يرى المراقب لتحولات العمارة المصرية في العقود الأخيرة عودة ذات مرجع بصري لخيار الهوية الفرعونية المعمارية، ونرى ذلك في الكثير من المشاريع المعمارية العامة والحكومية والرسمية، ما يدل على تعبير سائد عن اتجاه الدولة. ومما لا شك فيه أن تغير الهويات المتعاقبة مسألة ذات أجندة أيدولوجية، ومن الخطأ أن يظن المشاهد أن اختيار تلك المفردات المعمارية ما هو إلا أمر عبثي منعدم الخلفية الفكرية. ففترة الانتقال في الحالة المصرية الحاليّة يلزمها جبهات عدة متزامنة لترسيخ المشهدين السياسي والهوياتي، وفي حالات الانتقال المماثلة نرى بوضوح استدعاء التاريخ لفرضه كبديل لإضعاف أو قتل هوية غير مرغوب بها.
فمن الجيد أن نراقب الهويات المعمارية التي تحاول أي دولة إحياءها والهويات التي تهملها لكي نفهم التوجه الفكري العام للدولة، وكما ذكرنا من قبل، فإن الكثير من الآثار الإسلامية تواجه الإهمال والاندثار والهدم في مقابل الاحتفاء بالآثار الفرعونية وغيرها، وهذا خط متواصل ليس وليد اللحظة، وسنحاول في هذا المقال قراءة ما بين بعض سطور هذا النهج المعماري.
ما الهوية؟
قبل الدخول في تفاصيل موضوعنا دعونا نتحدث قليلًا عن مفهوم الهوية، فالهوية بشكل بسيط هي إدراك الفرد لذاته معرفيًا ونفسيًا وثقافيًا، أي هي إجابة سؤال “من أنت؟”، فهويتك تحدد ثقافتك وتراثك، وصولًا إلى جماعتك، أي الإدراك الذاتي المشترك بين جماعة من الناس.
والهوية المجتمعية تتمحور حول الثقافة الجمعية المستمدة من السنن النفسية للمجتمع – بتعبير جوستاف لوبون – ومن تاريخه وتصوراته وعقيدته وتواصله مع الغير وإمكانات تفاعله، ومن المعلوم أن لكل إنسان هويات متعددة ولكنها لا تُعطى ذات القدر من الأهمية والأولوية، لذا فلنضع في اعتبارنا أن أي نقاش أو حديث عن أي رفع لهوية هو بالتالي انتقاص وخفض لهوية أخرى ولا جدال، فالمنادي بالهوية الإسلامية يخفض الفرعونية والمنادي بالفرعونية يخفض الإسلامية والعربية، وهكذا، فالهويات مجرد حوض لصراع مستمر دائم عرفته البشرية في تاريخها الطويل.
الهوية المصرية
ذكر الجغرافي العظيم جمال حمدان في موسوعته “شخصية مصر” أن الشخصية المصرية تراكمية أي أنها تتشكل من طبقات وكل طبقة تنصهر في الأخرى، من فرعونية خالصة إلى قبطية عريقة ثم إسلامية عربية سمحة، كل ذلك في إطار موقعها المتوسطي المتصدر قلب قارات ثلاثة ظلت محور العالم القديم حتى اكتشاف العالم الجديد.
ومنذ انهيار الحضارة الفرعونية تطورت الهوية المصرية تأثرًا بالغزوات المتتالية ثم الفتح الإسلامي، وما أعقبه من تغير الحكام، ما جعل مصر تتأثر بالأعراق والنظم والعقائد التي وفدت إليها، لكنها انصهرت في بوتقة الهوية المصرية التراكمية في نهاية المطاف، ومع مرور السنين، فقدت الحضارة الفرعونية أثرها خاصة مع انتشار الإسلام بمصر، ولم يعد لها أي ظهور أو وجود في الحياة اليومية المصرية، فكيف عادت الهوية المصرية الفرعونية إلى الساحة من جديد؟
كانت مقبرة توت عنخ آمون نقطة تحول في اهتمام السلطات المصرية بالاحتفاظ بآثارها وحق تملكها وإدارتها، ما جعل توت عنخ آمون من أيقونات الاستقلال الوطني آنذاك
ظهور الهوية الفرعونية مجددًا
فلنربط الأحزمة ولنعد بالزمن إلى أوائل القرن الماضي ونتخيل معًا سعد زغلول مخاطبًا الشعب مؤججًا عواطفه تجاه تراث الأمة المصرية، حيث كان آنذاك النزاع على أشده بين زعيم حزب الوفد (زغلول) ومكتشف مقبرة توت عنخ آمون هوارد كارتر الذي أغلق المقبرة بسبب الخلاف على أحقية إدارة كنوز الملك الفرعوني، واعترض زغلول على القرار مؤكدًا أن الحكومة المصرية لن تسمح بإغلاق المقبرة.
