حديثنا اليوم عن الدكتور خلوصي بهجت الذي اكتشف متلازمة درب الحرير أو مرض بهجت في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو مرض نادر يصيب الأوعية الدموية يظهر في شكل تقرحات بالفم والأعضاء التناسلية، يصاحبها إصابة بالعين وأحيانًا العمى.
تعود تسميته بـ”طريق الحرير” لأنه يكون أكثر شيوعًا وحدةً عند الأشخاص الذين ينحدرون من الدول المحيطة بطريق الحرير (شبكة واسعة من طرق التجارة القديمة التي تربط الصين بحوض البحر الأبيض المتوسط).
لم يكن اكتشاف هذا المرض النادر ممكنًا لولا فضول خلوصي ودقة ملاحظته وذكائه المتقد الذي مكنه من ربط الأعراض على مدى سنوات من الملاحظة وتسجيل هذه الأعراض لتمكنه هذه المشاهدات السريرية من اكتشافه الكبير.
خلوصي بهجت مواليد إسطنبول 1989، عانى من فقدان والدته المريضة عائشة بهجت في طفولته المبكرة، الأمر الذي ترك أثرًا بالغًا به انعكس على شخصيته، حيث عانى من الانطواء والخجل لغياب الأم في حياته.
انتقل خلوصي إلى دمشق بعد انتقال والده رجل الأعمال أحمد بهجت للعمل، ورغم شعوره بالانطواء والوحدة، فقد تلقى تعليمًا جيدًا في مدارس دمشق وأصبح يتحدث الفرنسية واللاتينية والألمانية.
حبه للعلم وفضوله الشديد كانا الدافع لرغبته في دراسة الطب، ففي ذلك الزمان لم تكن كليات الطب المدنية موجودة، لذلك التحق بأكاديمية جولهانة الطبية العسكرية بعمر السادسة عشر، ليتخرج فيها طبيبًا عام 1910، ثم ليستكمل التخصص في الأمراض الجلدية والتناسلية عام 1914 بنفس الأكاديمية ويتم تعيينه كبيرًا للأطباء في مستشفى كيركلاريلي العسكري.
تنقل بين العديد من المستشفيات، بعمله طبيبًا للجلدية في مستشفى أدرنة العسكري في أثناء الحرب العالمية الأولى حتى عام 1918.
ثم فُتحت لخلوصي بهجت آفاق جديدة بانتقاله للعمل في بودابست ثم إلى برلين ليعود بعدها إلى إسطنبول عام 1923 ليعمل طبيبًا للأمراض الجلدية والتناسلية بالمجان حتى ذاع صيته وأصبح أشهر طبيب على مستوى البلاد.
عام 1933 حاز خلوصي بهجت لقب بروفيسور من الأكاديمية التركية وهو أول شخص يحصل على هذا اللقب في تركيا بعد أن ترأس قسم الأمراض الجلدية والزهرية الذي أسسه.
الملاحظة والتدوين هي الطريقة التي اتبعها بهجت ومكنته من التوصل إلى اكتشاف أندر الأمراض التي فشل العلم حتى يومنا هذا في تفسير سببها أو إيجاد علاج لها.
في أثناء فترة عمله طبيبًا للأمراض الجلدية بإسطنبول، بدأ بهجت بملاحظة أن عددًا من المرضى يعانون من تقرحات في الفم والمناطق التناسلية وأعراض مختلفة في العين، ثم تابع حالتهم لسنوات عديدة حتى عام1937، حين كتب آراءه ونشرها في “Dermatologische Wochenschrift” وعرض ما توصل إليه في اجتماع أطباء الجلدية بباريس، حينها لاقى اكتشافه القبول عند أطباء العيون في حين رفض أطباء الجلدية الأوروبيون ما توصل إليه واستمروا في إنكار المرض الجديد.
في أثناء نكرانهم للنتائج التي توصل إليها خلوصي بهجت، في الأعوام التي تلت نشر اكتشافه، نشر عدد من الأطباء مشاهداتهم لحالات شبيهة لما وصفها خلوصي بهجت في بلجيكا والنمسا والولايات المتحدة واليابان والدنمارك وسويسرا.
إلى أن جاء عام 1947، حيث أصبح لا بد من قبول هذا المرض الجديد، وتم اقتراح اسم مرض بهجت على ثلاثية الأعراض التي تصف المتلازمة في المؤتمر الطبي الدولي بجنيف وقبوله كمرض جديد.
شغف خلوصي بهجت بالعلم والبحث والكتابة كان هاجسه الأكبر، فقد اهتم بمرض الزهري وطريقة تشخيصه وعلاجه، كما اهتم أيضًا بداء الليشمانيات، وكان أول من لاحظ علاقة شكل الظفر عند الإصابة بداء الليشمانيات ونشر هذه الملاحظات عام 1923.
كما اهتم خلوصي بهجت بالتحسس الذي يسببه التين من خلال العمل والكتابة عن تحسس الجلد من التين لسنوات عديدة، حيث لاحظ صورتين سريريتين تظهران لدى الأشخاص المهتمين بالتين وأوراق التين في الربيع والصيف بإسطنبول، والأشخاص المهتمين بمنتجات التين في الخريف، بعدها تم التعرف على هذا المرض في البلقان وأخيرًا فرنسا وأمريكا، ثم نشر عن تحسس الجلد بسبب التين في مجلة تسمى Pratik Doktor عام 1933.
تم تكريم بهجت في بودابست بعد أبحاثه وملاحظاته التي نشرها عن الفطريات التي تصيب الإنسان.
حاول خلوصي بهجت أن يبقي الطب في تركيا مواكبًا لكل جديد، حيث كان يترجم المقالات والبحوث الطبية الحديثة إلى اللغة التركية، كما أصدر دورية طبية مختصة بالأمراض الجلدية والتناسلية عام 1924 أسماها “Turkish Archives of Dermatology and Syphilology”.
كتب خلوصي بهجت مؤلفًا قيمًا في الطب أسهم في تطور الطب بتركيا عن طريقة تشخيص مرض الزهري والمشاهدات وملاحظاته الثرية في حاشية الكتاب الذي أسماه “Clinical and Practical Syphilis, Diagnosis and Related Dermatoses”.
توفي خلوصي بهجت إثر نوبة قلبية عام 1948، ليترك نحو 196 عملًا منجزًا والعديد من المقالات الطبية الرصينة خلال 59 سنة من الحياة التي عاشها في حب العلم والاستطلاع وتدوين المشاهدات.
بعد وفاته بأعوام حاول الأتراك تكريم خلوصي بهجت بمنحه جائزة TÜBİTAK للعلوم والخدمة عام 1975 وجائزة Eczacıbaşı للبحث العلمي عام 1982، كما تم طباعة اسم بهجت على الطوابع والعملات الفضية تخليدًا لذكراه.
بعد الحديث عن حياة خلوصي بهجت والتعرف على بصمته التي وضعها في مسيرة الطب لا بد من القول إن الخطوة التي اتبعها مقتديًا بأطباء الجلدية المسلمين (الطبري الذي وصف الجرب والإكزيما والرازي الذي وصف أعراض وعلامات وعلاج الحصبة والجدري وأبو منصور القمري الذي اهتم بعلاج أمراض الشعر والجلد) بتدوين المشاهدات السريرية ومن ثم البحث بها للخروج بنتيجة أُضيفت كعطاء للطب والبشرية جمعاء.