يمكننا القول بثقة إن من المعالم الرئيسية لانحدار الأغنية في المشرق العربي واندثار هويتها هو اختفاء التنوع في الأجناس الموسيقية فيها والمتمثلة عربيًا في المقامات وبالخصوص الاختفاء الكبير للمقامات الشرقية.
ما هي المقامات؟
قبل أن نجيب عن سؤالنا الرئيسي من الضروري أن نوضح للقارئ غير المختص معنى المقامات وأنواعها الرئيسية في الموسيقى العربية، فالمقام عبارة عن تتالٍ لعلامات موسيقية وفق أبعاد معينة وقواعد موضوعة لتصنيف اللحن الموسيقي، أو بعبارة أخرى وباختصار هي السلّم الموسيقي العربي/الشرقي وهي تركيب شكلي معين تتألف عليه وفي حدوده الألحان.
بشكلٍ عام قسم الموسيقيون الشرقيون السلالم إلى ثمانية مقامات رئيسية، أربعة منها معروفة عند الغربيين وقابلة للعزف على الآلات الغربية كالبيانو والغيتار، وهي العجم والنهاوند والكرد والحجاز، ويطلق عليها المقامات الغربية، وأربعة منها غير قابلة للعزف إلا على الآلات الشرقية كالقانون والعود، وهي الرست والبيات والسيكا والصبا.
لكي تكون لدى القارئ صورة عامة عن صوت وجو المقام سأعطي عن كل مقامٍ أغنيةً معروفة وواضحة اللحن، فعلى العجم أغنية “يا طير- فيروز” وعلى النهاوند “زيديني عشقًا – كاظم الساهر” وعلى الكرد “النهر الخالد – عبد الوهاب” وعلى الحجاز “بحلم بيك – عبد الحليم”، أما على الرست “يا مسهرني – أم كلثوم” وعلى البيات “سلملي عليه – فيروز” وعلى السيكا “يللي تعبنا سنين في هواه – جورج وسوف” وأخيرًا على الصبا “الأماكن – محمد عبده”، أو يمكن مراجعة مقال وفاء خيري “المقامات الموسيقية.. تراث الماضي الذي شكل ثقافتنا الشرقية الغنائية بشكلها الحاليّ” على نون بوست.
الأغنية القديمة الكلاسيكية
كان التنوع فيها كبيرًا ليس فقط بين الكوبليهات التي قد تعد أغاني كاملة، فحتى في الكوبليه الواحد والجملة الواحدة، فمثلًا في أندلسيات فيروز ووديع الصافي، تبدأ جملة “يا شقيق الروح من جسدي” بالرست ثم تنتقل للحجاز في “أهوًا بي منك أم ألم”، وبالبيات تعبّر وردة عن التأمل في الماضي الجميل في “كم ملأنا زورق الليل حنينًا” ثم بالصبا تتحسر بحرقة على ضياعه “يا حبيبي أين أحلامي أين”، ويغني عبد الحليم جملة “الهوى هوايا” في أغنيته بستة مقامات.
هيمنة الكرد
بسبب طبيعة تعبيره عن مشاعر الحب والدفء والشوق، وأيضًا بسبب سهولة أداء العُرَب الصوتية المبكية عليه، احتل مقام الكرد الغالبية القصوى من الأغاني العربية الحديثة، وبالخصوص الرائجة منها، فبنظرة بسيطة إلى أي قائمة تشغيل لأشهر الأغاني العربية منذ التسعينيات وحتى اليوم يمكن ملاحظة الهيمنة الساحقة للأغاني بمقام الكرد.
على سبيل المثال، عند مراجعة الحفلة المشهورة لعبد المجيد عبد الله في دار الأوبرا الكويتية عام 2017 نجد أن 20 من 23 كانت على مقام الكرد أي ما يعادل أكثر من 85% من أغاني الحفلة، وهذه النسبة معقولة ومتوقعة ويمكن ملاحظتها في أي قائمة تشغيل على اليوتيوب لأشهر الأغاني العربية وأيضًا عند ملاحظة أغاني الكثير من المغنيين مثل أليسا وشيرين وأصيل هميم وغيرها الكثير من المغنيين العراقيين الرائجين.
