التقى الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، السفير حسام زكي، ممثل ما يُعرف بقوات سوريا الديمقراطية “قسد” سيهانوك ديبو، بمقر الجامعة في القاهرة، الخميس 16 يوليو/تموز 2020، وهي المرة الأولى التي تستضيف الجامعة ممثل تلك المجموعة المثيرة للجدل.
تطرق اللقاء إلى بحث رؤية “قسد” لحل الأزمة السورية وتفنيد الاتهامات الموجهة لها والمواقف المثارة حيال دورها الميداني، بجانب مناقشة ما أسماه ديبو “التهديدات التركية لشمال سوريا”، وفق ما ذكر ممثل الجامعة الذي أكد دعم المنظمة العربية للمعارضة الوطنية السورية.
يتزامن هذا اللقاء غير المسبوق مع الانتقادات التي وجهتها الجامعة العربية لأنقرة بسبب دعمها لحكومة الوفاق الليبية، المعترف بها أمميًا، التي حققت خلال الآونة الأخيرة انتصارات ميدانية عدة على مليشيات اللواء متقاعد خليفة حفتر المدعوم من الحلف الإماراتي المصري.
تساؤلات كثيرة عن دلالات هذه الخطوة وتوقيتها المثير للجدل، الذي يعتبره البعض نكاية سياسية حيال تركيا في ظل تصاعد التوتر بينها وبين القاهرة مؤخرًا بسبب تباين وجهات النظر حيال الملف الليبي، وهو -وفقًا لمتابعين- ما يفقد الجامعة حيادها وموضوعيتها.
استقبال الكيان العربي – الذي يعاني بطبيعة الحال من انقسامات داخلية – لممثل مليشيات الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني (ب ي د/ بي كاكا)، المصنف إرهابيًا، رغم الانتقادات الدولية والاتهامات الحقوقية بشأن ارتكابها لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق آلاف السوريين شرقي البلاد، أثار الكثير من الشكوك عن الدوافع الحقيقية لهذه الخطوة التي تنتقص من رصيد الجامعة المتناقص عامًا تلو الآخر.
تأسست قسد بمدينة القامشلي (شمال شرق سوريا)، في 10 أكتوبر/تشرين أول 2015، وتتكون من بعض المليشيات العسكرية الخليطة من بعض الهويات على رأسها الكردية، بهدف القضاء على تنظيم الدولة “داعش”، إلا أنه ووفق المصادر فإن تنظيم “ب ي د/ بي كاكا” الانفصالي التركي هو العمود الفقري لهذه القوات والمتحكم بها.
نكاية سياسية
أن تفتح الجامعة العربية أبوابها لهذا التنظيم الذي يحكم سيطرته على بعض المحافظات السورية ذات الأغلبية العربية كدير الزور والرقة والحسكة، ويسعى لإعادة هيكلة الخريطة الديموغرافية والثقافية للعقلية المجتمعية للعرب المقيمين في تلك المدن، مسألة تحتاج إلى فهم وتأصيل.
التوقيت كذلك هو الآخر علامة استفهام كبيرة، فبعد سنوات من تجاهل الجامعة للملف السوري منذ تجميد عضويتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وتفضيل سياسة النأي بالنفس عن طرفي النزاع في ظل انقسام الرؤى بين الدول الأعضاء بشأن الأزمة، تستقبل الجامعة ممثل هذا الكيان على وجه التحديد دون غيره من بقية فصائل المعارضة الوطنية يضع مجلس الجامعة في مأزق حقيقي.
تعرضت الجامعة منذ نشأتها إلى اتهامات عدة بشأن تسييس مواقفها وفقدانها لاستقلالية قرارها السياسي، حيث تخضع في معظم الأحيان لقوى بعينها، في الغالب هي من توظف النفوذ المالي لتحقيق أجندات بعينها، وهو ما يعزز حالة الانقسام التي تشهدها المنظمة وتفقدها تأثيرها، سواء على المستوى العربي أم الدولي.
خضوع المنظمة خلال السنوات الأخيرة لإرادة الحلف السعودي الإماراتي ومعه الدولة المقر، مصر، كان سببًا رئيسيًا في تراجع مكانتها لدى الشارع، وهو ما أشار إليه مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير، هاني خلاف، بقوله: “تسييس الجامعة العربية أحد أسباب تشويه صورتها أمام المواطن العربي”.
إستراتيجية النكاية اتبعتها القاهرة ذاتها في أكتوبر/تشرين الأول 2019 حين استقبل وزير الخارجية المصري سامح شكري، وفدًا من مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”، الذراع السياسي لـ”قسد”، وقد ضم الرئيس المشترك للمجلس الكردي رياض درار، ورئيسة الهيئة التنفيذية إلهام أحمد، وممثل عن مكتب العلاقات العامة سيهانوك ديبو.
جاء هذا الاستقبال لإحدى فصائل المعارضة رغم موقف القاهرة الواضح من القوى المسلحة التي تقاتل ضد نظام بشار الأسد، قبيل عقد مجلس وزراء الجامعة العربية جلسته الطارئة لبحث تداعيات العملية التركية في شمال شرق سوريا “نبع السلام”.
