جولة جديدة من الصدام المقنع بين مؤسسة الأزهر وإدارة السيسي، المستمر منذ 2013 وحتى اليوم، مع إعلان دراسة مشروع قانون ينقل تبعية دار الإفتاء من وزارة العدل إلى مجلس الوزراء، ويجعلها كيانًا مستقلًا، الأمر الذي اعتبرته هيئة كبار العلماء بالمشيخة اعتداءً على استقلالية الأزهر وخلق كيان موازٍ له.
محطة الصراع الجديدة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وشيخ الأزهر، أحمد الطيب، يقودها بالوكالة هذه المرة مجلس النواب (البرلمان) الذي تحول إلى سوط في يد النظام للتخلص من خصومه وتقليم أظافر المغردين خارج السرب المحدد اتجاهاته مسبقًا، لتدخل العلاقة بين الرئيس والإمام نفقًا جديدًا من التوتر.
كان النائب أسامة العبد، قد تقدم للبرلمان بمشروع قانون بشأن تعديل بعض البنود الخاصة بقانون تنظيم دار الإفتاء المصرية، حيث ناقش المجلس على مدار الأيام الماضية تقرير اللجنة المشتركة من لجان الشؤون الدينية والأوقاف، والخطة والموازنة والشؤون الدستورية والتشريعية عن المشروع.
وفي 20 من فبراير/شباط الماضي أرسل الأزهر عبر هيئة كبار علمائه خطابًا أعلن فيه رفضه للمشروع، مقترحًا بعض التعديلات التي تتسق مع أحكام الدستور وتحفظ للمشيخة استقلاليتها، إلا أنه من الواضح لم يؤخذ بها، بعدما أقر المجلس بصفة مبدئية نقل تبعية الدار لمجلس الوزراء، ضاربًا بتحفظات الهيئة عرض الحائط.
ويتضمن المشروع المقدم 23 مادة، تتمحور حول تنظيم عمل دار الإفتاء وجعل تبعيتها لمجلس الوزراء بدلًا من وزارة العدل، بجانب آليات تعيين مفتي الجمهورية وتدشين مركز لتدريب وتخريج كوادر الإفتاء في البلاد، وهو ما أثار جدلًا كبيرًا داخل الوسط الديني المصري خلال الآونة الأخيرة.
تجريد الأزهر من صلاحياته
اعتبر الأزهر- بحسب خطابه – هذا المشروع اعتداءً واضحًا على استقلاليته، مطالبًا المجلس بضرورة انضباط التعديلات المقترحة مع القوانين القائمة التي تستند في فحواها إلى المادة السابعة من الدستور التي تنص على أن “الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام بكافة شؤونه، وهو المرجع الأساس في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة، ونشر علوم الدين، واللغة العربية في مصر والعالم”.
هيئة كبار العلماء أوضحت أن الأزهر كان الجهة الوحيدة المسؤولة عن الأمور الدينية برمتها، وفي الصدارة منها الإفتاء، فكان يتولى البت في المسائل الشرعية والرد على الاستفسارات كافة وتقديم الآراء بشأن المعاملات المعاصرة، بجانب التصدي للشبهات والتعامل معها.
غير أن المشروع المقدم سحب كل تلك الاختصاصات ليمنحها إلى هيئة تابعة لوزارة العدل (الإفتاء) التي تحولت عقب موافقة البرلمان إلى مجلس الوزراء، “مما ينطوي على مخالفةٍ دستورية، ومساسٍ باستقلال الأزهر، وجعل رسالته مَشَاعًا لجهات أخرى لا تتبعه، حيث إن دار الإفتاء ستصير عندئذٍ كيانًا عضويًّا مُنْبَتَّ الصلة عن الأزهر الشريف، وتمارس عملها بمعزل عن الأزهر” بحسب نص الخطاب.
المؤسسة الدينية ذات الثقل الشعبي اعتبرت في اعتراضها على المشروع أن هناك نية لإنشاء كيان مواز للأزهر، يجرده من اختصاصاته ويسحب منه صلاحياته، ويلغي دوره المنصوص دستوريًا، وهو ما يعد عدوانًا صريحًا على هيئة كبار العلماء واختصاصها.
في التعديل الجديد يكون تعيين المفتي بقرار من رئيس الجمهورية، مع إمكانية التجديد له بعد بلوغ السن القانونية، دون تحديد مدة، كل هذا دون العرض على الهيئة ولا المشيخة
وقد جاء مشروع القانون المقدم لاغيًا للائحة الهيئة المتعلقة بتعيين مفتي الجمهورية، حيث كانت الهيئة ترشح 3 شخصيات بواسطة كبار أعضائها ويتم الاقتراع وانتخاب أحدهم لشغل المنصب، لكن في التعديل الجديد يكون تعيين المفتي بقرار من رئيس الجمهورية، مع إمكانية التجديد له بعد بلوغ السن القانونية، دون تحديد مدة، كل هذا دون العرض على الهيئة ولا المشيخة.
