ترجمة وتحرير نون بوست
يواجه لبنان حاليا أزمة. ظاهريا، لا يبدو ذلك أمرا جديدا. ولكن عمليات الغزو، والحرب الأهلية، والاضطرابات المحلية، وحتى الاغتيالات، والاحتلال الأجنبي وهشاشة الاقتصاد لم تكن سيئة بقدرة الأزمة التي تمر بها البلاد اليوم.
في غضون أيام، تم الإبلاغ عن حدوث عدد من حالات الانتحار المرتبطة بالأزمة، تمثلت إحداها في إطلاق رجل النار على نفسه خارج مقهى في شارع بيروت المزدحم أمام أعين المارة والعملاء. وصلت الأمور إلى درجة خيالية. فأزمة البلاد لم تعد تقتصر على عجز الناس عن إيجاد عمل، أو فقدان مدخراتهم، أو عدم قدرتهم على شراء أي شيء – وهي مصاعب مررنا بها من قبل – وإنما أصبح اللبنانيون اليوم غير قادرين على أن يحلموا بغد أفضل ووحدهم أولئك الذين أجبروا على مغادرة البلاد يعرفون معنى هذا.
في سنة 2005، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، ظهر عنصر جديد على الساحة السياسية وهو حزب الله. حصل هذا الحزب المصنف من قبل الولايات المتحدة منظمةً إرهابية ولكن يُشاد به من قبل العديد من اللبنانيين على أنه قوة مقاومة ساهمت في تحرير جنوب لبنان سنة 2000 من الاحتلال الإسرائيلي، على مقاعده الأولى في الحكومة الوطنية.
حسب الحكمة التقليدية، يمكن اعتبار حزب الله من الإفرازات الإيديولوجية للثورة الإسلامية الإيرانية، ولكن من الضروري أن ندرك أن هذه الجماعة ليست وكيلًا لإيران بل هي امتداد عضوي للأيديولوجية السائدة داخل إيران حيث أن أعضاءه لبنانيون. لذلك، يُنظر إليه باعتباره حزبا هجينًا مكانته تشبه مكانة الأحزاب الشيوعية في جميع أنحاء العالم أثناء حقبة الحرب الباردة.
إن المستقبل المتوقع لبلد أصبح الآن في حالة يرثى لها ليس اندلاع حرب أهلية وإنما ظهور الاضطرابات والعنف المحلي في مناطق مختلفة من البلاد
لكن لبنان ليس مثل سائر البلدان الأخرى، ذلك أن معظم مواطنيه يدينون بالولاء لطوائفهم قبل أي انتماء آخر. ويعتبر الوضع الراهن من إرث التجزئة التي ازدهرت على مدى عقود في البلاد في ظل غياب حكومة مركزية قوية.
خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان الإقطاعيون يمثلون الطوائف، وتعهد الناس بالولاء لهم. ولكن منذ أواخر الستينيات، تحولت بعض الإقطاعيات إلى أحزاب سياسية، في حين أطيح بغيرهم من قبل الفلاحين الغاضبين الذين أصبحوا سادة لحكامهم السابقين – وخير مثال على ذلك شيعة لبنان. كان صعود الشيعة السياسية في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران في سنة 1979 بمثابة ذروة التحول في تكوين حزب الله. وفي أيام البؤس الشديد والخصاصة، الحالية، يعرف الناس إلى أين يتجهون إذا كانوا يريدون البقاء على قيد الحياة.
كجزء من حملة الإدارة الأمريكية للضغط الأقصى على إيران، وبسبب علاقة حزب الله بها، طالت تداعيات العقوبات لبنان أيضا. ولكن اعتبار هذا الأمر العامل الوحيد الذي جرّ لبنان إلى الهاوية فيه استخفاف واضح بعمق الأزمة: فالبنوك خالية من العملة الأجنبية، وبات انقطاع التيار الكهربائي في العاصمة منتشرا على نطاق واسع، وأغلقت الشركات أبوابها نظرا لعدم وجود عملاء، وانخفضت قيمة الحد الأدنى للأجور بالدولار من حوالي 450 دولارًا شهريًا إلى 80 دولارًا. وهذا يعني أن الراتب الشهري لوزير حكومي الذي كان قبل بضعة أشهر يبلغ حوالي 8500 دولار، بات حاليا في حدود 1500 دولار تقريبًا. وينطبق الأمر نفسه على رئيس البلاد ورئيس وزرائها وغيرهم من النخبة – الذين يعتبرون محظوظين.
