في قلب القاهرة، ووسط منازل تعزف أشجان بؤس ساكنيها وتردد ترانيم معاناتهم اليومية بحثًا عن الرزق الحلال، تشق مجموعة من البنايات القديمة أوردة العاصمة المصرية، مقاومة هزيمة القرون وغبار الزمن لزخارفها الرائعة وتصميمها المعماري الفريد، في مشهد يفيض جمالًا وهيبةً ويعيد النفس إلى عبق التاريخ المعطر بعبير الحضارة والكبرياء.
جبانة المماليك.. صحراء المماليك.. مقابر الخلفاء.. صحراء قايتباي.. القرافة الشرقية.. ميدان القبق.. ميدان العيد… مسميات وألقاب أطلقت على تلك المنطقة الممتدة من قلعة الجبل إلى العباسية بوسط القاهرة، التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر الميلادي/الثامن الهجري، حيث ألحق بها ملوك مصر وأمراؤها المساجد والخوانق بجانب مدافن لهم.
هذا المتحف الفني الرائع الذي يأخذك على جناح السرعة من خلال جولة بداخله إلى اكتشاف العديد من المحطات الخالدة في تاريخ الحضارة الإسلامية، حين كانت في أوج مجدها وعزها، ففيه العديد من الكنوز الأثرية النادرة التي تعود إلى مئات السنين، وتشكل فيما بينها لوحة تجسد الطراز المعماري الذي كان عليه المسلمون قديمًا.
وبينما تكرس الأمم والشعوب جهودها للزود عن تاريخها وتجميل ما تشوه منه والدفاع عما تبقى من أجل الأجيال القادمة، فإن الوضع في مصر يختلف شكلًا ومضمونًا، فالتاريخ يُمحى تحت عجلات الجرافات وأقدام العابثين المتوهمين أن عصرنة البنايات تعوض سقوط مئات القرون على الأرض.
استيقظ المصريون الساعات القليلة الماضية على صور متداولة لإزالة عشرات المقابر من صحراء المماليك، بدعوى التوسعة لإقامة محور الفردوس، في إطار توسعة شبكات الطرق والجسور في مصر، التي تحظى بالنصيب الأبرز من اهتمام القيادة السياسية.
الجدران المهدمة التي يعود تاريخها لقرون مضت جاءت بمثابة الصدمة للشارع المصري، لا سيما المهتمين بالآثار وتاريخ بلادهم وحضارتهم العريقة، فمثل تلك الأعمال التي تمحي الأثر والحجر معًا لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تبني دولة على طراز عصري، على حد تعبيرهم.
تعد جبانات المماليك أحد أبرز المعالم الأثرية الإسلامية في تاريخ مصر والعالم، إذ ظلت المقابر الرئيسية لمدينة القاهرة لما يزيد على 1400 عام
وفي الوقت الذي تبذل فيه الدولة جهودًا مضنية لتطوير التراث اليهودي والمسيحي، عبر ميزانيات مفتوحة، إذ بها تنتهج سياسة أخرى مع الآثار الإسلامية، فتلك ليست المرة الأولى التي تزيل فيها الحكومة المصرية أثرًا إسلاميًا، وهو ما يثير التساؤلات عن دوافع هذه الإستراتيجية المثيرة للشكوك.
تاريخ الألف عام
تعد جبانات المماليك أحد أبرز المعالم الأثرية الإسلامية في تاريخ مصر والعالم، إذ ظلت المقابر الرئيسية لمدينة القاهرة لما يزيد على 1400 عام، وكانت حينها تسمى “صحراء العباسية” حيث اختارها المماليك في هذه البقعة الحيوية لتكون مضمارًا لسباقات الخيل وبنوا عدة مجموعات معمارية تضم مدارس وأسبلة وخانقاوات ومساجد.
ينتشر فوق تلك الجبانات أكثر من عشرين قبة دفن، منها تسعة قباب ملحقة بالمساجد، من بينها خمسة لدفن السلاطين، أبرزها مسجد وخانقاه “فرج بن برقوق” (1389-1411م) الذي أنشأه الملك الناصر أبو السعادات، الذي يعتبر من أكبر المجموعات التي أقيمت في تلك المقابر، فهي تجمع بين مسجد لإقامة الشعائر وخانقاه لإقامة الصوفية ومدرسة لتلقي علوم الدين وحفظ القرآن، بجانب مدافن للسلطان الظاهر برقوق وأفراد أسرته وسبيلين للشرب.
تمييز تلك التحفة الفنية بطابع معماري فريد، حيث تتكون من صحن كبير مكشوف، يحيطه أربعة إيوانات، أكبرها وأعمقها إيوان القبلة الذي يتكون من ثلاثة أروقة يفصل بينهما ثلاثة بائكات موازية لجدار القبلة، فيما يغطي تلك الإيوانات 21 قبة أخرى محمولة على مثلثات كروية.
