على مر العصور، حافظ الذهب على رونقه وقيمته التي ما زالت حتى يومنا هذا أساس شعبيته، فعلى الرغم من كونه معدنًا كباقي المعادن التي فرزتها الطبيعة؛ إلا أن ندرته ولونه الأصفر البراق وليونته جعلته أحد أكثر المعادن تفضيلًا لدى الكثيرين، حتى أنه كان سببًا في نهوض دول وانهيار أخرى.
مكانة الذهب في الحضارات القديمة
يُعتبر الذهب واحد من العناصر التي عرفت منذ قدم التاريخ المسجل، ولا يعرف أحد على وجه اليقين متى التقط الإنسان الأول هذه الكتلة الذهبية؛ ولكن العلماء عثروا على رقائق من الذهب في أحد كهوف العصر الحجري التي يعود تاريخها إلى ما يصل إلى عام 40.000 ق.م، وقد تم ذكر هذا المعدن عدة مرات في النصوص التاريخية القديمة.
يقول المؤرخون أن أول دليل قوي على وجود تفاعل بشري مع الذهب حدث في مصر القديمة حوالي العام 3000 ق.م، حيث عرف عن المصريين استخراجه وصنعوا منه المجوهرات والكؤوس، ولكنه كان في أيدي الكهنة فقط في بادئ الأمر، فيما يقول بعض المؤرخين أن العراق القديم عرف الذهب أيضًا في نفس ذلك التاريخ.
فيما بعد، أنتج الفراعنة أول نسبة معروفة لصرف العملات والتي فرضت النسبة الصحيحة من الذهب إلى الفضة، بحيث قطعة واحدة من الذهب تساوي جزئين ونصف من الفضة، ولكنه لم يستخدم في المقايضة، فيما تعتبر مملكة ليديا، وهي حضارة قديمة سكنت غرب تركيا، كانت أول حضارة معروفة تستخدم الذهب كشكل من أشكال العملة.
انتشر صيت الذهب في تلك الفترة بين حضارات العالم القديم، كحضارة الهند والصين وبلاد الرافدين والنيل والحضارات اليونانية والرومانية، وكذلك في حضارات أمريكا الجنوبية القديمة، كما تنافس على اقتنائها الملوك والكهنة، الذين ربطوا هذا المعدن بعقيدة آلهتهم.
وهنا يمكن القول أن الذهب اكتسب مكانته التاريخية من هذه الحضارات لسبب بسيط جدًا، هو أن هذه الشعوب كانت تعتقد بالخلود والحياة الأخرى؛ التي لا بد من تجهيز مقتنيات لها غير قابلة للخراب، تمامًا كالذهب، نظرًا لطبيعته وتركيبته التي تحافظ عليه مهما طال الزمن، فضلًا عن أنه كان يرمز للآلهة والملك والسلطة.
إسبانيا نقطة تحول في تاريخ الذهب
كان العالم يستخدم الذهب في صناعة المقتنيات كنوع من التباهي، ولكنه لم يكن العنصر الأساسي الذي ترتكز عليه الدول، حتى جاء عام 1492 عندما اكتشف المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبوس العالم الجديد.
اتجهت إسبانيا لشن عدد من الحملات العسكرية ضد السكان الأصليين في سعي منها لتأسيس إمبراطوريتها بالمنطقة، وفي تلك الأثناء، سعى “الكونكيستدور” الإسبان لخوض مغامرة السفر نحو أمريكا الجنوبية والعودة لوطنهم محملين بالذهب والغنائم التي خبرهم عنها المستكشفون.
وبهذا الخصوص يقول بعض المؤرخين أن سكان حضارات أمريكا الجنوبية، كانوا يمتلكون الذهب بوفرة، لدرجة أنهم كانوا يزينون بيوتهم بالذهب، فضًلا عن مناجم الذهب والفضة الموجودة في منطقة بوتوسي في بوليفيا حاليًا، الأمر الذي فتح شهية الغزاة الإسبان.