أغانٍ حديثة رائجة بغير الكرد
قد يعطي هذا انطباعًا بأن هذا الانحسار للتنوع والتوجه نحو جو واحد معين راجع لما يطلبه المستمعون، وأن هناك تغيرًا في ذوق المستمع، وهذا صحيح نسبيًا، لكن إذا نظرنا بدقة يمكننا أن نجد نجاح الكثير من الأغاني الحديثة رغم كون ألحانها على مقامات أخرى بل وأحيانًا مقامات شرقية.
إن إحدى أكثر الأغاني نجاحًا وانتشارًا في الوطن العربي هي “ثلاث دقات” وهي على مقام العجم، وقد نجحت بمقام الحجاز أغنية “مبروك” وأغنية “وياك أخذني” للمغنية بلقيس فتحي، بل إن إحدى أكثر الأغاني نجاحًا على المستوى العربي كانت أغنية “وعد مني” لرحمة رياض وهي على مقام شرقي هو البياتي، ونجح على البياتي أيضًا أغنية “مفروض” لأصيل هميم وأغنية “يا ستار” لمحمد حماقي، وكذلك من المقامات الشرقية نجحت وراجت أغنية “غلط عمري” لحسام الرسام وهي على مقام الصبا، فيما تعطينا الأغنية المشهورة “آه لو لعبت يا زهر” تنقلًا مبهرًا في أغنية شعبية بين عدة مقامات شرقية وغربية.
ما أريد قوله إن التغير في ذوق المستمع العربي نتيجة للتأثر بالثقافة الغربية والميل للألحان المباشرة قد يكون صحيحًا إلى مستوى معين، لكن نجاح ورواج أغانٍ حديثة مختلفة بل وميل شريحة كبيرة من المستمعين إلى الرجوع للأغاني الكلاسيكية القديمة، كل هذا يطرح أسئلة عن مسؤولية الوسط الفني في الشجاعة لإنتاج ألحان متنوعة أكثر قد تطلب منهم بعض الجهد الإضافي والخروج عن التكرار.
مقامات المخضرمين
ما زال بعض الفنانين الكبار يطرحون تنوعًا جيدًا في المقامات بأغانيهم مثل كاظم الساهر ونوال الكويتية وآمال ماهر وأيضًا وبالخصوص الفنانة أصالة نصري، فما زالت تقدم أعمالًا جديدةً لها طابع حديث وبتنوع كبير ورؤية جميلة في اختيار المقامات الغربية وكذلك الشرقية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد لها على مقام العجم أغنية “منازل” وعلى النهاوند “آه من عيناه” وعلى الحجاز “كفاية كلمة” وعلى الرست “بناء على رغباتك” وعلى البياتي “شف عذر” وعلى السيكا “بنت أكابر” وعلى الصبا “صباح الخير”، بل أيضًا نجد لدى أصالة تنويع المقامات في الأغنية الواحدة بشكل رائع ومميز مثل أغنية “رجع الفرح” و”قانون كيفك”.
ما فائد معرفة المقامات لي كمستمع؟
رغم أن ضرورة فهم وإتقان السلالم الموسيقية هي للموسيقيين والملحنين والمؤدين المحترفين، فإن معرفة مقامات الألحان والأغاني تعطي المستمع العادي أولًا قدرة على اختيار الأغنية المناسبة لحالته المزاجية والجو الذي يرغب به، إذ يعطي كل مقام عامةً إحساسًا مختلفًا ويعبر عن مشاعر معينة، فالعجم مثلًا يعطي مشاعر البهجة والسعادة والحيوية في حين يمثل الصبا الحزن واليأس والسواد.
ثانيًا، إضافة إلى كون المعرفة بالمقامات الرئيسية سهلة وغير متعبة للمستمع المتمرس الهاوي، تطور هذه المعرفة من قدرته على تقدير وتذوق اختيارات الألحان وتحوّلاتها ضمن الأغنية وفهم مغزاها وتوافقها مع قصة الأغنية، فمثلًا يفهم المتذوق للمقامات أسباب بدء أغنية “دارت الأيام” بالسيكا لإعطاء شعور بالتذكر والتأمل ثم الانتقال للحجاز للتحسر والندم عند مقطع “وقابلته”، ثم التحول الكامل للكرد ومشاعره في كوبليه “وصفولي الصبر”.