لا يدعو هذا المقال للتفكير بعقلية المؤامرة ولا يحمل عنوانه مفارقة لغوية ترفيهية، إنما يدعو للتفكير عكس ذلك تمامًا، بتساؤل بسيط عن وضع الآثار العربية والإسلامية في تراث اليونسكو وانحساره قياسًا بباقي الدول والحضارات، يمكن فهم سبب غياب الدور العربي عن كثير من الناشطات السياسية والاقتصادية والثقافية اليوم، ما لا يمكن فهمه إقصاؤهم عن التاريخ!
بمراجعة بسيطة لقائمة اليونسكو للتراث العالمي، يتبين أن حجم الآثار العربية والإسلامية خارج المناطق العربية لا يتعدى 83 موقعًا من أصل 1122 من مجموع المواقع المدرجة أي 7.3% فقط، تشكل الكنائس والكاتدرائيات وحدها على سبيل المثال 61 موقعًا أي ما يعادل كل الآثار العربية والإسلامية مجتمعة! وحتى الكنائس العربية اقتصرت على كنيسة المهد في القدس!
نحن لا نتحدث هنا عن تمثيل سكاني، بل عن منطقة غارقة بالتاريخ إلى رأسها: حضارة ما بين النهرين، الحضارة المصرية، الحضارة الكنعانية، الحضارة الإسلامية، ومع ذلك لا يزال تمثيلها ضعيفًا في قائمة تراث اليونسكو، فهل يخلو الأمر من انحياز؟
إرث إنساني مشترك.. أو هكذا يُقال!
في العام 1972 لاحظ المؤتمر العام للتربية والعلم والثقافة أن اندثارًا يصيب الكثير من الآثار والمعالم الطبيعية في العالم، وأن الأمم المتحدة بصفتها مؤسسة جامعة للبشرية، عليها التحرك لإنقاذ تلك المعالم، وهكذا أنشأت لجنة دولية للتراث العالمي تتكون من 15 دولة تتوسع لاحقًا لتضم 21 دولة يختارها الأطراف الموقعة على اتفاق التراث العالمي الذي يضم 190 بلدًا، وتتبدل بشكل دوري كل 4 سنوات.
تتخذ هذه اللجنة عدة إجراءات تجاه ما يُعتبر أنه تراث عالمي:
– إنشاء صندوق لحماية التراث العالمي.
– تصنيف المواقع الثقافية المهمة على أنها من التراث العالمي.
– متابعة إجراءات تنفيذ قرارات اللجنة فيما يخص حماية الأماكن المهددة بالدمار أو ترميم تلك الأماكن.
خلال آخر انتخابات جرت يومي 27 و28 نوفمبر 2019، تم إضافة 9 دول جديدة بدلًا من تلك التي انتهت عضويتها، ليكون أعضاء اللجنة الآن: “أستراليا، البحرين، البوسنة والهرسك، البرازيل، الصين، مصر، إثيوبيا، غواتيمالا، المجر، قيرغيزستان، مالي، نيجيريا، النرويج، عمان، سانت كيتس ونيفيس، إسبانيا، تايلاند، الاتحاد الروسي، المملكة العربية السعودية، جنوب إفريقيا، أوغندا”.
إذًا، كيف يتم اختيار معلم على أنه من التراث الإنساني؟
تقول اليونيسكو إن هناك 10 معايير يكفي احتواء أي معلم على بعض منها لتبدأ إجراءات ضمه للائحة العالمية – بعد تصنيفه بين التراث الثقافي أو الطبيعي – وتضع مثالًا لكل منها:
– أن يمثل إحدى روائع العقل البشري المبدع: دار الأوبرا في سيدني أستراليا.
– أن تتجلى فيه تأثريات متبادلة قوية جرت على امتداد فترة من الزمن أو داخل منطقة ثقافية معينة من العالم، تتعلق بتطور الهندسة المعمارية أو التكنولوجيا أو الصروح الفنية أو تخطيط المدن أو تصميم المناظر الطبيعية: المدينة التاريخية في سمرقند.
– أن يقف شاهدًا فريدًا أو استثنائيًا لحضارة لا تزال حية أو مندثرة: مركز مكاو التاريخي في الصين.
– أن يكون نموذجًا بارزًا لنمط من البناء أو لمجمع معماري أو تكنولوجي أو لمنظر طبيعي يمثل مرحلة مهمة من مراحل التاريخ البشري: قناة الستارة في كندا.
– أن يمثل نموذجًا بارزًا لمستوطنة تقليدية أو لأسلوب تقليدي لاستخدام الأراضي أو البحار يمثل ثقافة معينة أو يمثل ثقافة الإنسان لبيئته: غابات الأغاف والمنشآت الصناعية في تيكيلا بالمكسيك.
– أن يكون مقترنًا على نحو مباشر أو ملموس بتقاليد حية أو معتقدات أو بمصنفات أدبية أو فنية ذات أهمية عالمية بارزة: قوس ستروف الجيوديسي في بيلاروسيا وإستونيا وفنلندا ولاتفيا وليتوانيا وأوكرانيا وجمهورية مولدفا والاتحاد الروسي والسويد.
– أن ينطوي على ظواهر منقطعة النظير أو يضم مناظر ذات جمال طبيعي استثنائي وأهمية جمالية فائقة: محمية المحيط الحيوي لفراشة الملك في المكسيك.