وفي سبيل البحث عن الذهب، خاض الإسبان حروبًا كثيرة، نتج عنها انهيار حضارتي الأزتك والإنكا في أمريكا الجنوبية، والاستيلاء على مقتنياتهم، واستخراج الذهب والفضة من مناجهم، ليتم نقلها نحو أوروبا بكميات كبيرة، للتحول إسبانيا إلى واحدة من أغنى الدول التي عرفها التاريخ، حيث ساهمت الفضة والذهب في بناء إمبراطوريتها وتمويل حروبها في تلك الفترة.
ثورة الأسعار
بسبب تطلعات إسبانيا الإستعمارية المتزايدة في النصف الثاني من القرن السادس عشر، عملت على استخراج كميات كبيرة ومتزايدة من الذهب والفضة من تلك المناجم ونقلها إلى أوروبا، حدث ما لا يُحمد عقباه وانقلب السحر على الساحر.
كان الإسبان يستخرجون الذهب والفضة بأقل التكاليف، ومن ثم تنقل سفنهم كميات مهولة من الذهب والفضة، حيث كانت تنقل ما يعادل 170 طنًا من هذه المعادن سنويًا، حتى فقدت هذه المعادن النفيسة قيمتها في السوق تدريجيًا بسبب وفرتها، ليؤدي ذلك بكل بساطة إلى تضخم غير مسبوق في الاقتصاد الإسباني.
وتذكر سجلات التاريخ أن هذه الفترة شهدت أزمة اقتصادية غيرت مراكز القوة بالعالم القديم وأسفرت عن انهيارها وفقدانها لمكانتها، حيث سجلت أسعار سائر المواد ارتفاعًا سريعًا لتتضاعف ست مرات خلال 150 سنة في كامل أرجاء أوروبا الغربية ضمن واقعة سميت بـ “ثورة الأسعار”.
توجهت إسبانيا لاستيراد أغلب بضائعها من الدول الأجنبية ليسجل الميزان التجاري الإسباني عقب ذلك عجزًا هائلًا، حيث تجاوزت قيمة الواردات بشكل كبير قيمة الصادرات، كما ساهمت كميات المعادن النفيسة التي أنفقها الإسبان على السلع المستوردة في انتشار أزمة التضخم نحو الدول الأخرى.
احتياطي الذهب
أيقنت الدول الغربية أهمية تداول المعدن الذهبي، وضرورة وجود احتياطي الذهب، وأهميته على صعيد السياسية والجيش؛ فلا يمكن الضلوع في حرب من دون خزينة للحرب، كما أن خوض الحروب يمكن أن يكون بغرض الاستيلاء على الاحتياطي الذهبي للبلد المعتدى عليها.
وفي عام 1865 كونت فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وسويسرا واليونان اتحادًا للعملات، واتفقوا على تحديد سعر الذهب بالنسبة للفضة، على أن تكون قطعة 5 فرنك (مساوية 45 غم فضة) تعادل قيمة قطعة 10 فرنك ذهب (2,9032 غرام ذهب)، أي بنسبة 15.5:1، وكانت قطعة 5 مارك فضة فقط تعتبر كعملة معترف بها بين دول الاتفاق إلى جانب العملات الذهبية، وذلك حتى عام 1926.
هيمنة أمريكا على الذهب
كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتبع سياسات اقتصادية سرية وبعيدة عن صراعات العالم منذ القرن التاسع عشر، لتهيئ دورها كدولة فتية مهيمنة على العالم من خلال الذهب كأحد أبرز مقوماته، وكانت المؤشرات تدل على ذلك خلال فترة الحرب العالمية الأولى وفترة التضخم والكساد الذي ساد العالم حينئذ.
