في عام 2018، ووسط عاصفة فضح الاعتداءات والإساءات الجنسية تحت شعار #أنا_أيضًا #MeToo قدم وكيل كيت إليزابيث راسل Kate Elizabeth Russell روايتها الأولى My Dark Vanessa إلى الناشرين، التي تتحدث عن علاقة تحدث بين فتاة تبلغ من العمر 15 عامًا ومدرس لغة إنجليزية، في الوقت الذي كانت نساء العالم تشاركن قصصهن وتكشفن الطرق التي استخدم بها الرجال السلطة للإساءة إليهن وإسكاتهن.
وجه لا نعرفه للإساءة
قدم الكتاب وجهًا جديدًا للإساءة، ففي تلك الرواية “فانيسا” البطلة تشعر بالغربة، فقد فقدت صديقتها المقربة بسبب ارتباطها بأحد الشباب، وباتت وحدها تمامًا في مدرستها الداخلية الجديدة.
لم تكن شخصية محبوبة، لم تحب ما تفعله الفتيات حولها، تشعر بسخافتهن وسخافة أحاديثهن، هي رقيقة، تحب كتابة الشعر، لكنها غير واثقة من أي شيء في حياتها.
تشعر الطفلة بالإطراء عندما يهتم بها معلم اللغة الإنجليزية جايكوب ستراين البالغ من العمر 42 عامًا، يقرضها كتبًا ويمدح محاولتها للكتابة، يلقي بعض الكلمات هنا وهناك بحيث لا تعرف الطفلة ما الذي يقصده بها، كأن يلمس ركبتها لمسة خفيفة أو يخبرها “هل قصدت أن تكون كتاباتها مثيرة” أو أنه “يرغب في تقبيلها قبلة المساء وأن يضعها في الفراش كطفلة”.
إن المعلم هنا تلاعب على كون الطفلة وحدها، بعيدة عن أهلها تمامًا، لا أصدقاء لها، واستغل هذا ليشعرها بكونها مميزةً، مختلفة عن الآخرين، وذات مكانة كبيرة له، وقد التصقت به الطفلة لهذا.
ضحية لا تعترف بكونها ضحية
تتحرك الرواية للأمام والخلف، يسير الخط السردي في خطين زمنيين، هدفهما تحليل ذكريات البطلة واستكشاف صدماتها النفسية التي مرت بها خلال علاقتها هي ومعلمها.
تبدأ الرواية والبطلة تبلغ من العمر 32 عامًا، في وقت انتشار حركة #أنا_أيضًا، وقد تحدثت إحدى الفتيات من مدرستها القديمة عن تحرش تعرضت له من ذلك المعلم أيضًا، ثم انضم لها بعد ذلك ثماني فتيات يقلن إنهن تعرضن لمضايقات بسببه.
يبدأ العالم المثالي لـ”فانيسا” في الانهيار، ففي ذكرياتها التي تسترجعها عنه كانت تشعر بتميزها، بكونها توأم روحه، رغم كونها طفلة لكنها لم تقتنع بذلك، فهي تظن أنها كانت أنضج قليلًا من الأطفال جسديًّا وأنضج منهن كثيرًا عقليًّا.
عندما تواصلت معها إحدى الفتيات كي تساندها في كشف ذلك المعلم لم تتفهم ما الذي فعله لها
كانت ترى نفسها حبيبته، تلتمس له كل الأعذار، وعندما حاولت صديقتها السابقة كشف العلاقة التي تدور بينها وبين معلمها تحملت اللوم كله، قالت إنها كذبت وادعت كونهما على علاقة وتحملت اللوم كله، بل وطُردت من المدرسة.
لكن الأمر لم يتوقف على ذلك، فقد حملت “فانيسا” مشاعرها معها حتى أنهت المدرسة الثانوية وأصبحت في الثامنة عشر، ثم عادت إليه راكضة، لتلك العلاقة السامة من جديد، التي انتهت عندما وصلت إلى الثانية والعشرين، فقد أصبحت امرأة ناضجة الآن، وأصبح لديه ضحايا أخريات.
