نحن في العام 2020 وما زالت قضايا العنصرية باختلاف الفئة الموجهة لها حديث العصر، فمؤخرًا ورغم الخوف المرتبط باستمرار انتشار فيروس كورونا المستجد، فإن ذلك لم يمنع المتظاهرين في الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول من الخروج إلى الشوارع مطالبين بوقف الممارسات العنصرية من قبل السلطات في أمريكا ومنددين بكل فعل عنصري سواء كان سلوكًا فرديًا يرتكبه أفراد أم جماعات أم حكومات.
للعنصرية تأثيرات سلبية على صحتنا تتعدى الأذى الجسدي المباشر الواضح للجميع، إذ تبدأ الكثير من الأمراض بالظهور على الشخص على المدى الطويل دون معرفته أن السلوكيات العنصرية التي تعرض لها في حياته كان لها صلة مباشرة، ولذلك نجد الباحثين والمختصين يوصون بضرورة أخذ العنصرية بعين الاعتبار كعامل مهم مرتبط بالإصابة بالعديد من الأمراض سواء الجسدية أم النفسية.
العنصرية والصحة النفسية
يتعرض نحو شخص من بين أربعة أشخاص أمريكيين من أصول إفريقية للإصابة باضطرابات القلق المرضية وعلى رأسها اضطراب القلق الاجتماعي، ويرجع السبب وراء ذلك حسب الباحثين إلى إدراك الشخص الذي يتعرض للعنصرية بشكل متكرر افتقاره للتحكم بحياته والبيئة التي حوله إلى جانب خوفه على أمانه الشخصي، حيث تؤدي هذه العوامل مجتمعة للضغوطات النفسية المسببة للقلق المرضي.
إن التعرض المتكرر للعنصرية قد يخلق قبولًا في الوعي أو اللاوعي للمعتقدات السلبية والنقدية بشأن قيمة المرء من قبل المجموعة المهمَشة وهذا يرتبط بشكل مباشر بنظرة الشخص لنفسه وثقته بنفسه، فعلى سبيل المثال وليس الحصر قد يربط الشخص صاحب البشرة السوداء أو الشعر المجعد البشرة الفاتحة أو الشعر الناعم بالجمال، ما يضعف احترامه لذاته وهذا بطبيعة الحال يسبب ضغطًا نفسيًا كبيرًا ينتهي بالإصابة بالقلق والاضطرابات النفسية الأخرى.
علاوة على ذلك، فإن قبول هذه المعتقدات السلبية يمكن أن يخلق شعورًا بالعجز والحزن والخوف والعار، ما يجعل الإصابة بالقلق المرضي أو الاكتئاب أمرًا محتمًا.
من المشاكل النفسية الأخرى المرتبطة بالعنصرية ما يُطلِق عليه علماء النفس اسم الصدمة العِرقية (Racial trauma) التي قد تنتج نتيجة التعرض لسلوك عنصري واحد فقط مثل التفريق في بيئة العمل أو جرائم الكراهية، أو يمكن أن يكون نتيجة تكرار الأحداث.
تتباين أعراض الصدمة العرقية التي تتشابه مع أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (Post-traumatic stress disorder) لتشمل الصداع وآلام المعدة وتسارع ضربات القلب، ومن الممكن أن تتطور لتشمل التسبب بمشاكل سلوكية وارتفاع احتمالية الإصابة بالأمراض النفسية الأخرى، ومن هنا جاءت كلمة رئيس الجمعية الأمريكية لعلم النفس مشبهًا الأحداث التي نعيشها في هذه الأيام بما سببته جائحة كوفيد-19 حيث قال: “نحن نعيش في عصر جائحة العنصرية”!
آثار وخيمة على الجسد أيضًا
خلصت دراسة بحثية تمت على عدد من النساء الحوامل الأمريكيات من أصول إفريقية في مستشفيين داخل ولاية شيكاغو على مدار 4 سنوات بين العامين 2001-2005 إلى وجود رابط بين تعرض النساء للعنصرية في الأماكن العامة ورفع خطر الولادة المبكرة، وقد أشارت الدراسة أيضًا إلى أن محاولة النساء التأقلم بشكل إيجابي مع السلوكيات العنصرية تجاههن عامل مهم لخفض خطر تأثير العنصرية على الحمل.
بذات الصدد أشارت دراسة بحثية أخرى تم نشرها عام 2012 عن الرابط وراء تعرض النساء الحوامل للعنصرية والولادة المبكرة وربطت ذلك بالبيئة التي تعيش فيها الحامل والضغوطات النفسية الناتجة عن التمييز العنصري الذي تتعرض له، لذلك كانت نصيحة دراسة حديثة تم نشرها مطلع هذا العام بضرورة اهتمام مقدم الرعاية الصحية بتقييم بيئة الحامل، والضغوطات النفسية التي تتعرض لها، وإن كانت الحامل معرضة للتفرقة العنصرية أم لا بهدف خفض التأثير السلبي لهذه العوامل على الحمل والولادة.
