على وقع الصراعات السياسية والفكرية التي تحياها الولايات المتحدة الأمريكية، والصراع بين التقدميين والشعبويين، تغير الخطاب الليبرالي الأمريكي كليًا، لدرجة أنه يحاول إعاده تقديم نفسه بأطر مختلفة تمامًا، إذ يطالب بتحويل أمريكا إلى سويسرا جديدة، دولة منعزلة تشغل نفسها بنفسها وتثمن قضايا التجارة الحرة وتشجع السلام والدبلوماسية في القضايا الخارجية وتتنازل نهائيًا عن مكانتها العالمية على النمط القديم، مقابل المزيد من الرخاء الاقتصادي لمواطنيها والابتعاد كليًا عن الانخراط في صراعات دولية لا تنفض ولا تنتهي.
تفريط في مكانة أمريكا أم إعادة إنتاج الذات؟
قد يبدو للبعض عند مطالعة هذه الأفكار، أنها مجرد نزعات نخبوية وانعزالية والتفاف حول الذات، كما هي طبيعة الكثير من الليبراليين حول العالم، لكن ستنتهي هذه الإشكالية عندما نعرف الأبحاث والآراء العلمية التي طرحها خبراء العلاقات الدولية في الكليات والجامعات الأمريكية، التي تؤكد أغلبها أن الولايات المتحدة أصبحت أقل احترامًا مما كانت عليه بالماضي في نظر العالم، والمفاجأة أن الرأي العام الأمريكي يوافق أيضًا على هذا التقييم.
منذ عامين، أجرى مركز بيو للأبحاث ـ مركز أمريكي شهير يوفر معلومات عن القضايا الاجتماعية والرأي العام والاتجاهات الديموغرافية التي تشكل الولايات المتحدة والعالم، كما يجري استطلاعات الرأي العام والبحوث الديموغرافية، ويحلل محتوى وسائل الإعلام وغيرها من بحوث ـ استطلاع رأي أثار الكثير من الجدل.
أوضح المركز في مسح لأقسام العلاقات الخارجية بالكليات ومراكز الأبحاث أن 93% من بين أهم خبرائه يؤكدون أن الولايات المتحدة أصبحت أقل احترامًا من الدول الأخرى مقارنة بالماضي، والمفاجأة أن هذا الرأي لم يخالفه إلا ما يقرب من 4% فقط، أكدوا أن الولايات المتحدة ما زالت تحظى بالاحترام كما كانت في الماضي، بينما سار 2% فقط في اتجاه شارد عن هذه الرؤى، وهؤلاء لديهم اعتقاد أن بلادهم تحصل على احترام أكبر من الخارج مما كانت عليه في السابق.
لم يتوقف المركز على رأي علماء العلاقات الدولية لاستبيان الواقع الجديد، فنزل للشارع الأمريكي وأجرى مسحًا آخر، وخرج بنتيجة توضح أن سبعة من كل عشرة أمريكيين أكدوا أن الولايات المتحدة أقل احترامًا من قبل الدول الأخرى اليوم مقارنة بالماضي، في الوقت الذي يعتقد نحو اثنين فقط من كل عشرة أن أمريكا حافظت على مستوى الاحترام العالمي.
إعادة إنتاج الليبرالية
من المعروف عن الفسلفات الليبرالية أنها تلفظ الإرهاب المعنوي واستعراض القوة وتميل أكثر إلى تعزيز المشاركة وتبادل المصالح، لأن غياب هذه اللغة سينتج فراغًا لن يعيد شغّله إلا الأسلحة والمدافع، وهو ما يحدث بالفعل على عدة أصعدة في العالم، فالتجارة الحرة والاقتصاد والمصالح تُذيب أقوى الأزمات وتعيد إنتاج العلاقات من جديد.
على مدار العقود الماضية كانت الليبرالية تتراجع بشكل ملحوظ، واتُهمت بالتسبب في ارتفاع عدم المساواة بسبب التكاليف الباهظة للإسكان والرعاية الصحية، مما أدى إلى تحول الطبقة العاملة والمتوسطة من البيض إلى دعم الرئيس دونالد ترامب الذي وصل للسلطة عام 2017.
مع توهج شعبوية ترامب، كانت الضربات تلاحق الفكرة الليبرالية على الساحة العالمية أيضًا تزامنًا مع صعود قوى أخرى حاولت تسويق فلسفات سياسية مختلفة للقرن الحادي والعشرين، وقاد هذا المعسكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كال الانتقادات لليبرالية خلال قمة مجموعة العشرين عام 2019 باليابان، وأكد أنها أصبحت فكرة بالية، وقدم بدلًا منها الديمقراطية السيادية الروسية.
لكمات بوتن استندت إلى صعود القومية في أمريكا وتراجع الليبرلية عالميًا بداية من الولايات المتحدة نفسها مرورًا بالهند وهما أكبر ديمقراطيات العالم، نهاية ببولندا والمجر، فضلًا عن الشرق الأوسط الذي فشلت أغلب ديمقراطياته بعد ثورات الربيع العربي، ومن نجا من التمزق، أصبح يميل ولو بشكل غير ملعن إلى اعتماد النموذج الروسي كبديل آمن يمكنه حماية البلدان من التفكك، بسبب الصراعات الدينية والفكرية التي تجتاح النخب من مختلف القوى السياسية، الأمر الذي ينعكس على الشارع وخياراته وكذلك مؤسسات القوة فيه.
وسط هذه الغيوم التي كانت تهدد بفناء الفكرة، جاءت حادثة مقتل جورج فلويد بطريقة وحشية على يد بعض أفراد الشرطة والاستخفاف بحياته ضمن سلسلة عمليات قتل ارتكبتها الشرطة ضد الأمريكيين السود، لتعيد الليبرالية إلى الواجهة من جديد على الأقل في الولايات المتحدة.