الخبير بالشأن الكردي الدكتور فريد سعدون، علق على هذا الاجتماع بقوله: “قسد تسعى لوساطة القاهرة من أجل فتح قنوات حوار مع حكومة دمشق”، لافتًا في تصريحات له أن الهدف الرئيس لتلك الزيارة إدخال الجانب المصري على خط الأزمة “للتوصل إلى صيغة تقطع الطريق على الاجتياح التركي للشمال السوري”، على حد قوله.
وأضاف أن اختيار القاهرة لهذا الكيان خصيصًا لاستقباله دون بقية فصائل المعارضة يرجع في المقام الأول إلى دعم مصر لأي جبهة تقف في مواجهة تركيا، حتى لو كانت عليها عشرات علامات الاستفهام السابقة بشأن جرائمها المرتكبة ضد الشعب السوري.
وعليه يمكن فهم بيان الجامعة العربية الصادر عقب هذا الاجتماع الذي أدان العملية التركية في ظل الصمت الذي خيم على أركان الجامعة حيال تدخل إيران وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية بشؤون سوريا، هذا بخلاف المجازر التي ارتكبها نظام الأسد بحق الشعب السوري، وفق ما ذهب المتحدث باسم “مجلس القبائل والعشائر السورية” مضر حماد الأسعد.
واستنكر الأسعد سبات الجامعة ومجلسها عندما ارتكبت مليشيا “الوحدات الكردية” التي تقود “قسد” مئات المجازر بحق الشعب السوري في المحافظات الشرقية، وذلك رغم صراخ المنظمات الدولية بشأن تلك الانتهاكات التي لم تحرك ساكنًا لدى الجامعة والقائمين عليها.
جرائم حرب
العديد من الاتهامات والإدانات الحقوقية، الإقليمية والدولية، تتعرض لها مليشيات “قسد” بشأن الانتهاكات التي تمارسها في شمال شرق سوريا، التي تتضمن قتل وتعذيب وحرق، هذا بخلاف حملات التهجير التي طالت مئات الآلاف من العرب، وفق ما تم توثيقه بالأدلة.
في يوليو/تموز 2019 أصدر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، تقريرًا قال فيه: “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق آلاف السوريين شرقي البلاد، بغطاء من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”.
التقرير الصادر عن المؤسسة التي تتخذ من جنيف مقرًا لها، أوضح أن تلك الجرائم تتم بدعم وتنسيق من قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، التي تدعم المليشيات الكردية عسكريًا منذ تأسيسها قبل 5 سنوات، واصفة هذا الدعم بأنه “غير مبرر”.
كما كشف المرصد أن تولي قوات سوريا الديمقراطية إدارة الجزء الشرقي من البلاد كان سببًا رئيسيًا في زيادة معاناة آلاف السوريين في مدينتي الرقة ودير الزور، موضحًا أن أخطر صور تلك المعاناة التجنيد الإجباري الذي تفرضه تلك المليشيات على المواطنين وبينهم أطفال لم تتجاوز أعمارهم الـ18 عامًا.
هذا بخلاف عمليات الإعدام التي تتم بحق المدنيين السوريين سواء بحجة أنهم يتبعون لتنظيم الدولة أم الرافضين للتجنيد الإجباري للقتال في صفوفها وهو ما وثقه فيديو مسرب لمثل تلك الانتهاكات التي تضمنها تقرير المرصد الأوروبي المنشور.
الباحث القانوني في المرصد “الأورومتوسطي” محمد عماد، وصف ما يحدث في الشرق السوري على يد “قسد” بأنه أمر خطير وانتهاك فاضح لأبسط الحقوق القانونية، مستهجنًا موقف الدول المشكلة لقوات التحالف الداعم لتلك المليشات التي تمارس أبشع صور الانتهاكات على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي.
وفي فبراير/شباط 2020 اتهمت منظمة الأمم المتحدة في تقرير لها كلًا من روسيا ونظام الأسد وقوات سوريا الديمقراطية بارتكاب جرائم حرب ضد سوريا، مستعرضًا بعض الوقائع التي تؤكد تعمد النظام وموسكو استهداف المدنيين في إدلب.
التقرير الذي يغطي الفترة من يوليو/تموز 2019 إلى فبراير/شباط 2020 كشف النقاب بالأدلة والوثائق التفصيلية أن المناطق التي تسيطر عليها المليشيات الكردية في شرق سوريا شهدت زيادة كبيرة في الانتهاكات لحقوق المدنيين بما في ذلك الأطفال، بخلاف مقتل وإصابة العديد من المدنيين.
وهكذا رغم كل تلك التقارير التي تفضح انتهاكات مليشيات سوريا الديمقراطية وقوامها الرئيسي عناصر “ب ي د/ بي كاكا” الإرهابي، فإن ذلك لم يلفت نظر مجلس الجامعة العربية التي ارتأت لنفسها استقبال ممثل هذا التنظيم لا لشيء إلا نكاية في أنقرة، وهو الموقف الذي ينتقص بطبيعة الحال من استقلالية الجامعة ويزج بها مجددًا في آتون التسيسس والعمل لصالح دول بعينها بما يقوض دورها ويهمشه أكثر مما هو عليه الآن.