منذ نشأته عام 970 ميلاديًا، ظل الأزهر مطية في أيدي الولاة والحكام، يتناوبون على حكمه، يُسيرون أمره، بمعزل تام عن أي منهجية فكرية أو إدارية، وعليه ظلت هذه المؤسسة الدينية العريقة تتأرجح بين الاهتمام حينًا والإهمال أحايين كثيرة.
كان من يتولى شؤون المؤسسة ناظر عمومي، يرأس الجهاز الإداري من الموظفين والخدم، ولا علاقة له بالنواحي العلمية قط، وقد استحدث هذا المنصب في العصر المملوكي، لكن تأثيره لم يكن موجودًا في ظل تدني مستوى كفاءة من يتقلدون هذه المكانة.
غير أنه ومع زيادة أعداد الطلبة والمريدين القادمين إلى أعتابه من كل حدب وصوب لتعلم أمور الدين وعلوم الشرع والفقه، بات الأزهر في مأزق شديد، إداريًا في المقام الأول، وعليه رأى السلطان العثماني، سليمان القانوني (1494-1566) ضرورة إعادة النظر في وضعية المؤسسة بعد الهالة الكبيرة التي حظيت بها في هذا الوقت.
وفي عام 1679 أصدر السلطان فرمانًا يقضي بتنصيب شيخ للأزهر، تكون مهمته الإشراف على شؤون المؤسسة ومراعاة أمورها والعمل على تطويرها بما يتناسب مع مكانتها، مشترطًا أن يختار علماء الأزهر إمامه، وفق معايير الكفاءة والعلم.
وبالفعل وقع اختيار العلماء بعد التفضيل بين عدد من مشايخ المؤسسة وعلمائها على الشيخ أبو عبد الله محمد بن جمال الدين عبد الله بن علي الخرشي المالكي، الشهير بـ”عبد الله الخرشي” (1601-1690) ليكون أول شيخ للأزهر، واضعًا اللبنة الأولى في بناء المشيخة التي باتت اليوم أحد أبرز المؤسسات الدينية الوسطية في العالم أجمع وليس الإسلامي فقط.
حفظ المصريون للقانوني معروفه باستحداث منصب شيخ الأزهر لتطوير أداء المؤسسة ذات المكانة الدينية البارزة في صدور الشعب المصري المتدين بطبيعة الحال، مقارنة بما فعله الولاة السابقون من هدم وتدمير لأركان المشيخة عبر الإهمال، متعمد كان أو عن دون قصد.
وسمي بالخرشي ويُعرف كذلك بالخراشي، نسبة إلى قريته أبو خراش، وهي القرية التي ولد بها، وتتبع مركز الرحمانية، بمحافظة البحيرة (شمال)، كما أنه لم ينل حظه من الشهرة إلا بعد أن تقلد مشيخة الأزهر، لذا يندر حضوره في كتب المؤرخين إلا القليل.
التتلمذ على أيدي كبار العلماء
تخرج الخرشي المولود في القاهرة عام 1601 في بيت متدين بطبيعة الحال، حيث تلقى تعليمه ابتداءً على يد والده الشيخ جمال الدين الذي زرع في نفسه حب العلم وشغف التعلم، هذا بخلاف تلقيه علوم الشرع والفقه على أعتاب كبار رجالات الأزهر في هذا التوقيت وأبرزهم: العلامة إبراهيم اللقاني، رفيق والده في درب التعلم.
أشتهر الخرشي بالعدل بين الناس، فكان ملاذ كل باحث عن مظلمة وملجأ كل من يتعرض لظلم
هذا بخلاف فقهاء مصر وقتها، الشيخ الأجهوري والشيخ يوسف الغليشي والشيخ عبد المعطي البصير والشيخ ياسين الشامي، الذين كان لهم دور كبير في تشكيل منهج حياته الديني، وسار على هذا النهج التربوي الخالص، متلقنًا على أعتابهم علوم “التفسير والحديث والتوحيد والتصوف والفقه وأصول الفقه وعلم الكلام والنحو والصرف والعروض والمعاني والبيان والبديع والأدب والتاريخ والسيرة النبوية، وأيضًا درس علوم المنطق والوضع والميقات”.
كان يتمتع بأخلاقه العالية التي زرعت حبه في نفوس كل المقربين منه، وهو ما توثقه شهادات العارفين الفقهاء، فعنه يقول المؤرخ الشهير الجبرتي: “هو الإمام العلامة والحبر الفهامة، شيخ الإسلام والمسلمين ووارث علوم سيد المرسلين هو شيخ المالكية شرقًا وغربًا، وتولى مشيخة الأزهر في الفترة بين 1679/ 1690”.
وفي كرم نزله يقول الشيخ علي الصعيدي العدوي المالكي في حاشيته “هو العلامة الإمام والقدوة الهمام، شيخ المالكية شرقًا وغربًا، قدوة السالكين عجمًا وعربًا، مربي المريدين، كهف السالكين، سيدي أبو عبد الله بن علي الخراشي”، كما كان يشتهر بين الناس بحب الخير والكرم ولهفة المظلومين والمحتاجين.
