استطاعت الحضارة الإسلامية تغيير وجه الطب حتى يصل إلى ما هو عليه اليوم، فقد ساهم العلماء المسلمون بنقل الطب من الدجل والخرافة إلى تأسيس منهجية علمية فاقت حدود عصرهم، وتحديدًا في الفترة بين عامي 750م و1450م حين أصبحت الحواضر الإسلامية مثل بغداد والقاهرة ودمشق وقرطبة منارات يهتدى بها لقرون عديدة.
نتناول في ملف “أطباؤنا المعاصرون” الحديث عن قامات معاصرة في الطب وضعت بصمتها وشقت طريق المجد بالصبر والاجتهاد وأيقنوا أن العلم ضالتهم فسعوا له وبذلوا، فاستحقوا أن يصلوا إلى العالمية وتكتب أسماؤهم بحروف من نور على جبين البشرية، ولكن بدايةً نلقى الضوء على إسهامات العلماء في مجال الطب على مر تاريخ الحضارة الإسلامية.
إنجازات الحضارة الإسلامية في حقل الطب
– التداوي
أول ما قامت به الحضارة الإسلامية هو سن مفهوم “التداوي” وهو ما جاء به الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) حين قال: “تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له دواءً، غير داء واحد الهرم”، وبذلك تم وضع الحجر الأساس لمبدأ إقرار العلة ثم البحث عن علاج لها بعيدًا عن موروث الحضارات والديانات التي سبقت الإسلام بمفهوم العقوبة الملقاة على البشر على شكل أمراض وأوبئة، على سبيل المثال ظن الفراعنة أن المرض يرتبط بالسحر والأرواح الشريرة، بينما ذهب الإغريق وسكان بلاد الرافدين والهندوس إلى ربط المرض بعقوبات الآلهة، أما المسيحيون واليهود فقد ربطوا وقوع المرض بغضب الرب.
وبذلك استطاع الإسلام أن يحدث هذه النقلة بالتفكير وطريقة التعامل مع المرض، واستطاع أن يلغي وصم المريض بعار الآثم وتنكر الناس له إلى ترسيخ مفهوم المرض والتداوي والبحث عن العلاج بعيدًا عن الخوارق.
-الترجمة والتدقيق
تحركت الحضارة الإسلامية لصناعة علم الطب، حين ابتدأت بصهر كل المعارف التي سبقتها إلى العربية عن طريق ترجمة جميع المؤلفات من لغات عديدة مثل اليونانية والسريانية والبهلوية وغيرها من اللغات، وبلغت الترجمة أوج ذروتها في عصر العباسيين عندما نقل هارون الرشيد المؤلفات والمخطوطات والتراجم من مكتبة القصر الخاصة إلى مكتبة عامة أسماها “بيت الحكمة” فتحت أبوابها لطلاب العلم وغدت مركزًا للعلم والبحث والترجمة.
عندما تنظر إلى الآلية التي اتبعها الأطباء المسلمون لوضع أسس الطب والهيكلية المتبعة لممارسة الطب آنذاك، لا بد أن تقف مذهولًا أمام عظمة ما وصلوا إليه، فالخطوة التالية التي اتبعوها بعد ترجمة العلوم والمعارف السابقة هي نقد وتدقيق المعلومة والتحقق من صحتها.
-التدوين والتأليف
الخطوة التي اتبعها المسلمون بعد ذلك هي التدوين، حيث وضعوا أول نظام صحي يعتمد على التدوين مشابه لما هو عليه اليوم، ولم يكن التدوين مقتصرًا على الحفاظ على المعلومات الطبية ونقلها بل جعلوه أداةً لتقييم جودة الرعاية الطبية المقدمة.
ثم تلتها خطوة أخرى بوضع مؤلفات طبية كمنهج لدارسي الطب، حيث وضع الطبري أول موسوعة طبية “فردوس الحكمة” الذي يقع في 7 مجلدات، ثم تلاه كتاب “الحاوي” للرازي الذي بقي كتابه مرجعًا لدراسة الطب في أوروبا حتى القرن السابع عشر، كذلك قانون ابن سينا الذي أطلق عليه الأوروبيون “إنجيل الطب”، حيث أصبح مرجعًا باعتباره موسوعةً في الطب حتى القرن الثامن العشر.