عندما تواصلت معها إحدى الفتيات كي تساندها في كشف ذلك المعلم لم تتفهم ما الذي فعله لها، فبالنسبة إليها التلاعب بالطفلة أو مجرد لمس ركبتها لا شيء مقارنة بما حدث معها، وأن ما حدث معها لم يكن اغتصابًا أو تحرشًا بل علاقة حب رومانسية.
طوال الرواية تلتمس “فانيسا” لجايكوب الأعذار، تدعي أن ما بينهما مختلفًا، أنه أحبها طوال الوقت، وأنه ليس مريضًا أو مشتهيًا للأطفال، تلك هي الأفكار التي تتشبث بها طوال الوقت، رغم لمحات الكراهية التي تطلقها من وقت لآخر، لكنها حاولت إقناع نفسها طوال الوقت أنها تحبه.
لقد استخدمت كيت إليزابيث راسل أسلوب الراوي الكاذب، ذلك الراوي الذي يرفض الاعتراف بصدمات الطفولة حتى في أثناء سردها لنفسه.
ففي أحد المقاطع في الرواية تأخذ فانيسا قميصًا حريريًّا أسود من درج أمها كي ترتديه عندما تكون مع ذلك المعلم، لكنها تفاجأ بكونه يخرج لها بيجاما أطفال قصيرة طبع فوقها “فراولة”! وعندما تحاول أن تعيد تلك التجربة من جديد معه في سن الثانية والعشرين يفشل الأمر.
تُرجع فانيسا السبب لكونه عجوزًا، لقد كبر في السن، لذلك لم يعد يستطيع أن يكون معها، لا إنه ببساطة يحب الأطفال، فهي تظل في دائرة الإنكار لأنها لو لم تنكر ذلك، فكيف ستواجه نفسها بما حدث لها!
إنها أكثر هشاشة من المواجهة، ما زالت الطفلة القديمة ذاتها التي هالها ما حدث لها، لكنها لا ترغب بالاعتراف بكونها ضحية، وتهاجم أي شخص يحاول الإشارة إلى كون ما تعرضت إليه “إساءة”، فما حدث كان بإرادتها وبرغبتها وتجربتها مختلفة عن تجارب الجميع لأنها قصة حب، فذلك الرجل لم يحطمها كما يدعون.
“فانيسا” و”لوليتا”
منذ بداية الرواية ستجد هناك العديد من الروابط بين رواية “لوليتا” الكلاسيكية للكاتب الروسي فلاديمير نابكوف، ورواية “فانيستي المظلمة”.
كان معلم فانيسا يهديها كتبًا كي تقرأها، يتحدث معها ويناقشها بها، حتى أعطاها في أحد الأيام رواية “لوليتا”، التي تتحدث عن الفتى اليافع الذي أحب صديقته، لكنها ماتت صغيرة فظل عالقًا في تلك الفترة من الطفولة، لتستمر به الحياة حتى يقابل أرملة ما ويتعلق بطفلتها “دولوريس” أو “لوليتا” كما يسميها.
يتزوج من الأرملة وتظل أفكاره المريضة تدور حول ابنتها، وفي يوم ما تقرأ الأرملة مذكراته وتعرف ما يفكر به، لكن الحظ يكون في صفه وتموت الزوجة في اليوم ذاته وتنتقل وصاية “لوليتا” إليه، ويبدأ في إغوائها مستميلًا إياها بالهدايا والأطعمة والأموال محاولًا السيطرة عليها، مستغلًا إياها جنسيًّا بقناع الحب.
عندما تقرأ “فانيسا” الرواية تظن أن “لوليتا” و”همبرت همبرت” مثلها هي ومعلمها، لكن معلمها يثور في وجهها، ويقول لها إنه لا يشتهي الأطفال، وإنها ليست طفلة.