علاوة على ذلك فإن التعديل الجديد يجعل الفتوى الشرعية تابعة لأحد الوزراء في الحكومة، الذي بدوره قد يُخول غيره بالقيام بمهامه عند خلو المنصب، الأمر الذي يجعل الفتوى بأيدي غير متخصصين، ما يحولها إلى مطية من الممكن توظيفها لأهواء بعيدة تمامًا عن الدين وأحكام الشرع.
واختتم الأزهر خطابه معتبرًا أن “المخالفات الدستوريَّة التي شابت مشروع القانون لا تقتصر أو تقف عند مجرد العدوان على اختصاصات الأزهر الشريف، ومحاولة إنشاء كيان موازٍ للأزهر يقوم في موضوعه وغايته على محاولة الحلول محلَّه في رسالته وأغراضه، فالأمر يتجاوز حدود النزاع على الاختصاصات، أو التشبث بالصلاحيات، أو احتكار جهةٍ لأداء دور معين، ومنع غيرها من مشاركتها فيه، فالخطورة تكمن في تجزئة رسالة الأزهر الشريف وإهدار استقلاله الذي هو عِمادُ وسطيته واعتداله، فالأزهر ليس مجرد هيئة وأشخاص، وإنما هو رسالة علميَّة لا تحتمل إلا أن تكون مستقلة غير تابعة، وهذا المشروع المعروض يخلُّ إخلالًا جسيمًا بالدستور، كما يخلُّ بالاستقلالية والحياد الذي ينبغي أن يتمتع بهما منصب مفتي الجمهورية”.
دار الإفتاء.. البديل الجاهز
لم تتوان دار الإفتاء المصرية وعلى رأسها المفتي شوقي علام عن الدفاع عن نظام السيسي، تجاوز الأمر القضايا الدينية إلى ملفات أخرى سياسية، فالرجل لم يترك مناسبة إلا ويثبت حضوره إما بفتوى أو تصريح يرسخ أركان الحكم ويشوه كل المعارضين له، في الداخل كان أو الخارج.
وبعيدًا عن الشأن الديني الداخلي، كانت الدار على رأس القوى الناعمة التي تدافع عن النظام خارجيًا، أمام خصومه السياسيين، فكانت على رأس من انبروا للهجوم على أنقرة بسبب تحويل أيا صوفيا لمسجد، علاوة على تجريم وتحريم مشاهدة الدراما التركية، بخلاف التدخل على خط الأزمة السورية، محذرة مما أسمته “التصعيد التركي في الأراضي السورية يخدم مصالح الجماعات والتنظيمات الإرهابية”.
الأمر تجاوز المسائل الخلافية التي تتقاطع فيها مصالح الدولة المصرية مع بعض جيرانها إلى قضايا قومية لا خلاف عليها بين حكومات المنطقة، فكان إصدار فتوى بتحريم الهتاف لنصرة الأقصى في الحرم المكي، في 14 من فبراير/شباط الماضي، وذلك تعليقًا على الهتافات التي رددها بعض المعتمرين خلال طوافهم بالبيت الحرام، مرددين هتاف “بالروح بالدم نفديك يا أقصى”، حيث أوضحت الدار أنه “لا يجوز الزج به في العمل السياسي، وينبغي على المسلمين كافة الحفاظ على تلك المقدسات من تدنيسها بالأجندات السياسية المختلفة للدول”.
ويعد علام، مفتي مصر الحاليّ، أحد أبرز المنبطحين للسلطة الحاكمة في تاريخ الدار، فبجانب توقيعه على أحكام الإعدام المثيرة للجدل بحق عشرات المعارضين، سلط الأضواء على نفسه بمواقفه المسيسة التي وظف من خلالها مكانته الدينية لتمرير مواقف تتماشى وأهواء الحاكم، فيما ينظر إليه البعض على أنه البديل الجاهز لشيخ الأزهر مستقبلًا.
معركة السلطة والأزهر
التعديلات التي تضمنها المشروع المقدم الذي نال الموافقة عليه برلمانيًا بصورة مبدأية تهدف في المقام الأول إلى تهميش دور الأزهر لصالح دار الإفتاء التي تحولت خلال الفترة الماضية إلى أداة في خدمة أهواء النظام السياسية، فالمستهدف الرئيسي هنا هو شيخ الأزهر ومؤسسته التي لم يرض أداؤها النظام على مدار السنوات الأخيرة.
النظام بقيادة السيسي حرص منذ ظهوره الأول في 3 يوليو 2013 على مغازلة الشعب المصري بعاطفة الدين، مستحضرًا الرمزية الدينية في مشاركة شيخ الأزهر وبابا الكنيسة في الاجتماع الذي أطاح فيه بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر.