استطاع عدد من أطباء المسلمين أن يدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه بإسهامات أغنت مسيرة الطب والبشرية جمعاء إلى الأبد
-أساسيات وأخلاقيات المهنة
كما أسس المسلمون هيكلية ممارسة الطب بشكل مقارب للعصر الحديث، حيث وضعوا شروطًا لمزاولة مهنة الطب (مفهوم الترخيص في يومنا هذا)، بحيث يشترط على الطبيب آنذاك أن يكون ملمًا بالتشريح والأمراض وطريقة علاجها، وأنشأوا مستشفيات متطورة ووضعوا مفهوم الردهات بقسمين للنساء والرجال، وألحقوا الصيدليات بالمشافي واهتموا بشكل ملحوظ بنظافة المؤسسة الصحية حينها (نظافة الأفراد ونظافة المكان) وجعلوا المستشفيات مراكز للبحث والتدريب.
ورغم شمولية النظام الطبي آنذاك، فإن الأطباء المسلمين أضافوا نقلة إلى الطب بإضافة مفهوم “الاختصاص الدقيق”، فكان هناك الجراحون كالزهراوي وأطباء العيون (الكحالين) كعمار الموصللي وأطباء اختصوا بالبحث عن الأمراض الخلقية وآخرون اهتموا بالأمراض الجلدية ومنهم من اهتم بفلسفة الطب وأخلاقياته.
-اكتشافات وابتكارات
استطاع عدد من أطباء المسلمين دخول التاريخ من أوسع أبوابه بإسهامات أغنت مسيرة الطب والبشرية جمعاء إلى الأبد، مثل العالم الموسوعي الطبيب ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى بـ300 عام سبقت ويليام هارفي حيث قال: “إن الدم يُنقّى في الرئتين من أجل استمرار الحياة وإكساب الجسم القدرة على العمل، إذ يخرج الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين، حيث يمتزج بالهواء، ثم إلى البطين الأيسر”، داحضًا ما كان يُعتقد عن انتقال الدم مباشرة من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر في القلب.
أما الزهراوي الذي يعتبر الأب الروحي للجراحة، فقد ابتكر العديد من الآلات الجراحية لفحص الإحليل والأذن وأحدث نقلة نوعية في الطب، حيث صنع خيوط الجراحة من أمعاء القطط والحيوانات واستطاع إجراء العديد من العمليات الجراحية المعقدة مثل سحق حجر المثانة وهو أول من أجرى هذه العملية عبر التاريخ، وأجرى عمليات إيقاف النزيف عن طريق ربط الشرايين، وابتكر أدوات إجراء القسطرة، كما عالج الأمراض النسائية مثل التصاق المشيمة وابتكر جهازًا لسحب الجنين الميت وعلاج الحمل خارج الرحم والولادات المتعسرة، هذا بالإضافة إلى معرفته الواسعة بالأدوية وتراكيبها، لذلك يعد عراب الجراحة دون منازع.
أما الطبري، على الرغم من وضعه “فردوس الحكمة” الذي يعد من أقدم الموسوعات الطبية لدارسي الطب، فقد اهتم بالجانب النفسي للمريض وشدد على أهمية العلاجات النفسية الداعمة لخطة العلاج.
والرازي الذي يعتبر أعظم طبيب في تاريخ البشرية، بعد مسيرته في الطب ووضعه الحاوي، التفت إلى جانب مهم بوضعه أسس أخلاقيات الطب وطريقة تعامل الطبيب مع المريض، أما الشيخ ابن سينا والمعروف عند الغرب بأمير الأطباء، استطاع أن يسبق الزمن بملاحظاته السريرية، حيث وصف الأمراض الطفيلية التي تصيب الأمعاء، وتكلم في كتابه “القانون” عن الأمراض الجلدية وطريقة علاجها، وعلاج الأمراض العصبية والشلل والسكتات الدماغية وشخص أمراض الكلى والمغص الكلوي وحصى الكلى.
ومنصور ابن إلياس اختص بتشريح جسم الإنسان، واضعًا أطلسًا مصورًا لأجهزة الجسم.
اليوم يعيش المسلمون حالة من التباكي على تلك الحضارة المشرقة وعندما يطلعون على إسهامات الأجداد مقارنة بحال اليوم تلازمهم حالة من الشعور بالدونية وأن زمن التفوق ولى من غير رجعة، متناسين أن الحضارات تبنى ببذل أبنائها لا بالتباكي والكسل.