ثم تأتي “قبة جاني بك الأشرفي” التي أنشأها الأمير قرقماش أحد مماليك الأشرف قايتباي عام 1511م، وهي ذات مسقط مربع، مبني من الحجر المنحوت، يعلوها قبة مرتفعة، ملساء خالية من الزخارف، وفي الأركان صفوف المقرنصات ذات الطراز البديع.
وثالث تلك التحف المعمارية التي تتضمنها الجبانات “خانقاه الأشرف بارسباي” التي بناها السلطان الأشرف عام 1432م، وهي عبارة عن مجموعة مكونة من خانقاه لإقامة الصوفية وفناء كبير به قبور وبقايا قبة، بجانب قبة كاملة لشقيق السلطان، الأمير يشبك وبعض العلماء، إضافة إلى مصلى لإقامة الشعائر.
كذلك “تكية أحمد أبو يوسف” التي ترجع إلى القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، ولم يتبق منها سوى الباب الرئيسي وجزء من الواجهة الرئيسية بالجهة الشمالية الغربية، ويعود طراز البناء المعمار الخاص بها إلى عصر المماليك الجراكسة.
ومن النوادر التراثية الخالدة “ربع قايتباي” الذي أسسه السلطان قايتباي عام 1472م، وكان مخصصًا للسكن من أجل إنفاق ريعه على المنشآت الدينية، ومع مرور الوقت تعرض الربع للانهيار التدريجي ولم يتبق منه إلا الواجهة الكبيرة المنحوتة من الحجر في الجهة الجنوبية الشرقية، يتخللها شبابيك عليها أعتاب مزررة، ويتكون من ثلاث طبقات ويشتمل على عدد كبير من الحجرات ما زال بعضها موجودًا لا سيما المطلة على الواجهة الرئيسية.
وأخيرًا “مدرسة السلطان الأشرف قايتباي” أنشأها السلطان أشرف قايتباي عام 1472- 1474م، وتعتبر من أجمل وأبدع المجموعات المعمارية في مصر الإسلامية، ويرجع ذلك إلى جمال وتنسيق المجموعة مع بعضها، وتتكون من مدرسة ومسجد وسبيل وكتاب وضريح ومئذنة.
أما عن تخطيط المدرسة فهي عبارة عن صحن مربع يعلوه شخشيخة تحيطه أربعة إيوانات أكبرها إيوان القبلة الذي يطل على الصحن بواسطة عقد مدبب على هيئة حدوة حصان وإلى جانبي الصحن إيوانان صغيران، فيما يقع المدخل الرئيسي للمدرسة بالجانب الشمالي الشرقي، وتقع المئذنة على يمينه والسبيل على يساره، وقد ألحق السلطان قبلة لدفنه في الجهة الجنوبية من المدرسة.
مزار سياحي
أولت الدولة المصرية قديمًا أهمية كبرى لهذه الآثار الإسلامية بصورة تجسدت في العديد من المؤشرات منها على سبيل المثال تصدر مسجد السلطان الأشرف قايتباي العملات الورقية المصرية، فهو أول مسجد يوضع على فئة العشرة جنيهات عام 1913.
حيث ظهر المسجد على العملة في تصميم كلاسيكي رائع، بمئذنته التي تعد من أجمل مآذن القاهرة بعمارتها وزخارفها ورشاقتها، وقبته المزخرفة بزخارف نباتية وهندسية دقيقة، ثم ظهر على فئة المئة جنيه في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي في عهد الملك فاروق، وصولًا إلى الجنيه المصري، وهي العملة الأكثر انتشارًا بين المصريين حتى اليوم.
وتقديرًا لمكانة آثار القاهرة الإسلامية فقد سُجلت مناطق الفسطاط ومقابر المماليك ومقامات الأولياء ومقابر المؤرخين أمثال الجبرتي والمقريزي ومساجد المقدسي وفخر الدين الزيلعي وابن الحاج الفاسي والمشايخ الصوفية ممن دفنوا في تلك المقابر انتهاءً بملك حفني ناصف، في منظمة اليونسكو كآثار إسلامية عالمية منذ العام 1979م.
الغريب أنه في مارس 2020 كشفت الدولة المصرية نيتها في تطوير مقابر المماليك وتحويلها إلى مزار سياحي، وهو ما أشار إليه أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس حسام الدين إسماعيل، الذي أكد أن الواجب الوطني الآن يستدعي إعادة صحراء المماليك إلى بؤرة السياحة العالمية عبر نقطتين هما “التسويق والتدريس”.