نشرت مجلة Ethnicity & Health دراسة بحثية تمت على 1106 أشخاص متوزعين بين أصحاب بشرة بيضاء وسوداء وكانت نتيجتها أن التعرض للتفرقة العنصرية في مرحلة الطفولة المبكرة والمراهقة يرتبط برفع خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية خلال الحياة لاحقًا مثل عدم انتظام ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم.
على المستوى البيولوجي يتفاعل الجسم مع الإجهاد النفسي طويل الأمد الناتج عن التفرقة العنصرية بشكل يجعل خلايا الجسم تشيخ قبل أوانها كما تنخفض مناعة الجسم وترتفع فرصة الإصابة بالالتهابات، ويسبب هذا الإجهاد مشاكل في عمليات الأيض وخللًا في عمل تحت المهاد في الدماغ والغدة النخامية ما ينتج عنه زيادة فرصة الإصابة بالأمراض المزمنة مثل السكري والربو وغيرها.
بهذا الصدد في دراسة بدأت عام 1997 واستمرت حتى عام 2011 تم تقييم 38142 امرأةً من أصول إفريقية فيما يتعلق بالتعرض للتفرقة العنصرية على المستوى اليومي مثل سوء الخدمة عند الشراء من المتجر وعلى المدى الطويل مثل ما تتعرض له المرأة في العمل أو من الشرطة وغيرها بهدف معرفة وجود رابط بينها وبين الإصابة بالربو وكانت النتيجة وجود رابط قوي بين التعرض للعنصرية والإصابة بالربو.
بذات الموضوع نشرت مجلة Annals of Allergy, Asthma & Immunology هذا الشهر دراسة أخرى مفادها أن الإجهاد النفسي الحاد أو المزمن يرفع من خطر الإصابة بالربو أو من مضاعفات الربو لدى المراهقين وتم لفت الانتباه إلى الحاجة للمزيد من الدراسات.
رغم الجهود المبذولة في دراسة تأثير العنصرية على الصحة، فإن التحيز في البحث العلمي بهذا الصدد لا يمكن إنكاره، فالدراسات والمعلومات المتوافرة ليست بالقدر الكافي، ما يجعل إثبات الآثار الواقعة على الصحة بسبب العنصرية أكثر صعوبة وهذا بحد ذاته عنصرية من نوع آخر!
ماذا عن الإصابة بفيروس كورونا المستجد؟
عند إلقاء النظر على عدد الإصابات بفيروس كورونا المستجد في الولايات الأمريكية المتحدة نجد دليلًا واضحًا على أن الأمريكيين من أصول إفريقية معرضون للإصابة بالفيروس ومضاعفاته المختلفة بشكل أكبر مقارنةً بالبيض، فـ33% من مجمل المرضى الذين تم إدخالهم للمستشفيات من أصحاب البشرة السوداء وهذا رغم أنهم يشكلون 13% فقط من نسيج المجتمع الكلي!
يُرجع الخبراء السبب وراء ذلك إلى انتشار الأمراض المزمنة المرتبطة بالعنصرية ومناعة الجسم المنخفضة الناتجة عن الضغوطات النفسية طويلة الأمد لدى هذه الفئة، إذ تنتشر أمراض الأوعية الدموية المزمنة لدى الأمريكيين من أصول إفريقية بشكل أكبر مقارنةً بالبيض بنسبة تصل إلى 45%، وكما هو معروف فإن معدل الإصابة بكوفيد-19 ومضاعفاته يرتفع لدى أصحاب المناعة المنخفضة والمصابين بالأمراض المزمنة.
لا يمكن هنا أيضًا عزل ما فعلته عقود متتالية من العنصرية المؤسسية من ناحية رفع مستويات عدم الاستقرار المادي وجعل الأوضاع الاقتصادية أكثر ترديًا إلى جانب عدم الحصول على فرص متساوية في التعليم لدى الأمريكيين من أصول إفريقية، ومما لا شك فيه تأثير هذه العوامل سلبًا على الصحة العامة للفرد والمرتبطة بدورها ارتباطًا وثيقًا برفع احتمالية الإصابة بالفيروس ومضاعفاته، ويجدر بالذكر وجود تأثيرات مشابهة أيضًا على الأمريكيين من أصول لاتينية والهسبان وهم الأمريكيون من أصول إسبانية باعتبارها فئات معرضة للعنصرية.
في ظل جائحة كورونا وجائحة العنصرية أعلنت منظمة الصحة العالمية دعمها الكامل لمطالب المساواة في الحقوق ونددت بالتفرقة بجميع أشكالها ودعت المتظاهرين للانتباه لقواعد السلامة والتباعد الاجتماعي في أثناء التظاهر.