لكن إضعاف الدولة لن يضعف حزب الله، المجهز بشكل جيد، والذي حقق نجاحًا على امتداد ثماني سنوات في سوريا. فكلما انحدرت البلاد في الفوضى، تمسك المزيد من الناس بطوائفهم، التي سيصبح قادتها حكامًا فعليين. إن المستقبل المتوقع لبلد أصبح الآن في حالة يرثى لها ليس اندلاع حرب أهلية وإنما ظهور الاضطرابات والعنف المحلي في مناطق مختلفة من البلاد. وفي حال غياب دولة فاعلة، فإن أي سلطة لديها القدرة على القضاء على الفوضى ستكون السلطة المفضلة لدى الشعب.
كلما كثّفت الولايات المتحدة من حجم ضغطها المسلط على لبنان، فتحت المجال أكثر أمام إيران لممارسة السلطة والتأثير في الدولة المفككة
ينطبق هذا الأمر على كل فئة تسيطر على مناطقها، حيث سيعزز زعيم الدروز وليد جنبلاط سلطته في جبل لبنان، وسينسج على منواله رئيس الوزراء السني السابق سعد الحريري في المناطق السنية، وسيتبعه القادة المسيحيون بمختلف مشاربهم في مناطق نفوذهم – وبالطبع – سيقوم حزب الله بتوطيد السلطة في جنوب لبنان وعلى الحدود الإسرائيلية والضواحي الجنوبية لبيروت ومنطقة البقاع شرقاً على الحدود السورية.
في الوقت نفسه، يبرز حل إقليمي للوضع حيث أن إيران، أيضًا، سترسخ سلطتها لتقدم نفسها باعتبارها منقذا للمجتمع الشيعي. فبعد كل شيء، لبنان ليس مثل فنزويلا، وإيصال الطعام والأدوية والوقود والإمدادات الأخرى إليه لا يقتضي عبور البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.
كلما تفاقمت الأزمة، زاد احتمال ارتماء لبنان في أحضان إيران. وبالفعل، عرضت طهران بيع النفط والبنزين للحكومة اللبنانية بالليرة اللبنانية – لتنقذها بذلك من عبء فارق العملة. وفي عدة مناسبات سابقة، تعهد قادة إيران بأنهم مستعدون لتزويد لبنان بالكهرباء إذا طلبت السلطات اللبنانية ذلك.
كلما كثّفت الولايات المتحدة من حجم ضغطها المسلط على لبنان، فتحت المجال أكثر أمام إيران لممارسة السلطة والتأثير في الدولة المفككة. لن يحدث ذلك بالضرورة عن طريق الحكومة الإيرانية؛ وإنما من خلال حزب الله، الذي تعهد بعدم السماح للشيعة في لبنان بالموت جوعا. وهذا يعني أن استراتيجية الضغط الأقصى للولايات المتحدة تخدم مصالح عدوها.
يبدو أن ذلك يشكل مصدر قلق بالنسبة لواشنطن، الذي تعكسه تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بشأن منع إيران من بيع النفط للبنان. لكن مع تحول لبنان بسرعة إلى دولة منهارة، لن يبقى أمامه سوى خيارات قليلة. وهذا يعني أن فكرة إنشاء البلدان الخاضعة للعقوبات اقتصادا موازيا بدأت تكتسب زخما أكبر. وهي فكرة يبدو أن إيران تمني بها نفسها رغم الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها في ظل استراتيجية الضغط الأقصى.
لا تزال هناك خيارات للحد من نفوذ إيران في لبنان
تحدثت عن هذه القضية خلال جلسة إحاطة مسجلة مع نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون المشرق، جويل رايبورن، في مركز السياسة العالمية. وكان الجواب الذي تلقيته أن الإيرانيين لا يستطيعون ممارسة مثل هذا نوع من النفوذ لأنهم لا يملكون المال والموارد الكافية للقيام بذلك. ولكن من المحتمل ألا يكون هذا هو الحال على أرض الواقع. فمن المرجح أن تكون طهران مستعدة لتحمل المزيد من الصعوبات على المدى القصير لتعزيز مكانتها في المنطقة.