لم تكن تلك الأحداث منعزلة عن الحياة السياسية والثقافية في مصر خلال عشرينيات القرن الماضي، ففي مرحلة التحول التاريخية تلك، وكما ذكرنا بالأعلى واجهت مصر حالة البحث عن الهوية، خصوصًا بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وانقسام السياسيين المصريين إلى ثلاثة فرق، فمنهم من دعا للتمسك بالهوية الإسلامية ومفهوم “الأمة” كمصطفى كامل، ومنهم من دعا للتمسك بالهوية العربية وهذا معروف بالتزامن مع الثورات العربية ضد السلطنة العثمانية، ومنهم من دعا إلى الهوية المصرية التي عنت في ذلك الوقت إحياء الهوية الفرعونية – وهذا نتاج للحركة الفعالة من المستعمرين في التنقيب عن الآثار الفرعونية ومحاولة إحياء الهويات القديمة في البلاد التي استعمروها -، أما قبل ذلك الاستعمار، فلم يكن للهوية الفرعونية أي ذكر على الساحة المصرية، ولم يكن يعبأ بها أحد على الإطلاق.
كانت مقبرة توت عنخ آمون نقطة تحول في اهتمام السلطات المصرية بالاحتفاظ بآثارها وحق تملكها وإدارتها، ما جعل توت عنخ آمون من أيقونات الاستقلال الوطني آنذاك، ودفعت تلك الاكتشافات الأثرية المصريين للادعاء بأنهم أحفاد هذه الحضارة وأنهم من يجب عليهم العناية بتوت عنخ آمون، وكذلك لكونها أجسام تاريخية ملموسة، ساعد ذلك على تأكيد هوية وتاريخ المصريين وتقدير مصر القديمة ومحاولة ربطها بالحياة السياسية والثقافية الحديثة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن سعد زغلول استغل تلك النظرة الفرعونية إلى الماضي لتلاقيها مع شعارات حركة التحرر التي قادها، فتلك الهوية الجديدة لم تكن طائفية ذات إيدلوجيا إسلامية ولا عرقية كالعربية أو العثمانية، فطبقًا لأستاذ الأدب العربي ا. كولا بجامعة جورجتون الأمريكية في كتابه “الحداثة المصرية”: “كانت تلك الهوية متعدية للفوارق الطبقية والدينية والإقليمية بين المصريين الحديثين، وهذه الأفكار تصادفت مع طموحات ومطالب الوطنيين المصريين خلال عشرينيات القرن الماضي، وكان تأثير اكتشاف المقبرة عميق الأثر على العمارة والثقافة والأدب وحتى الحياة اليومية”!
الهوية الفرعونية كواقع مُعاش
منذ بدايات العقد الأول من القرن الماضي، بدأت العديد من الصحف المصرية تبني الأنماط والصور الفرعونية، وكان المسيحيون أصحاب الدور الرئيسي في هذا التطور، وقد صدرت عنهم صحف معبرة عن تيارهم وتوجههم العلماني مثل صحف “رمسيس” و”فرعون” و”أبو الهول” و”عين شمس”، لكنها كانت صحف محدودة التأثير وقصيرة المدى.
أما عقب اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922، بدأت الأيقونات الفرعونية في الانتشار في الصحف والثقافة المصرية بشكل متزايد، ولم تكن تلك الأنماط الفرعونية الظاهرة سطحية أو غرضها تزييني، فرسالتها كانت واضحة تمامًا ألا وهي ربط الماضي الفرعوني السحيق منقطع الصلة بالحاضر المصري الذي كان يحكمه المستعمرون، وتلك الأيقونات المصرية الفرعونية عبرت عن السيادة والحضارة التي سيطرت على العالم يومًا ما!
يقول كولا في كتابه: “ليس مستغربًا ذلك الربط بين اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 وتحول لقب السلطان إلى ملك مصر في نفس العام، ذلك التحول الذي لم يحدث منذ العصور القديمة، لقد كان الملك توت عنخ آمون رمزًا مهمًا للسيادة الملكية في هذا الوقت”، ويبين الأديب محمد حسين حسين في كتابه “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر”، ملامح الحياة العامة في تلك الفترة قائلًا:
“أطلت النزعة الفرعونية برأسها، بعد أن كانت لا تظهر إلا مقنعة أو من خلف ستار وانتهز دعاتها هذه الفرصة، وملؤوا أبصار قارئي الصحف، وأسماع شاهدي الندوات بالدعاية لها، ورسموا رأس أبي الهول على طوابع البريد وعلى أوراق النقد، واتخذه النحات محمود مختار شعارًا لتمثال نهضة مصر، واتخذت كل كلية من كليات الجامعة شعارًا لها يمثل وثنًا من معبودات الفراعنة، ونقل رفات سعد زغلول بعد وفاته بثلاث سنوات إلى ضريح بُني على طراز فرعوني، وشاع هذ الطابع الفرعوني في كثير من أبنية الحكومة وأوراقها الرسمية وفي الزخرفة والنقش”.
