في صيف عام 2017 قامت وحدات خاصة من الشرطة الألمانية بمداهمة أحد المنازل في ولاية مكلنبورغ لتجد مخبئًا يحوي 50 ألف طلقة ذخيرة، وصاحب تلك الذخيرة هو مدرب القناصة في الشرطة الجنائية في المكتب الإقليمي للتحقيقات الجنائية ماركو جي، حتى الآن لا شئ يثير الريبة، قد يكون الأمر متعلق بتجارة غير شرعية للأسلحة.
لكن القصة بدأت تأخذ منحًا آخر حين تبين أن تلك الأسلحة هي ذات الذخيرة التي تم الإبلاغ عن فقدانها من عدة معسكرات من الشرطة والقوات الخاصة الألمانية الموجودة في أنحاء البلاد! ما يعني وجود شبكة واسعة لتوريد تلك الذخائر، لاحقا تأكد وجود تلك الشبكة فعليًا، لكن غرضها لم يكن المتاجرة بالأسلحة، وإنما انقلاب عسكري يميني يضم 2000 مقاتل معضمهم من الجيش والقوات الخاصة مدعومين بسرب من طائرات يوروفايتر، إحدى أحدث الطائرات العاملة في حلف الناتو!
في تحقيق موسع أجرته شبكة DW الألمانية شمل لقاءات مع مسؤولين ومحققين كبار في وزارة الداخلية، اتضح أن ماركو جي ليس سوى جزء مرئي صغير من تلك المنظمة التي تُعرف باسم “صليب الشمال”. حيث تضم في معظمها جنودًا سابقين وضباطًا حاليين في القوات الخاصة الألمانية، تبين من خلال المحادثات التي أجراها في مجموعات الرسائل المشفرة “تيليغرام” أنهم جميعًا من أصحاب الفكر اليميني. لاحقًا وبعد عامين من التحقيقات وتحديدًا في يونيو 2019، تمكنت الشرطة من العثور على 31 ألف طلقة نارية و200 كيس جثث في 14 موزعة على 14 عقارًا في الولاية، كانت الرصاصات من النوع العسكري الهجومي الخارق للدروع والحواجز، معدة لمهاجمة الحرس الشخصيين.
وكالة المخابرات الداخلية الألمانية قالت إن “صليب الشمال” وضعت قائمة بـ 5000 شخص بينهم الرئيس السابق يواكيم غوك ووزير الخارجي هيكو ماس ونائبة وزير الدفاع “البوندستاغ” كلاوديا روث إضافة لسياسيين يساريين واشتراكيين ومتعاونين مع اللاجئين بينهم رؤساء منظمات مدنية، وفي حال الوصول لساعة الصفر، سيقوم مجموعة من الضباط باقتياد الأهداف بذريعة حماية أمنها الشخصي، ونقلها في عربات الدولة العسكرية ثم إعدامها في أماكن معينة، بعدها ستقوم المنظمة باستلام زمام المبادرة في البلاد بعد الخلاص من مناوئيها.
لم يكن هذا التفصيل هو الأكثر رعبًا في الخطة، إذ تم اكتشاف تشعب التنظيم من خلال أحد أفراده وهو يورغ أس، ضابط برتبة رقيب أول في الجيش الألماني، وهو مسؤول عن أحد نقاط التجمع التي رتبها أعضاء المنظمة في 9 مدن في ألمانيا، حيث تبين أن من كسبه للتنظيم قائد أحد الأسراب في قاعدة “روستوك لاكه” التي يتمركز فيها طائرات يوروفايتر المقاتلة، نقطة أخرى تعكس مدى تغلغل وجدية المنظمة في القوات المسلحة الألمانية!
ربما يكون الأغرب من هذا التنظيم المتطرف، ردة الفعل الحكومية بالغة التراخي على هذه المعلومات، وعلى ازدياد نفوذ التيار اليميني في القوات الألمانية. حُكم على ماركو جي 21 شهرًا ووُجهت الاتهامات لـ3 من أعضاء التنظيم بتهمة حيازة الأسلحة بطريقة قانونية وانتهى الأمر عندك ذلك، وزير الداخلية هورست زيهوفر مثلا اكتفى بالقول في ديسمبر 2019 بأن على ألمانيا بذل المزيد لمحاربة التغلغل اليميني، وأعلن وظائف جديدة لموازنة نسبة المتطرفين مع المعتدلين!
الأعضاء لا يزالون طلقاء، والمنظمة موجودة لا أحد يكترق لأمرها! وهنا يبرز السؤال: ما أسباب هذا التراخي؟
اليمين مقابل الإرهاب: الإرهاب لا يقوض الديمقراطية، اليمين يفعل!
لا يمكن اعتبار هذه الحادثة التي لا تزال احتمالاتها قائمة حتى الآن كما تصف عضو حزب اليسار مارتينا رينر بالقول إنها “لا تستطيع تخيل هؤلاء القوم يجلسون بهدوء دون أن يفعلوا شيئًا إزاء أي أزمة يمكن أن تصيب البلد”، لا يمكن اعتبارها حدثًا عرضًا لمجموعة من المتهورين الحالمين بألمانيا وأوربا نازية جديدة.
فالظاهرة لها أبعاد أخرى تظهر تجلياتها مع صعود مخيف للتيار اليميني، الذي يستغل ملف اللاجئين “المسلمين تحديدًا” لإقناع الجمهور بمشروعه المتطرف، هذا الصعود وما رافقه من هالة إعلامية حول خطر الإرهاب والمسلمين، أعطى المتطرفين اليمينيين فرصة للتحرك طالما أن الأنظار لا تتجه نحوهم.