في حالة لبنان وسوريا، وافقت إيران على الدفع بالعملات المحلية لأنها تستطيع الاستفادة منها لتمويل عملياتها في سوريا وحزب الله في لبنان. وهذا من شأنه أن يحدث فرقا كبيرًا لضمان تحقيق الحكومة اللبنانية الحد الأدنى وضمان استمرار العمليات الإقليمية الإيرانية.
ما فشلت الإدارة الأمريكية في إدراكه على مدى العقود الأربعة الماضية من صراعها مع إيران في بلد مثل لبنان، هو حقيقة أن النفوذ الإيراني يتغلغل في المناطق التي يشكل فيها الشيعة أغلبيةً. من وجهة نظر العديد من الأسر الشيعية في جنوب لبنان والبقاع وجنوب بيروت، فإن إضعاف إيران سيكون له بالضرورة تأثير عليهم. لذلك رغم جميع شكاويهم ضد إيران أو حزب الله، فإن كلاهما أصبحا من الكيانات المحورية في التفكير الجماعي في لبنان، لاسيما في سياق الصراع الطائفي في المنطقة.
لهذا السبب، من غير المرجح أن تتمكن الولايات المتحدة من كبح دور إيران في لبنان. ولم تنجح المحاولات السابقة لتعزيز المجتمع المدني داخل المجتمع الشيعي – وحتى الحرب لا يمكن أن تغير الواقع هناك دون أن تغرق البلاد في وضع أسوأ.
مع ذلك، لا تزال هناك خيارات للحد من نفوذ إيران في لبنان. من شأن اتباع الولايات المتحدة نهجا مختلفا تجاه الصراع العربي الإسرائيلي أن يساعد في تحقيق هذه المساعي. هذا ليس عاملاً هامشيًا على الإطلاق، خاصة بعد أن تسبب ترامب من خلال صفقة القرن في حرمان الإدارة الأمريكية من أي قدرة متبقية للوصول إلى قلوب الناس وعقولهم على هذا الجانب من الحدود.
لا ينبغي الضغط على لبنان وتضييق الخناق عليه من خلال حملة ضغط من شأنها أن تجعل الشيعة يتمسكون أكثر بانتمائهم الشيعي
من المحتمل أن تنفرج العلاقات الأمريكية الإيرانية في المستقبل، في حال وقع إبرام صفقة جديدة من شأنها إنقاذ لبنان. لكن طهران ليست متفائلة كثيرا بشأن إحياء الاتفاق النووي في إطار اتفاقية 2015 حتى لو فاز المرشح الديمقراطي المفترض جو بايدن في الانتخابات؛ ذلك أن صانعي القرار في طهران يهدفون إلى إنشاء نظام إقليمي جديد بحكم الواقع يمكّنهم من الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الإدارة الأمريكية المستقبلية وفي يدهم بعض الورقات الرابحة. لكن مثل هذه المفاوضات تعتمد على رغبة كل من طهران وواشنطن في توسيع نطاق المحادثات. في المقابل، ستزيد الصفقة التي لا تأخذ بعين الاعتبار جميع القضايا العالقة بين الولايات المتحدة وإيران، الأمور سوءًا في المناطق التي تتضارب فيها مصالح الدولتين.
في ظل هذه الظروف، لن يبقى أمام اللبنانيين سوى خيارات قليلة. وحتى أولئك الذين يعتقدون أن حل الأزمة يكمن في الحرب الأهلية – وعددهم قليل جدًا – يدركون جيدًا أنه حتى هذا الخيار الدموي مستبعد في ظل الأزمة المالية العالمية وعدم رغبة أي جهة في تمويل حرب أهلية من المرجح أن يخرج منها حزب الله الطرف الفائز. لا يزال المثال السوري حديث العهد في الذاكرة الشعبية، ناهيك عن أن لبنان أصغر بـ 17 مرة من جارته السورية.
لا ينبغي الضغط على لبنان وتضييق الخناق عليه من خلال حملة ضغط من شأنها أن تجعل الشيعة يتمسكون أكثر بانتمائهم الشيعي ويتخلون عن انتمائهم للبنان. وينطبق الأمر ذاته على السنة والدروز والمسيحيين. سيكون من المغري بالنسبة لهم اتخاذ الطريق الأسهل ومغادرة البلاد. قد يكون خيار الفرار سهلا بالنسبة للأفراد، لكن لبنان لا يستطيع الهروب من مصيره وإنقاذ نفسه.
المصدر: فورين بوليسي