مع الإعلان الإثيوبي عن بدء تعبئة سد النهضة المثير للجدل، يكون الصراع حول مياه النيل بين إثيوبيا ومصر قد دخل منعطفا جديدا وخطيرا، حيث إن تعبئة السد دون اتفاق بحسب وجهة النظر المصرية سيؤدي إلى مخاطر كبيرة على “الأمن القومي والغذائي المصري”.
وتتمثل هذه المخاطر بحسب الهيئة العامة للاستعلام في مصر باتجاهين:
أولا: تخفيض المخزون المائي المصري بواقع 20 مليار متر مكعب، وهي قيمة هائلة تساوي حوالي 28% من موارد المياه المصرية التي تصل قيمتها إلى حوالي 72 مليار متر مكعب سنويا. كما أنها تساوي حوالي 36% من حصة مصر من مياه النيل والتي تبلغ 55 مليار متر مكعب سنويا.
ثانيا: الخوف من انهيار السد إذا تمت تعبئته بطاقة استيعابية كبيرة، ما سيؤدي إلى فيضانات كفيلة بإغراق مدن بأكملها في السودان ومصر، فيما تقول إثيوبيا أنها أجرت دراسات هندسية اطلع عليها خبراء مصريون ودوليون تؤكد عدم وجود مخاوف حقيقية من انهيار السد.
ولتوضيح هذه المخاطر أكثر لا بد أن نتذكر أن 96 مليون من سكان مصر يعيشون على طول الوادي الضيق حول النيل والمعروف بالدلتا، وبحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، فإن 96% من السكان يقيمون على 30% من الأراضي في مصر.
وتعتمد هذه النسبة العالية من السكان في حياتها على مياه النيل، ولذلك كانت المقولة التاريخية العابرة للقرون “مصر هبة النيل”، وهو ما يعني أن هذه البلاد وسكانها يدينون باستمرار حياتهم لمياه النيل التي تؤمن لهم حاجتهم للشرب والزراعة وكافة مناحي الحياة الأخرى.
وبحسب الدراسات فإن نسبة مياه النيل من الموارد المائية المصرية بشكل عام تصل إلى حوالي 79%، وهو ما يعني أن تراجع حصتها من النيل يمثل نكبة حقيقية.
وتعتمد مصر في جزء مهم من صادراتها على الزراعة والإنتاج الحيواني، وهما مصدران يعتمدان كليا على المياه. وبلغت قيمة الصادرات الزراعية والحيوانية في العام الماضي حوالي 5.7 مليار دولار، بنسبة تصل إلى 22% من الصادرات بكافة أنواعها.
إن هذه الأرقام تعني أن 22% من النقد الأجنبي الذي يدخل إلى مصر سنويا ستتأثر إذا تراجعت حصة مصر من النيل، وهو تراجع يؤثر على حياة الناس بشكل مباشر من جميع المجالات، وأهمها تراجع قيمة الجنيه المصري، وتراجع القدرة على استيراد المواد التي يحتاجها المصريون من الخارج بسبب تراجع النقد الأجنبي.
لا يمكن وضع اللوم على إثيوبيا فقط في أزمة مياه النيل الناتجة عن تداعيات بناء سد النهضة، فهذا البلد يبحث عن مصلحته القومية
وإذا تجاوزنا الصادرات والواردات فإن الإنتاج الزراعي في مصر يمثل عاملا مهما لاستمرار حياة قطاع كبير من السكان، حيث كان الإنتاج الزراعي يمثل 29% من مجمل الإنتاج في العام 1970، ولكنه تراجع لأسباب كثيرة إلى ما نسبته 16.6% في العام 2000، وهو ما يمثل مصدر رزق لحوالي 28.1% من القوى العاملة، بحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو).
إن الإنتاج الزراعي لا يقاس فقط بالأرقام، ولكنه يمثل عصب استقلال الدول، ولا يمكن لدولة لا تنتج كل ما تحتاجه من قمح وخضار وفواكه ولحوم أن تكون مستقلة في قراراها، ومن هنا يظهر وجه آخر “للنكبة المصرية” في مياه النيل، لأنها ستضرب الزراعة والإنتاج الحيواني بشكل كبير، فهذا القطاع الذي تراجعت نسبته كما أوضحنا في الفقرة السابقة خلال ثلاثين عاما بأكثر من 13%، سيتراجع أكثر مع المخاوف على حصة مصر من النيل، وهو ما سيضرب ليس فقط الاقتصاد، بل الاستقلال والأمن القومي برمته!
كيف صنع نظاما مبارك والسيسي “النكبة المصرية”؟
لا يمكن وضع اللوم على إثيوبيا فقط في أزمة مياه النيل الناتجة عن تداعيات بناء سد النهضة، فهذا البلد يبحث عن مصلحته القومية، واحتياجات مواطنيه من المياه والكهرباء.
إن اللوم الأساسي يقع على عاتق الأنظمة المتعاقبة في مصر، وخصوصا في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، ورئيس الانقلاب الحالي عبد الفتاح السيسي.