أما اللحظة المناسبة لفرض الهيمنة كانت في عام 1944، بعدما لاح في الأفق انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وأدركت واشنطن أن حلفائها كانوا منكسرين اقتصاديًا -بعكسها-، وعلى الفور، رتبت الحكومة الأميركية عقد مؤتمر “بريتون وودز”، في ولاية نيو هامبشير، للاتفاق على نظام نقدي دولي جديد.
وقعت الـ 44 دولة الحاضرة -والمجبرة تقريبًا- على معاهدة “بريتون وودز”، التي انبثق عنها إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتم الاتفاق على أن تدير أمريكا البنك الدولي، فيما يقوم الأوروبيون بإدارة صندوق النقد.
وبموجب هذه المعاهدة، تم سحب الذهب من التعامل المباشر من أيدي البشر واستبداله بالأوراق النقدية، وقد تعهدت واشنطن وقتها بأن تسلم كل من يقدم لها 35 دولار قيمة الذهب مقدارها أوقية (أونصة)، أي أنه تم تحديد السعر كالتالي: كل أونصة ذهب قيمتها 35 دولار.
وبموجب أحكام الصندوق يجب على كل دولة عضو فيه أن تحدد قيمة تبادل عملتها الوطنية بالنسبة إلى الذهب أو بدولار الولايات المتحدة على أساس الوزن والعيار النافذين في 1944، أي الدولار الواحد يساوي 0.88671 غرام من الذهب الصافي.
حتى هذه اللحظة لم يفقد الذهب برستيجه، فهو كان وما زال بمثابة استثمار ذكي لآلاف السنين
ويمكن أن يعد نظام ثبات أسعار صرف العملات حجر الأساس في مؤتمر بريتون وودز، إذ يقوم هذا النظام النقدي الجديد على أساس “قاعدة الصرف بالدولار الذهبي” وعلى أساس “مقياس التبادل الذهبي”، وعلى ضوء هذا الترتيب تحول الدولار الأميركي من عملة محلية إلى عملة احتياط دولية، ليسمى بـ”العملة الصعبة”.
هكذا أصبح العالم كله، دول أو أفراد، يثق بالدولار باعتباره عملة للتداول، وأصبح الجميع يثق بأن الولايات المتحدة ستسلمه ما يقابل ورق الدولار من الذهب عند الطلب، وقد التزمت الولايات المتحدة أمام المصارف المركزية للدول الأعضاء بتبديل حيازتها من الدولارات الورقية بالذهب، وقد سار هذا النظام حتى عام 1971.
صدمة نيكسون
استمر الوضع على هذا النحو حتى خرج الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، عام 1971 ليفاجئ العالم ويفرض نظامًا آخر يقضي بعدم مقايضة الدولار بالذهب، وأن العملة الأمريكية ستعرض في السوق تحت بند المضاربة، وهو ما يعني أن سعر صرف الدولار يحدده العرض والطلب، تحت ما يعرف بـ”التعويم”.
السبب الحقيقي لقيام نيسكون بهذه الخطوة، هو احتياطات الذهب الأمريكية أصبحت في خطر نتيجة حرب فيتنام التي كلفتها الكثير، واحتاجت المزيد من المال لتغطية مصاريف الحرب وسط احتجاجات شعبية أمريكية بوقف مهزلة فيتنام، فضلًا على أنها كانت قد أغرقت الأسواق العالمية بالدولار وطالبت الكثير من الدول بالذهب.
على الرغم من أن قرارات الرئيس الأمريكي شكلت صدمة في ذلك الوقت؛ إلا أنه لم يتم الاعتراض عليها من قبل أي دولة، فإن ذلك كان بمثابة أن يصبح كل رصيدها من الدولارات بلا قيمة وهو ما يعتبر أكثر كارثية مما أعلنه نيكسون، وحينها قال كلمته الشهيرة: “يجب أن نلعب اللعبة كما صنعناها، ويجب أن يلعبوها كما وضعناها”.