توالت عملية الفرعنة منذ زمن السادات إلى الآن تقريبًا دون انقطاع وإن كانت على استحياء
لنقرأ السطور القادمة المخطوطة بقلم الكاتب المصري الكبير محمد حسين هيكل الذي كان وزيرًا للتعليم بين عامي 1930 و1940 ونادى بعودة الفرعونية إلى الحياة الأدبية، حيث قال:
“إن ما يتوهمه بعض الناس من أن تغير الدين في مصر من الوثنية إلى المسيحية ثم الإسلام، وتغير اللغة فيها من الهيروغليفية إلى العربية، قد قطع ما بين مصر الحديثة وبين مصر القديمة من صلات، ليس إلا وهمًا من الأوهام وأن الحقيقة العميقة هي أن هذه الصلة قائمة لا شك فيها بيننا وبين أجدادنا الفراعنة.. ولئن تهدمت الحدود الدولية وفنيت العاطفة الوطنية، فسيبقى أبدًا هذا الاتصال النفسي الوثيق الذي يجعل من مصر وحدة تاريخية أزلية خالدة.. فمن حق المصريين ومن الواجب عليهم أن يستثيروا دفائن الفراعنة جميعًا، وأن يربطوا حاضرهم وماضيهم رباطًا ظاهرًا لكل عين”، وكان هيكل يرى أن نهضة المصريين لن تحدث إلا على إحياء الهوية الفرعونية مثلما قامت نهضة أوروبا على الحضارة اليونانية والرومانية.
الهوية الإسلامية مقابل الفرعونية
لم تكن الدعوة إلى إحياء الفرعونية سهلة منعدمة الموانع، فقد هاجمها الكثير من الكتاب لعزلها مصر عن محيطها العربي وتعارضها مع روح الثقافة الإسلامية التي يتميز بها الشعب المصري، بالإضافة إلى ظهور وانتشار جماعة الإخوان المسلمين التي ساهمت في انتشار الروح الإسلامية في مواجهة الإقليمية.
إلى أن جاءت ثورة يوليو 1952 لتطلق رصاصة صوب الفرعنة بدعمها للقومية العربية التي قضت على أي أيدولوجية لتخلو لها الساحة خاصة بعد اعتقال المعارضين من الإسلاميين والشيوعيين وحل الأحزاب، وبعد موت عبد الناصر، كما وضحنا من قبل في المقالات السابقة، فإن الفرعونية كانت بديلًا قويًا لقومية الأول، لأنها الهوية القومية الوحيدة المتاحة للمصريين بعيدًا عن هويتهم الإسلامية أو العربية.
النصب التذكاري لشهداء مصر بساحة الشعب في العاصمة الإدارية الجديدة
المراقب لتحول العمارة المصرية المعاصرة منذ بداياتها في بداية القرن الماضي حتى العقد الأخير، يتضح له أن تقلب المرجع الرسمي في المنتج المعماري من الحداثة إلى الإسلامية حتى ما بعد الحداثة كان منطقيًا وكان بالأصل مرتبطًا بالمتغيرات المحلية أو الإقليمية أو التوجهات الشخصية الناشئة عن تأثير المهندسين المعماريين في تعليمهم وإعدادهم الغربي.
لكننا نجد أن الكثير من المباني الرسمية تُفرض عليها الهوية الفرعونية فرضًا كأن مصر عبارة عن الفراعنة فقط، وهذا ظلم كبير لتعقيد وثراء الشخصية المصرية، فقد رأينا النصب التذكاري للشهداء بالعاصمة الإدارية الجديدة وكيف صُمم على الطراز الفرعوني الإكليكتي، وتصميمات الحي الحكومي بالعاصمة الجديدة كذلك، وغيرها التي تتبنى مفردات العمارة الفرعونية في واجهاتها.