وبينما كان البابا يسير وفق الطريق المرسوم، داعمًا على طول الخط لسياسات السيسي، كان الإمام على النقيض منه تمامًا، ما أوغر صدر السلطات وعلى رأسها الرئيس، ما نتج عنه بعد ذلك معارك جانبية، خاضها شيخ الأزهر بمفرده أمام العديد من الجهات التي كانت تحارب بالوكالة عن النظام، على رأسها وزارة الأوقاف.
إذا باءت محاولات الإطاحة بالطيب بالفشل فإن الحل ربما يكون في تفتيت أواصره وتجريد المؤسسة من صلاحياتها شيئا فشيئًا
كثير من مواقف الطيب كانت صادمة للجنرال المصري حيال العديد من القضايا، حيث لم تكن على القدر المطلوب من الحماسة لدعم النظام الجديد، بل على العكس من ذلك بادله الجفاء مرات والدعم المقنن على استحياء مرات أخرى، فيما ظل العناد السمة الغالبة معظم الوقت.
ففي الـ6 يوليو/تموز، وبعد 3 أيام فقط من مشاركته في بيان العزل، أصدر الطيب بيانًا دعا فيه للإفراج عن جميع معتقلي الرأي والناشطين السياسيين والقيادات الحزبية وتعويض أسر الشهداء ومصالحة وطنية حقيقية بين الأطياف السياسية والفكرية، وهو ما لم يرق للسلطات وقتها التي كانت تشن حملات تنكيل وانتهاكات ضد المعارضين.
ومنذ هذا الوقت شهدت العلاقات بين الطيب والسيسي موجات متلاطمة من المد والجذر، حيث بدا الرئيس في كثير من المواقف متربصًا بالإمام، أبرزها العتاب الواضح والمباشر الذي وجهه له في الاحتفال بعيد الشرطة في 2017 حين خاطبه قائلًا “تعبتني يا فضيلة الإمام”، وذلك في أثناء حديثه عن ضرورة تغيير الموقف الشرعي من قضية “الطلاق الشفهي”، واعتباره كأن لم يقع إذا لم يتم توثيقه.
لم يترك الطيب هجوم السيسي يمر مرور الكرام، فبعد عام واحد فقط، وفي ذكرى الاحتفال بالمولد النبي الشريف، في نوفمبر/تشرين 2018، شن شيخ الأزهر هجومًا حادًا على التيار الداعي لإبعاد السنة النبوية والاكتفاء بالقرآن، وهو الهجوم الذي فُسر وقتها بأنه كان موجهًا لرئيس الدولة الذي دأب على انتقاد الخطاب الديني وضرورة تجديده وتنقيته من العديد من الأحكام التي يراها غير مناسبة لهذا العصر.
لا يخفى على أحد مساعي النظام في الإطاحة بشيخ الأزهر وتعديل لائحة اختياره بحيث يكون عزله بقرار من رئيس الدولة كما تعيينه، وهي المعركة التي خاضها النظام إبان التعديلات الدستورية التي جرت في 2019، غير أن الرفض الشعبي والضغوط الخارجية كان لها دورًا كبيرًا في الحيلولة دون حدوث ذلك.
ورغم سياسته الصفرية التي يتنباها السيسي في معاركه التقليدية، فإنه مع الأزهر ارتأى ألا يدخل في صراع مباشر، وإذا باءت محاولات الإطاحة بالطيب بالفشل فإن الحل ربما يكون في تفتيت أواصره وتجريد المؤسسة من صلاحياتها شيئا فشيئًا.
وعليه اتخذ من وزارة الأوقاف ذراعًا له في معارك عدة، أبرزها الطلاق الشفهي وتجديد الخطاب وخلافه، هذا بجانب ابتزاز المشيخة من خلال الإطاحة برجال الإمام المقربين وعلى رأسهم وكيل الأزهر السابق، عباس شومان، الذي رفض السيسي التجديد له في سبتمبر 2018، كذلك المستشار القانوني لشيخ الأزهر محمد عبد السلام الذي يمسك بأهم الملفات داخل المؤسسة.
وهكذا تتواصل معارك تكسير العظام بين مؤسسة الأزهر والدولة، متمثلة في شخص الإمام والرئيس، في ظل مساعي الأخير الانفراد الكامل بالحكم (إثر خضوع معظم مؤسسات الدولة) دون أدنى معارضة ولو شكلية، ورغم المقاومة الشرسة التي يبديها الطيب في التصدي للضغوط السلطوية الممارسة ضده، فإن قدرته على الاستمرار في التحمل والتزامه سياسة النفس الطويل مسألة مشكوك فيها.