لقد قامت سياسة مصر تاريخيا على دورها في أفريقيا، واستمر هذا الدور وتعاظم أكثر في عصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
بنى عبد الناصر سياساته الخارجية على الاهتمام بالقضايا العربية والإسلامية والأفريقية ثم أضاف دائرة أخرى عبر المساهمة في تأسيس ما عرف بـ”دول عدم الانحياز”. هذا الاهتمام جعل لمصر دورا كبيرا في السياسة الدولية، وخصوصا في أفريقيا.
ولعبت مصر في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي دورا كبيرا في دعم حركات التحرر في أفريقيا، وأدى هذا الدعم لمنح القاهرة نفوذا في القارة.
وتراجع الاهتمام المصري الرسمي بالقارة الأفريقية والعالم العربي والإسلامي في نهاية عهد السادات، ولكن الضربة الكبيرة لدور مصر الأفريقي كانت في منتصف التسعينيات عندما أدار نظام مبارك ظهره تماما لأفريقيا في أعقاب محاولة اغتياله في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
تقول مصر أنها تحركت دبلوماسيا في العالم لكسب الدعم في أزمة سد النهضة، وأنها استطاعت إقناع الدول الكبرى لعقد جلسة لمجلس الأمن لمناقشتها
لقد أفقد تراجع الاهتمام المصري بأفريقيا القاهرة أي نفوذ في القارة خلال النصف الثاني من حكم مبارك الطويل، واستمر هذا التدهور مع الانقلاب العسكري في يوليو عام 2013، حيث عاقب الاتحاد الأفريقي النظام الذي أفرزه الانقلاب، وهدده بعقوبات إذا لم يعمل على استعادة المسار الديمقراطي.
وعلى الرغم من استعادة مصر وضعها الطبيعي في الاتحاد الأفريقي بعد سنوات من الانقلاب، إلا أن العلاقة مع القارة لا تعتبر جيدة. ونذكر هنا أن مؤسسات تابعة للاتحاد الأفريقي وخصوصا “المنظمة الأفريقية لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب” قد أجرت جلسات استماع لبحث قضية الإعدامات في مصر، كما أنها أصدرت قرارا يلزم القاهرة بالوقف الفوري لإعدام المعتقلين السياسيين.
صحيح أن مصر لم تلتزم بهذه القرارات، ولكنها تخسر بسببها نفوذها بالقارة الأفريقية ودورها بالاتحاد الأفريقي، لدرجة أن الإعلام المرتبط بالنظام لم يعد يجد أي ملمح لدور مصري في القارة، ما اضطره للتغني برئاسة القاهرة للاتحاد لمدة سنة في العام 2019، مع أنها “رئاسة دورية”، ولا تمثل مظهرا على نفوذ البلد الذي يحصل على الرئاسة.
ويبدو من تصريحات الاتحاد الأفريقي حول الأزمة، أنه أقرب للموقف الإثيوبي، ولعل آخر هذه التصريحات ما قاله المدير التنفيذي لمفوضية الطاقة في الاتحاد الأفريقي، راشد عبد الله علي الذي دعا للاستعداد للتغيير في الوضع القائم حول النيل. ولكن الأخطر في تصريحاته أنه اعتبر أن معظم جوانب التغيير الذي سينتج عن بناء وتشغيل السد سيكون إيجابيا، ما يعني أن الاتحاد الأفريقي أقرب للرؤية الإثيوبية منها للرؤية المصرية.
لم يكن لإثيوبيا أن تحقق قبولا أفريقيا لرؤيتها لولا الفشل الدبلوماسي المصري، وهو ما يؤكد أن مسؤولية “النكبة المصرية” المتعلقة بخسارة مياه النيل تقع أساسا على عاتق النظام.
وتقول مصر أنها تحركت دبلوماسيا في العالم لكسب الدعم في أزمة سد النهضة، وأنها استطاعت إقناع الدول الكبرى لعقد جلسة لمجلس الأمن لمناقشتها، ولكن هذا التحرك جاء متأخرا، إذ أن أزمة السد تعود لسنوات طويلة، وهو ما جعلها في فترة الرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي نقطة أساسية في أجندته السياسية خارجيا وداخليا.
ولا يمكن أن يعبر عن فشل الدبلوماسية المصرية في أفريقيا وفي أزمة سد النهضة خصوصا أكثر من تصريحات نقلتها مجلة بلومبيرغ الأمريكية عن رئيس جنوب أفريقيا كيريل رامافوسا على هامش أحد المؤتمرات، انتقد فيها تدخل ترامب في أزمة السد، وقال “بدلا من اللجوء للاتحاد الأفريقي لحل الأزمة، فقد ركض السيسي لسيده (ترامب) للبحث عن حل”.
ولا تعبر هذه التصريحات فقط عن الفشل الدبلوماسي، ولكنها توضح أيضا صورة مصر تحت النظام الحالي في أفريقيا، دولة يقودها رئيس يعتبر ترامب سيده، ويبحث عن حلول عبر هذا السيد، بدلا من بناء نفوذ في القارة الأفريقية يساعد في حل أزمات مصر وتحديدا “نكبة” سد النهضة.
المصدر: عربي21