في بحث نشره مركز مكافحة الإرهاب والتطرف في هولندا يقول الدكتور آرون كودناني: “لقد نسيت أوربا في غمرة ما تعتقد أنه مجابهة للإرهاب، خطر اليمين في الداخل، يقوم اليمينيون بأعمال تستهدف البلدان الأكثر انفتاحًا، وهم يقعلون ذلك لتقويض الديمقراطية وفرض تشدد سياسي يرون أنه الأفضل لحماية أوروبا”.
إن صعود اليمين الذي صاحب موجات الهجرة عقب الحروب في الشرق الأوسط، بدأ بالتجلي منذ العام 2016، صعد اليمينيون بمشروعهم لحماية الغرب من التغيير الكبير مصحوبين بصرخات من مثل “لن تستبدلوننا” التي أطلقها الكاتب الفرنسي رينود كاموند في كتابه “الاستبدال العظيم” أو “لن تغيروننا للإسلام” كالتي أطلقها كريستوفر كالدويل مؤلف كتاب “ثورة في أوروبا”.
هكذا وبحلول عام 2018، كان اليمينيون قد اكتسحوا الإنتخابات في أهم البلدان الغربية:
– في إيطاليا، التي تعد من أكبر الدول الأوروبية المستقبلة للاجئين، فاز حزب الرابطة، ثم تحالف مع “حركة 5 نجوم” اليمينية (انتزعت وحدها 33 في المئة من أصوات الناخبين)، وكلاهما من المعادين للمهاجرين والأجانب، وشكلا حكومة برئاسة ماتيو سالفيني.
– في السويد، فاز حزب ديمقراطيو السويد، الحزب القومي اليميني المعادي للأجانب، بأكثر من 17.6 في المئة من أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية، وهو أكبر اختراق لهم في ذلك البلد الذي عرف عنه توجه نحو يسار الوسط واليسار على مدى عقود طويلة.
– أما في ألمانيا، التي سارعت إلى تطبيق سياسة الباب المفتوح للاجئين، فقد حقق اليمين المتطرف والمتمثل بحزب البديل اختراقا كبيرا بدخولهم البرلمان الألماني في تحد واضح لسياسة ميركل المتعلقة بالمهاجرين واللاجئين حيث فاز في حوض الرور الصناعي الذي يعبر تاريخيا معقل اليسار الاشتراكي.
– في دول أوروبا الشرقية، يتولى الحكم في هنغاريا رئيس الوزراء الشعبوي واليميني المتطرف فيكتور أوربان، وكذا الحال في بولندا التي يقودها الشعبوي ياروزلاف كاتشينسكي، والحال ذاته في سلوفاكيا حيث الشعبوي روبرت فيكو.
– قبل ذلك كله لا يمكن نسيان دونالد ترامب في الولايات المتحدة عام 2016 وبوريس جونسون في بريطانيا عام 2019.
الفاشية والنازية والشيوعية صعدت في أوروبا بنفس تلك الدعاوى التي ينادي بها اليمينيون
قد يكون من المفارقة القول إن صعود اليمين المتطرف -لا الإرهاب- هو الخطر الحقيقي على الغرب، لكن ذلك يحمل أوجها عديدة من المنطق. فما يصفونها بالجماعات الإرهابية لا تنوي إقامة دولة لها في أوربا ببساطة!، جل ما تريد فعله الإنفراد بالأرض في الشرق لتحكم بما ترى أنه تطبيق الشريعة، إنها تريد تخويف أوربا وإبعادها، وهي بمعنى آخر، تستهدف الأجساد لا أنظمة الحكم أو الأيديولوجيات.
على الجانب الآخر، لا يخفي اليمين أهدافه صراحة في تطبيق نظام متشدد ضد الانفتاح الذي يرى منظروه أن سيكون سببًا في القضاء على هوية أوروبا. تدعو الشعبوية اليمينية كما يقدمها الكاتب كاس مود مؤلف كتاب “مقدمة بسيطة في الشعبوية” إلى “تقسيم الشعب إلى قسمين “الطبقة الشعبية النقية” والطبقة الفاسدة، ثم تقديم مصلحة الشعب بتدمير الفاسدين”، والفاسدون هنا هم المسلمون – باعتبارهم رمزا يسهل استخدامه للترهيب – الذين يجب القضاء عليهم بتطبيق أحكام أكثر تشددًا وقمعًا، وهنا تكمن المشكلة! فهؤلاء الغرباء في أوروبا الآن وليسوا في الشرق، فهم إما مواطنون أصليون تحولوا للإسلام، أو أنهم حصلوا على المواطنة الكاملة أو أنهم مقيمون في البلدان الغربية، وتطبيق مثل تلك الإجراءات – التي لا تقبل القسمة – عليهم تعني تحول دول مثل ألمانيا وبريطانيا إلى دول بوليسية تضع القمع لا الحريات، همها الأول.
دعونا لا ننسى أن الفاشية والنازية والشيوعية صعدت في أوروبا بنفس تلك الدعاوى التي ينادي بها اليمينيون، استعادة المستعمرات واستعادة مجد ألمانيا الذي نادى به هتلر، توازي الهوية الألمانية التي ينادي بها صليب الشمال.. التيار الأكثر تطرفًا بين اليمين الذي يبدو أنه في طريقه أن يقوض هوية أوروبا بحجة حمايتها.. فهل علينا أن نتظر ساعة الصفر لقراءة البيان رقم 1 في محطة الـDW؟