أود أن أكرر السؤال هنا: هل تفرض الدولة هذه الهوية بالقوة لتأكيد قوة الدولة وشخصية “العبيد” للجمهور، أم أنها مجرد تقليد سطحي لا يعني أي معنى؟ هي بالقطع ليست استعارات عبثية منعدمة الهدف، فتلك العمارة تُعيد إلى الأذهان العلاقة الثنائية بين الحاكم والمحكوم، القوي والضعيف، الإله الفرعون والمواطن، والهروب إلى الماضي ما هو إلا وسيلة لتسلية المصريين خاصة ممن لا يجدون شيئًا في الحاضر ينتمون إليه.
المحكمة الدستورية العليا بمصر
على جانب آخر وفي الأسابيع الأخيرة، حدث حدث مهم في ميدان التحرير أثار غضب الكثير من المهندسين المعماريين والمفكرين الحضريين والمنظرين، وهو نقل مسلة فرعونية وأربعة من الكباش إلى ميدان التحرير، الميدان الذي تم بناؤه في عصر إسماعيل وأصبح رمزًا عظيمًا لثورة 2011 والربيع العربي بشكل عام، حتى أصبح رمزًا عالميًا للحرية كما قال ديفيد هارفي في كتابه “مدن متمردة”.
يبدو أن النظام أراد القضاء على هذا الجانب الثوري من الميدان بتغيير مظهره بالكامل وإنشاء تصميم جديد بالكامل لمنع المتظاهرين من التجمع مرة أخرى فيه وهذا يعتبر قطع وصلي تاريخي أليم، ففي ذلك تقويض للقيمة الرمزية العالمية لميدان التحرير كرمز للثورة المصرية والربيع العربي وتحرير الناس.
ومن الطريف ذكر بعض الموالين للنظام أن هذه المسلة رمز لخداع الإخوان في مكان مثل ميدان التحرير الذي قادهم إلى السلطة قبل أحداث يونيو، أما الأربعة كباش فهي رمز للجماعة ذاتها التي يُطلق عليها كثيرًا في الإعلام المصري “الخرفان”، ورقم أربعة ما هو إلا رمز لرابعة، وعلى الرغم من تفاهة تلك الترميزات، فإنها تريك جانبًا من التفكير الذي يربط صراع الهويات هذا بالسياسة العامة المتبعة في الدولة.
التركيب الحضاري والبديل
حقيقة أن مصر مكونة من طبقات حضارية متعددة والجدال الدائر بشأن ذلك الذي يستدل به أنصار الفرعنة قائلين إن محاولة تفكيك هويتها أو اختزالها في شخصيتها الإسلامية محكوم عليها بالفشل، لهو جدال لا يطبقه أصحابه ذاتهم! فإني لا أرى في خطاباتهم أو تشكيلاتهم الفنية أي استدعاء لتلك الهويات الأخرى بل هو إبراز وحيد لتلك الهوية، وإني أرى أن هذا الاختزال السطحي أثره الضار أكثر من نفعه كما بينت مسبقًا في مقالي “عمران القاهرة.. التراث المستهلك حتى الفناء”.
وقد توالت عملية الفرعنة منذ زمن السادات إلى الآن تقريبًا دون انقطاع وإن كانت على استحياء، فما تأثيرها على الشارع المصري الحقيقي؟ هل كانت بالفعل ناجحة؟ لقد حققت شوطًا كبيرًا لكنها لم تلق النجاح المطلوب من دعاتها، ذلك أنها غير واضحة في مطالبها، هل تلك هوية بديلة للهوية الإسلامية أم أنها حركة لإحياء اللغة والثقافة المصرية القديمة كما ينادي البعض، أم أنها حركة لإحياء الأنماط الفنية القديمة وإعادة استخدامها فقط؟ أم ماذا؟
دون هدف واضح مُعلن فلن تحقق تلك الحركة أي أهداف مُبطنة، وقد يظن البعض أن في مقالي هجوم على تلك الهوية بعينها، وليس هدفي هنا إبطال هذا الاتهام، بل إنني كمعماري أرى أن الهوية الفرعونية ليست مجرد هوية بصرية تُستعار لتغطي بناء مُنشأ بالخرسانة المسلحة وأساليب الإنشاء الحديثة.
ما جعل عمارة الفراعنة عمارة مُعلمة ألهمت العالم هو روحها، وعلينا أن نتيقن أن تلك الاستعارات التقليدية الرخيصة ما هي إلا وعاء كاذب لا يحتوي على أي معنى بداخله، وعلى من أراد إحياء الهوية المصرية أن يفهم العمارة الفرعونية وكل طرز العمران التالية، ويحللها ويحاول فهم أسباب نشوئها بهذا الشكل، ومن ثم يتشرب بتلك المعاني ويُنتج عمارة خالصة ذات روح مصرية مستفيدًا بأساليب وتقنيات العصر الحديث ليلبي الاحتياجات أولًا قبل الاهتمام بالشكل الخارجي.