وأوضح أستاذ الآثار الإسلامية أن القيمة الأثرية التي تتمتع بها صحراء المماليك التي تحتوى على طراز عصر المماليك والعثماني وأسرة محمد علي وطراز معماري البحر المتوسط وأحواش البهوات والبشوات بالإضافة إلى مقابر فنانين وخلافه من المشاهير، تتطلب مزيدًا من الاهتمام والتسويق لوضعها على خريطة السياحة العالمية.
إستراتيجية الهدم.. ليست المرة الأولى
رغم نفي الحكومة المصرية على لسان رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، أسامة طلعت، لأي أعمال هدم لبنايات أثرية إسلامية مسجلة في مقابر المماليك، وأن محور الفردوس بعيد عن تلك المنطقة، موضحًا أن ما تم هدمه بنايات غير مسجلة، فإن الشواهد السابقة تؤكد أن ما حدث ليس المرة الأولى ولن يكون الأخيرة.
هدم الآثار الإسلامية أيًا كانت الدوافع، التي يأتي بعضها من باب المكايدة السياسية أو التاريخية، فضلًا عن البحث عن المجد الشخصي عبر تنمية عمرانية عصرية، يبدو أنه بات إستراتيجية ومنهجًا للأنظمة المصرية الحاكمة خلال السنوات الماضية، وهو ما كان له أسوأ الأثر على مكانة الدولة الأثرية ومن ثم السياحية.
تشير الإحصاءات إلى أن عدد المباني التراثية في مصر نهاية عام 2018 بلغ نحو 6700 مبنى، وفقًا لرئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري محمد أبو سعدة، فقدت البلاد منها قرابة 75% بحسب تصريحات رئيس الجهاز الأسبق سمير غريب.
العديد من التجارب المأساوية شوهت بها الحكومة صفحات تاريخ البلاد الزاخر، أبرزها في السنوات الأخيرة ما حدث في فبراير 2019 حين أقدمت سلطات الدولة على هدم المبنى التاريخي “وكالة العنبريين” الذي يقع داخل شارع المعز في قلب القاهرة، وهو أحد أبرز الشوارع التي تحتوي على آثار إسلامية بمصر والعالم العربي.
ويعود هذا المبنى لما قبل 900 عام تقريبًا، حيث بناه الفاطميون ليكون سجنًا تحت اسم “حبس المعونة”، وفي عهد المماليك تحول السجن إلى وكالة لتجارة العنبر على يد السلطان قلاوون عام 1281، وظل حتى يومنا هذا أحد أبرز أماكن بيع العطور في قلب المحروسة، يقصده القاصي والداني، قبل أن تزيله جرافات البيروقراطية بدعوى عدم تسجيله كأثر لدى وزارة الآثار المصرية.
العديد من المباني التاريخية في القاهرة التي تعود لعشرات القرون سقطت ضحية الفساد والإهمال والهدم، أبرزها “بيت المهندس” التاريخي (وسط القاهرة)، الذي شُيد قبل مئتي عام في عهد محمد علي، وكان يعد الملتقى التاريخي للملوك ورجال الأحزاب في العهد الملكي، كما شهد حضور ملوك وملكات أوروبا خلال افتتاح قناة السويس عام 1869، وقد تم هدمه عام 2014.
الوضع في الإسكندرية لا يختلف كثيرًا عن القاهرة، ففي الوقت الذي ينادي فيه أساتذة الآثار والتاريخ بجامعة الإسكندرية للحفاظ على المباني التاريخية وتطويرها بما يتماشى مع مكانتها الحضارية، إذ بمعاول الهدم تطيح بعشرات المباني منها فيلا عبود باشا، وهو أحد كبار رجال الدولة بالحقبة الملكية، التي تعود لعام 1912، كذلك فيلا شيكوريل الثري اليهودي التي بنيت عام 1930، وتم هدمها عام 2015.
العديد من المصادر تذهب إلى أن آلة الهدم لن تقف عند حاجز مقابر المماليك فقط، فالخطة التي تستهدف تطوير العاصمة ربما تطيح بعشرات المباني الأثرية والمناطق التاريخية كمقابر الإمام الشافعي والإمام الليث والسيدة عائشة وغيرها من البنايات التي تعود إلى مئات السنين.
حالة من الغضب خيمت على أرجاء الشارع المصري بعد تداول صور هدم المقابر، حيث عبر عشرات المصريين وأساتذة الآثار عن كامل استنكارهم لهذا التوجه الذي ينذر بالخطر بشأن مكانة القاهرة التاريخية، فمن “يزيل مقابر المماليك ليشق طريقًا؛ يريد إزالة جزء من تاريخ مصر وطمس هويتها لتسهل السيطرة على شعب بلا هوية وبلا تاريخ. خائن كل من يدمر معالم تاريخ مصر وكفاحها”، بحسب الكاتب الصحافي إلهامي الميرغني تعليقًا على إستراتيجية الهدم التي تتبعها الحكومة المصرية.