتجنب أي قرارات من شأنها أن تساعد في توتير الأجواء.
مصر تعترف بحق إثيوبيا في بناء السد دون أن يؤثر ذلك على مصالح شعبه
شكري في تصريحات متلفزة له أوضح أن الفرصة أمام الدول الثلاثة لا تزال قائمة خلال الاجتماع القادم لقمة الاتحاد الإفريقي، منوهًا في الوقت ذاته على أن “الجانب السوداني طرف أصيل في المفاوضات، وله مصالح خاصة به ومصالح مشتركة معنا”.
الوزير المصري أعرب عن أمله في عدم الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي مرة أخرى للبت في هذه القضية، قائلًا “نأمل ألا نعود مرة أخرى لمجلس الأمن، لكن إذا كان هناك ما يهدد السلم والأمن الإقليمي والدولي فهذه المسؤولية تقع على مجلس الأمن لاتخاذ الإجراءات التي تحول دون ذلك”.
وكان شكري قد شدد في تصريحات له في 30 من يونيو/حزيران الماضي على أن بلاده تعترف بحق إثيوبيا في بناء السد دون أن يؤثر ذلك على مصالح شعبه، مطالبًا مجلس الأمن بتحمل مسؤولياته حيال هذا الملف، وذلك من خلال اتخاذ إجراءات فعالة وجدية لمواجهة تلك الأزمة التي تهدد حياة 100 مليون مصري.
القاهرة والخرطوم.. تغلب الخطاب الشعبوي
شهدت العلاقات السودانية المصرية منذ انطلاق المفاوضات بشأن السد في 2011 العديد من موجات المد والجذر، حيث تبنت الخرطوم في كثير من منحنيات التفاوض مواقف معارضة للموقف المصري ومتحيزة بصورة أو بأخرى للموقف الرسمي الإثيوبي.
غير أنه وبعد الثورة السودانية التي أطاحت بنظام عمر البشير في أبريل 2019 تغير الموقف الرسمي للخرطوم بصورة نسبية، مستندًا إلى سياسة “مسك العصى من المنتصف”، حيث انقسم المفاوض السوداني بين التأرجح في موقفه بين القاهرة وأديس أبابا.
يرتكز الخطاب في الصحافة السودانية على التنصل من العمق العربي الإسلامي للبلاد، يقابله خطاب مضاد من القاهرة يشيطن الجار الجنوبي
وبعد حالة الاطمئنان التي سادت الشارع المصري بصورة مؤقتة بشأن التحول في الموقف السوداني سرعان ما انقلب الوضع مرة أخرى في مارس الماضي، حيث فوجئ الجانب المصري بتحفظ الخرطوم على القرار الصادر من مجلس الجامعة العربية في الرابع من الشهر والخاص برفض المساس بالحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل.
الخرطوم بررت موقفها بتجنبها إقحام الدول العربية في ملف شائك ما زال قيد الدراسة والمناقشات، مؤكدة ضرورة اتفاق أطراف الملف الثلاث قبل اتخاذ أي إجراء لا يضع في اعتباره الطرف الآخر، وهو الموقف الذي أثار حفيظة القاهرة بصورة كبيرة.
“نون بوست” في تقرير سابق له استعرض حجم وطبيعة الخطاب الشعبوي الذي يسيطر على وسائل الإعلام في كلا البلدين، ويعكس حالة الاحتقان المتصاعدة بسبب المواقف من السد، حيث يرتكز الخطاب في الصحافة السودانية على التنصل من العمق العربي الإسلامي للبلاد، يقابله خطاب مضاد من القاهرة يشيطن الجار الجنوبي.
التقرير تطرق إلى أبرز المحطات التاريخية التي غزت هذا الخطاب العدائي بين البلدين، بداية من مذبحة مصطفى محمود من الشرطة المصرية ضد المتظاهرين السودانيين، مرورًا بفرض تأشيرة دخول على السودانيين وتعطل اتفاق الحريات الأربعة (حرية الدخول والخروج والتنقل والامتلاك)، وصولًا إلى القيود والتضييق الممارس ضد الطلبة السودانيين في القاهرة.
تعنت إثيوبي وبراغماتية سودانية
الموقف السوداني من مسار التفاوض كان حاضرًا بقوة على طاولات النقاش من الخبراء المعنيين، حيث أشاروا إلى أن الموقف لم يتغير لكنها البرغماتية التي تحدد ملامح وتوجهات السياسة الخارجية للخرطوم، فمصالحها والمكاسب المحققة هي التي تحدد الدفة سواء إلى القاهرة أم أديس أبابا.
أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، نادر نور الدين، يعتبر أن زيارة الوفد الإثيوبي برئاسة وزير الخارجية وعدد من الوزراء للسودان منذ عدة أيام محاولة إثيوبية لشراء ولاء الخرطوم وإبعادها عن الجانب المصري على حد قوله، كاشفًا أن البرغماتية السودانية اتضحت بصورة جلية “بإعلان وزير الطاقة السوداني بأن إثيوبيا ستمد السودان بنحو 3 آلاف ميجاوات من كهرباء السد بسعر 5 سنتات للكيلووات – رغم أن تكاليف التوليد 8 سنتات – أي أن إثيوبيا ستخسر من أجل شراء ولاء السودان”.
الخبير المائي المصري طالب بزيادة مماثلة يقوم بها “وفد وزاري مصري لتمويل السودان بالكهرباء الزائدة في مصر والآن وليس بعد ثلاث سنوات كما وعد الوفد الإثيوبي” مختتمًا مقاله المنشور على صفحته الرسمية على فيس بوك بسرعة التحرك قبل فوات الأوان مضيفًا “نحن لا نحسن قراءة الأحداث”.
أما وزير الري المصري الأسبق، محمد نصر علام، فيرى أن بياني وزارتي الري المصرية والسودانية المتعلقين بفشل المفاوضات تحت مظلة الاتحاد الإفريقى، يهدف لما أسماه “طمس متعمد” لحقيقة أن التعنت الإثيوبى هو سبب فشل المفاوضات الماضية والحاليّة والقادمة.
ويلمح علام إلى تواطؤ بين الاتحاد الإفريقي وأديس أبابا من أجل إفراغ أزمة سد النهضة من مضمونها، حتى يتم تصديرها للعالم على أنها ليست سوى خلافات في الرأي بين الدول الثلاثة، متسائلًا: هل يقر الاتحاد الإفريقي بفشله في حل الأزمة أم يفاجئنا بتحويلها إلى إحدى لجانه لقتل القضية تمامًا!؟
وفي الأخير يبقى الموقف السوداني مثار حديث وتساؤل قطاع كبير من المصريين في انتظار ما ستسفر عنه الجولات القادمة ومدى انتصار براغماتية الجارة الجنوبية على حقوق العروبة والتاريخ المشترك في ظل اعتماد المفاوض المصري على دبلوماسية النوايا الحسنة التي وضعته في هذا المأزق.