– أن يقدم أمثلة فريدة لمراحل تاريخ الأرض بما في ذلك سجل الحياة على الأرض وللعمليات الجيولوجية المهمة والمؤثرة في تطور التشكيلات الأرضية أو المعالم الجيومورفية المهمة: وادي الحيتان في مصر.
– أن يقدم أمثلة فريدة للعمليات الأيكولوجية والبيولوجية المهمة والمؤثرة في تطور النظم البيئية الأرضية ونظم المياه العذبة والنظم الساحلية والبحرية والجماعات النباتية والحيوانية: غابات اتسينانانا المطيرة في مدغشقر.
– أن يشتمل على أهم المواطن الطبيعية وأكثرها دلالة لصون التنوع البيولوجي في عين الموقع بما ذلك المواطن التي تحوي على أجناس مهددة ذات قيمة عالمية عالية من وجهة نظر العلم أو المحافظة على الثروات: أرخبيل سقطرى في اليمن.
عند تقديم أي دولة أو منطقة طلبًا ما، يتم تشكيل لجنة خاصة بمراجعة توافق المكان مع تلك المعايير، وقد يبدو للوهلة الأولى أن العملية أكاديمية أو فنية بحتة، لكن مثل هذا النوع من التقييمات يتعرض دائمًا للمجاملات السياسية ومصالح الدول التي تظهر بهذا الشكل من التوافقات، بالتالي يمكن الاستنتاج أن وزن الدول عالميًا ربما يكون معيارًا آخر غير مباشر لإدراج موقع ما على اللائحة.
عند توزيع المواقع المدرجة ضمن التراث العالمي على الخريطة يتبين تركزها بشكل كبير في جزء الكرة الشمالي: أوروبا تحديدًا!
ومع مقارنة منطقة الشرق الأوسط الغزيرة بالمعالم التي تتفق بالضرورة مع أحد أو بعض معايير اليونيسكو العالمية، يظهر الفرق الشاسع.
وحتى الأماكن التي أضيفت ضمن النطاق العربي، لم يدخل الكثير منها إلا مؤخرًا بعد ضغط إعلامي وشعبي كبير، دون نسيان رفض الكثير منها.
كثير من الكنائس.. قليل من المساجد
في العام 2000، أدرجت اليونيسكو كنائس شيلوي في تشيلي، وهي مجموعة كنائس بناها الأوروبيون في القرن السابع عشر والثامن عشر – البعثات التبشرية -، حيث تقول اللجنة إن تلك الكنائس تمثل التعايش بين الأوروبيين وسكان أمريكا الجنوبية.
لو استبعدنا قليلًا الهالة المقدسة والأحكام المسبقة الموضوعة على الأمم المتحدة واعتبرنا أن ما تقوله مؤسساتها قابل للنقاش، وأيضًا مع استبعاد الانحياز الواضح في مثل هذا الاختيار وغيره الذي يجعل من عدد الكنائس والكاتدرائيات المسيحية حول العالم 20 ضعف عدد المساجد – رغم وقوعها (المساجد) في منطقة موغلة في التاريخ والأحداث المفصلية بتاريخ البشرية -، فإن السؤال يُطرح هنا عن سبب عدم إدراج مواقع إسلامية تحظى بنفس الأهمية والمعايير في القائمة العالمية.
فاللائحة لا تحوي إلا 3 مساجد وهي: المسجد الكبير في بنغلاديش ومسجد السليمية في مدينة أدرنة التركية والمسجد الكبير الملحق بمستشفى دفريي بتركيا، – هناك مدينة أثرية في الهند تضم مسجدين، لكن تم ضم المدينة في اللائحة وليس المسجدان خصوصًا -.
هذه على سبيل المثال لا الحصر نماذج لمعالم تاريخية تماثل في تكوينها الطريقة التي بُنيت بها كنائس شيلوي في تشيلي من حيث كونها رمزًا للتعايش مع أقوام غرباء دخلوا أراض جديدة نشروا فيها دينهم، مع فارق أن اللايتينين طردوا الإسبان والبرتغاليين وأن سكان الأماكن التالية اندمجوا مع العرب.
مسجد الكوفة في العراق: بناه الصحابي سعد بن أبي وقاص عام 636 ميلادية – 14 هجرية
مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط “القاهرة” 642 ميلادية – 20 هجرية
مسجد القيروان: بناه الصحابي عقبة بن نافع عام 670 ميلادية – 50 هجرية
جامعة ومسجد القرويين: بناه الشريف إدريس الثاني في فاس عام 859 – 245 هجرية
هذه ليست إلا أمثلة بسيطة على اختلاف تطبيق المعايير في منطقتين جغرافيتين، التي لا يمكن عزلها عن الانحياز العام في كل ما يتعلق بالثقافة العربية وهويتها الإسلامية، بالطبع لا تعفي ازدواجية المعايير الدول العربية الأعضاء في لجنة اليونسكو للتراث العالمي، فالبعثات العربية تنفق مبالغ كبيرة على بعثاتها في الأمم المتحدة، لكن دورها وحجم تأثيرها لا يرقى لما تملكه من إرث ثقافي لم يأخذ حقه بالتمثيل في تراث يُقال إنه ملك لكل البشرية!