استخدام الدول للذهب اليوم
منذ عام 2014، لم تستخدم أي دولة في العالم المعيار أو الغطاء الذهبي، بمعنى أنه لا توجد عملة في العالم مدعومة بالذهب، حيث كان الفرنك السويسري آخر عملة رئيسية تستخدم معيار الذهب، الذي استخدم احتياطي الذهب بنسبة 40% حتى عام 2000.
هذا لا يعني نهائيًا أن الدول باعت كل ما لديها من ذهب، أو أن عملاتها لا تستند إلى أي شيء، ولكن معظم دول العالم تحتفظ باحتياطيات كبيرة من الذهب من أجل الدفاع عن عملتها في مواجهة حالات الطوارئ المحتملة في المستقبل، وهنا تمتلك الولايات المتحدة سبائك ذهب أكثر من أي دولة أخرى في العالم، فمثلًا هي تملك حوالي 1.3 أضعاف ما تملكه ألمانيا.
وحتى هذه اللحظة لم يفقد الذهب “برستيجه”، فهو كان وما زال بمثابة استثمار ذكي لآلاف السنين، فبعد نهاية نظام بريتون وودز حتى يومنا هذا؛ أصبح استخدام الذهب خيارًا استثماريًا شائعًا للغاية، ويرتفع سعره بشكل مطرد، ففي عام 1970 كان سعر الذهب عند 35 دولار للأوقية، أما في عام 2011 ارتفع إلى حوالي 2000 دولار للأوقية.
مناجم الذهب
توجد في العالم العشرات من مناجم الذهب، وهنا نذكر “مبونينج” أعمق منجم ذهب في العالم، والموجود في جنوب إفريقيا، كما أن نحو 50% من الذهب الذي تم استخراجه من العالم كان من هذا المنجم.
يمتد المنجم على بعد ميلين ونصف من سطح الأرض، مما يجعله أعمق حفرة من صنع الإنسان في العالم، يبلع عمقه 2.5 ميل.
واصل عمال المناجم الحفر لعمق أكبر من خلال تشييد مصعد وأنفاق للوصول إلى رواسب الذهب، ويقطع نحو 4000 عامل يوميًا الرحلة نحو قاع المنجم عبر المصعد الذي يعد أطول مصعد في العالم، والذي تبلغ سرعته القصوى 40 ميلاً في الساعة، ليستخرجوا الذهب من خام بدرجات تزيد على 8 غرامات لكل طن، مما يجعله الأكثر ربحية في العالم.
يمكن تخيل الظروف القاسية التي يعمل بها العمال، من خطر الزلازل والعصابات المسلحة غير المشروعة، فضلًا عن أن درجة حرارة الجدران الصخرية في منجم “مبونينغ” قد تصل إلى 140 درجة فهرنهايت، وتتجاوز مستويات الرطوبة 95%.
ومن أجل الحفاظ على درجة حرارة باردة يستخدم المنجم نظام تبريد جديد، فيتم ضخ أكثر من 6 آلاف طن من الطين الجليدي في خزانات تحت الأرض، وتساعد المراوح العملاقة على سريان الهواء، ويقوم العمال يوميًا بتفجير2268 كيلوجراما من المتفجرات في المنجم، وحفر 6400 طن من الصخور.
وبسبب انخفاض إنتاج الذهب في المنجم سنويًا، يلجأ عمال المنجم إلى الحفر أعمق سعيًا للحصول على الذهب، ومن المتوقع أن يضطروا قريبًا للحفر أعمق بهدف الوصول إلى شعاب الذهب المجاورة، والتي يُمكن أن تطيل عمر المنجم إلى عام 2040.
الذهب كان وما زال من أكثر المعادن قيمة في العالم، فمع تأثيره على مصير الدول والاقتصاد العالمي ارتبط اسمه بالقوة والثراء، وليس واضحًا ما إذا سيظهر معدن آخر لينهي صيته في المستقبل أم لا، ولكنه إلى الآن المهيمن الأبرز.