ربما من المهم جدًا التعريف بالنماذج الوضاءة لجيل الشباب الذي يعاني من فقدان الثقة بالذات والانبهار بالحضارة الغربية، فيقرأ عن سيرهم كمعاصرين لنا عاشوا بنفس الظروف التعيسة من بلدان متنكرة لعقول أبنائها، من فقر وعازة، من حرمان الأم والأهل، أو من مقاساة اللجوء والغربة والكثير من العقبات، لكن ميزتهم كانت بالهمّة، بإيمانهم بأن المساهمة والثبات هي طريق الوصول.
لماذا ينبغ الأطباء بعيدًا عن بلدانهم؟
“هجرة الأدمغة” المصطلح الذي يطلق على هجرة الكفاءات من دول العالم الثالث والبلدان الفقيرة إلى الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية، وما تثيره هذه الهجرة من مناقشات وأبحاث عن البعد الأخلاقي لحرمان هذه الدول من فرص التقدم وتطوير واقعها عن طريق هذه العقول والضرر الذي يلقيه سفر هؤلاء الأطباء على الأنظمة الصحية في بلدانهم من تبعات، لكن يبقى اللوم الأكبر واقعًا على عاتق بلدانهم الأم للأسباب التالية:
– إهمال العقول وعدم الاهتمام بالنتاج المعرفي
يشترك الأطباء الذين سنتحدث عنهم في أنهم تلقوا تعليمهم الأكاديمي الأول ببلدانهم، لكنهم نبغوا وأضافوا للطب الحديث إسهامات لا تحصى في المهجر، والسبب واضح جدًا، أن أمريكا ودول أوروبا تعتبر دول حاضنة للعبقرية والعقول المهاجرة، حيث تمنح الفرص وتضع ميزانيات للمؤسسات البحثية تعادل ميزانيات الدول العربية مجتمعة.
– القمع الفكري وامتهان الطبيب
أضف إلى ذلك سعة أفق الحرية في الغرب بعيدًا عن التضييق والقتل الذي تتعرض له الكفاءات والحرمان من حقوق الملكية الفكرية، فالغرب يكفل الرفاهية المادية للمخترعين والمبتكرين عن طريق قوانين الملكية الفكرية على خلاف بلادنا التي تجعل العالم يعاني العوز ولا تضمن حقوق الابتكار.
– الحرية والكرامة
تكفل الدول الغربية كرامة العلماء بعيدًا عن التسييس الذي تنتهجه دول العالم الثالث، حيث يضطر الطبيب في هذه البلدان إلى تمجيد الحكام بينما تفصل دول الغرب العلم عن السياسة.
– التهميش
كثيرًا ما نسمع عن قصص عودة العقول والكفاءات إلى بلدانها، فرغم الفرص المغرية التي تقدمها البلدان الغربية، يفضلون خدمة بلدانهم والإسهام في تقدمها في مجال اختصاصهم، لكن التهميش غالبًا ما ينتظرهم، فتعرض عليهم وظائف إدارية سخيفة أو يطلب منهم سلسلة من المراجعات لدوائر الدولة الحكومية لأجل قبول الاعتراف باختصاصهم والكثير من العراقيل التي تضطرهم للعودة مرة ثانية.
– الزواج من الأجنبيات
ربما يتزوج قسم من هؤلاء الأطباء من جنسيات البلد الذي درسوا وبذلك تكون العائلة وارتباط الأطفال بتلك البلدان صعب جدًا قطعها.
ولأن هؤلاء الأطباء فرضوا أنفسهم كأطباء بأفق إنساني عالمي، فإن إسهاماتهم مظلومة إعلاميًا، لذلك كان لا بد من تسليط الضوء على سيرتهم ليستطيع الشباب أن يخلقوا نماذج وقدوات يسيرون على خطاها، وكمحاولة أولى يُوصى بنشر مقالات عن حياتهم وسيرتهم العلمية، وكخطوة تليها يمكن أن تتبنى المؤسسات التربوية حملة تعريف بهم ضمن مناهجها التعليمية ومن ثم من الممكن للجامعات التواصل معهم لخلق برامج دعم وتبادل للطلاب لما لهؤلاء الأطباء من ثقل في البلدان التي يعملون بها خصوصًا.