أزمة فلويد أشعلت أهم انتفاضة اجتماعية في أمريكا منذ الستينيات، وثارت احتجاجات عرقية حول العالم على إثرها، وأصبح الواقع في حاجة إلى نضال جديد من أجل عدالة عرقية تنهي هذه المهازل بشكل نهائي، لا سيما أن الأزمة عرّت القوميين والشعبويين الجدد، بعد تعنت ترامب وأتباعه ومحاولته جر الجيش للسيطرة على الشوارع والصدام مع المحتجين، والتحرش بالسود تارة وباليسار واتهامه بالراديكالية والتطرف والإرهاب تارة أخرى، لمجرد مطالبتهم بعدالة جديدة تسع الجميع.
عاد المنطق الليبرالي يقدم نفسه كحل يحمل صيغة مقبولة للجميع، بعد أسابيع من الصراعات السياسية والإعلامية والفكرية لتحديد معنى جديد للهوية يحمي البلاد من الصراعات المشتعلة تحت الرماد، وكأن أكبر وأحدث دولة في العالم مجرد ديمقراطية ناشئة لا تعرف كيف تدير نزاعاتها، الأمر الذي تسبب في توجيه لكمة قوية للقوميين وأودعهم في الخلف، ومعهم شعاراتهم الشمولية والعنصرية التي أخلص لها دونالد ترامب وحلفاؤه.
استغل الليبراليون الفرصة لتفنيد القلق الاقتصادي والثقافي المتزايد منهم، خاصة أن الشعبوية لم تصعد إلا بعد انعزال اللييرالية في عباءة نخبوية، انحرفت في مناهج معادية للديمقراطية، وأخذت زمام السلطة بعيدًا عن المواطنين العاديين وقوّضت مصالحهم الاقتصادية، حتى أصبحت الفكرة منبوذة في أهم معاقلها بالعالم.
التمدد الخارجي.. نحو سويسرا جديدة في أمريكا
يجادل الليبراليون في أمريكا الآن من أجل إيجاد سياسة أخرى تضع الهوية الأمريكية في قلب مصالح العالم من جديد، لكن من خلال التركيز على دعم سياسة السوق الحرة التي دمرها ترامب بصراعه مع الصين والبلدان الأوروبية وإيران والعديد من البلدان الأخرى.
تقف جو يورجنسن الأكاديمية ومرشحة الحزب الليبرالي الأمريكي، على رأس مشروع التجديد خلال رحلة سعيها لرئاسة الولايات المتحدة في انتخابات 2020، وتخوض جدالات عميقة من أجل تحجيم الولايات المتحدة داخل حدودها وإعادة تعريف الأمن القومي، خاصة أن بلادها لم تربح أي شيء من التمدد العسكري إلا تورطهم في حروب لا داعي لها، تسببت في مقتل مئات الآلاف من جنودهم وإهدار تريليونات من دولارات دافعي الضرائب، والأسوأ من ذلك خلق المزيد من الأعداء الجدد.
تعتبر رئيسة الحزب الليبرالي أن الوقت حان لإحضار أمريكا إلى السلام والتوقف عن التدخل في شؤون البلدان الأخرى، وبدلاً من ذلك إشراك العالم في مصالح تجارية، فالتجارة السلمية تمنع الصراع وعندما لا تعبر البضائع الحدود، تقوم القوات بذلك، تقول جوريورجنسن في مقال لها بجريدة الإندبندنت.
ترفض مرشحة الحزب الليبرالي، تسلط الحكومة الذي خلقه ترامب وتدخلاته في كل شيء، ومن ضمن قائمة رفضها الاستمرار في النهج العدائي والتلويح الدائم بالحرب، وحتى يحدث ذلك تروج لنموذج سويسري جديد يجعل من أمريكا مسلحة بقوة، ولكنها تبقى على الحياد دون المزيد من التمركز في دول أجنبية ولا تعطي في المقابل مساعدات عسكرية لأحد.
تخوض المرشحة للرئاسة الأمريكية معركة كبرى لإعادة تعريف بلادها بالقيم الليبرالية التي تزعم أنها ستقود العالم إلى أسواق أكثر حريةً وابتكارًا وتكنولوجيا، ويبدأ ذلك بإصلاح التعليم الذي تدهور في أمريكا وأصبح مثل أي دولة شمولية أخرى، تحدد نماذجه وزارة تفرض منهجًا من أعلى إلى أسفل وتفصل مقاسًا واحدًا ليناسب الجميع، وهو أمر غريب في مجتمع يتطرف في الفردانية إلى أقصى درجة.
تؤكد جوريورجنسن أن المدارس والجامعات مثل الكثير من المؤسسات الأخرى، سياسة ترامب جعلتها لم تعد تملك الحافز للمنافسة أو التحسن، لكن سعيها لإعادة دولة الحد الأدنى لا يخلو من نبرة قومية، إذ طمأنت جميع المستويات الاجتماعية بتوفير التعليم للكل، سواء من يمتلكون موارد للدفع مقابل التعليم ومن لا يملك، وهو تصور يقرب برنامجها من أطروحات جو بايدن المرشح الأوفر حظًا أمام ترامب في الانتخابات القادمة، الذي يريد إنفاق 532 مليار دولار إضافية على التعليم والمناخ والرعاية الصحية.
من هذه المعطيات، يمكن القول إن أفكار الحزب الليبرالي الأمريكي تركز على التناقضات الراهنة وخلق مضامين تحمل اختلافًا واضحًا عن الديمقراطيين والجمهوريين، فالاقتصاد والسلام هو الأهم، والخيال السياسي السويسري هو البديل الآمن للقطب الأوحد للعالم.