تتناقل السير عنه قول من عاشره إنه لم يُضبط ساعة فيها غافل عن مصالح دينه ودنياه، فكان يغيث الملهوف ويتودد للجميع ويقدم يد العون للقريب والبعيد، بل كان يسخر طاقته ومعظم ساعات يومه لقضاء حاجة الناس، يتساوى في ذلك المسلم وغير المسلم.
أشتهر الخرشي بالعدل بين الناس، فكان ملاذ كل باحث عن مظلمة وملجأ كل من يتعرض لظلم، ومن ثم تحول إلى قبلة يقصدها المصريون في كل أزمة تقع بينهم، فإذا ظلم حاكم أو تاجر كان عليهم أن يقولوا “يا خراشي” فيعود الظالم عن ظلمه، ومع مرور الوقت باتت هذه الكلمة إلى تعبير يزامن كل من يبحث عن مستنصر حتى اليوم.
أول شيخ للأزهر.. جدل لم يحسم بعد
في كتابه الشهير “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” والمعروف بـ”تاريخ الجبرتي”، الصادر في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي كتب المؤرخ الشهير قائلًا: “تكاد الروايات تجمع على أن الشيخ أبو عبد الله محمد بن جمال الدين بن على الخراشي – رحمه الله – هو أول من تولى منصب شيخ الأزهر الشريف، وكان ذلك سنة 1090 هجرية الموافق 1679 ميلادية”.
غير أن تأريخ الجبرتي للخرشي كأول شيخ للأزهر قوبل ببعض التشكيك من بعض المنتسبين للأزهر ذاته، حيث عكف باحثون في المؤسسة على دراسة هذه الحقيقة التي ظلت محل ثقة على مدار العديد من العقود، ليخرجوا بعدها بأن أبو عبد الله بن جمال الدين ليس أول إمام للأزهر.
وخلال السنوات الماضية كشف باحثو الأزهر من خلال دراسات لهم أن هناك 11 شيخًا سبقوا الخرشي في الجلوس على مقعد الإمام الأكبر، مستندين في ذلك إلى 6 وثائق كانت محفوظة في مخازن المكتبة تثبت خطأ هذه المعلومة، على حد قول الباحثين.
أثرى الإمام المكتبة الإسلامة بأمهات الكتب منها رسالة في البسملة، الشرح الكبير على متن خليل، في فقه المالكية
واستعرضوا أبرز الأسماء التي جلست على كرسي المشيخة قبل مجيء الخرشي، أبرزهم: الشيخ برهان الدين إبراهيم العلقمي القاهري الشافعي المتوفي عام 1586، كذلك الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الحق السنباطي المتوفي سنة 1586، يعقبه الشيخ أبو المحامد محيي الدين عبد القادر الغزي الحنفي.
ثراء للمكتبة العلمية
على مدار مسيرته العلمية المميزة، أثرى الخرشي بعلمه الغزير شرايين المجتمع المصري والإسلامي، فتتلمذ على يديه مئات العلماء من مختلف دول العالم، أبرزهم الشيوخ أحمد اللقاني ومحمد الزرقاني وعلي اللقاني وشمس الدين اللقاني وداود اللقاني ومحمد النفراوي وأحمد النفراوي والشبراخيتي وأحمد الفيومي.
بل إن من تلامذته من تقلد مشيخة الأزهر فيما بعد من بينهم الشيخ عبد الباقي القليني الذي تولى مشيخة الأزهر وأصبح رابع المشايخ، هذا بجانب إبراهيم بن موسى الفيومي، سادس أئمة المؤسسة، وآخرهم الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي الذي تم تعيينه شيخًا للأزهر أواخر أيامه.
وقد أثرى الإمام المكتبة الإسلامية بأمهات الكتب منها: رسالة في البسملة، الشرح الكبير على متن خليل، في فقه المالكية، في ثمانية مجلدات، الشرح الصغير لمختصر خليل على متن خليل أيضًا، في أربعة مجلدات، إضافة إلى الفرائد السنية في حل ألفاظ السنوسية في التوحيد، والأنوار القدسية في الفرائد الخراشية.
وعلى مدار 11 عامًا قضاها الخراشي فوق كرسي مشيخة الأزهر، نجح خلالها في إعادة هيبة المؤسسة مرة أخرى حتى صارت مقصدًا للباحثين عن علوم الدنيا والدين في آن واحد، غادر الحياة في هدوء تام، صبيحة السابع والعشرين من شهر ذي الحجة، في العام 1690 ميلاديًا، موصيًا أن يدفن مع والده في مقابر العائلة بمدافن المجاورين (مقابر أسرة محمد علي باشا) بمنطقة منشية ناصر وسط العاصمة المصرية.