لتبدأ فانيسا في الاقتناع بأنها ليست طفلة، إنها ناضجة بالفعل، وأنه ليس مريضًا أو متحرشًا بل يحبها، بل تقتنع أن ما حدث بين لوليتا وهمبرت ما هو إلا نوع من أنواع الحب أيضًا.
وبدأت تبحث عن قصص مثل “لوليتا” تركز على جانب الحب أكثر من أي شيء آخر، لكن يخيب أملها عندما يعطيها معلمها كتابًا آخر للكاتب ذاته وهو “نار شاحبة”، وهو قصيدة عمودية تتكون من تسعمئة وتسعة وتسعين سطرًا، مقسمة إلى أربعة أناشيد، لم تبد “فانيسا” اهتمامًا بالكتاب، إلا عندما أشار لها معلمها لكون اسمها موجودًا به، إنه كتاب “لها” هي وحدها. وتلك الجملة هي: “a dark vanessa”.
غلاف رواية لوليتا
كان جايكوب ستراين يدعوها بـ”فانيسا المظلمة” لأنها مثله، فهو يراها انعكاسًا له، هناك جانب معتم بداخله مثلها، جانب سيئ وخبيث.
على طول الرواية يحاول ستراين إقناع فانيسا أنها أنانية، وأن كل شيء لا يتمحور حولها، يستغلها ويظل على علاقة بها حتى تصل للثانية والثلاثين، ثم يقرر الانتحار بعد مهاجمته من الشابات حتى لا يخسر سمعته، رغم أن بعد وفاته يُبرئ اسمه، ويرون أن ما قُدم ضده ليس كافيًا لإدانته.
وحدها فانيسا تملك دلائل إدانته، لكنها لا تستطيع إدانته، لا تستطيع التبليغ عنه، فهي تعيش قصة حبها، قصة الحب التي تراها من وجهة نظرها هي كـ”لوليتا”.
لكن رغم الضرر الذي حدث لـ”لوليتا” بسبب همبرت، فإنها تهرب منه في أول فرصة تستطيعها، لكن فانيسا تواصل عودتها إلى ستراين حتى بعد طردها من المدرسة، وبعد معرفتها بتحرشه بالفتيات الأخريات، بل هي لامتهن واتهمتهن بالكذب!
ما زالت الرواية رغم كل هذا الجدال رواية ذكية، جيدة جدًّا من الجوانب الأدبية، رغم كونها مظلمة حقًا
تبدأ فانيسا في نهاية الكتاب في رؤية الضرر الذي أصابها، لكنها ما زالت في بداية الطريق، ولديها كل الوقت للتعافى، ربما في أحد الأيام تستطيع مواجهة نفسها والحديث عن تجربتها كما تحدثت الفتيات الأخريات.
لماذا تعتبر رواية My dark Vanessa أكثر الروايات المثيرة للجدل في 2020؟
صدرت الرواية في بداية مارس 2020، وأصبحت في الأسبوع الأول من صدورها من أكثر الكتب مبيعًا حسب جريدة New York Times، وبدا الأمر غريبًا في انتشار الكتاب بهذا الشكل خصوصًا في ظل الوباء، لكن هذا لم يكن السبب الوحيد في إثارة الرواية كل هذا الجدل، فالبعض شعر أن تلك مذكرات الكاتبة نفسها، وأن هذه الأشياء حدثت معها، مما أخرج الأمر عن السيطرة قليلًا.
كذلك غردت الكاتبة ويندي أورتيز قائلة إن الرواية مسروقة من مذكراتها “Excavation“! ولكنها لم تدعم مزاعمها بأي شيء حقيقي، فهي قالت هذا بناءً على إشارة بعض قرائها – الذين قرأوا الرواية بدورهم – إلى وجود بعض التشابهات بين الرواية ومذكراتها، وقد صرحت “ويندي” أنها لم تقرأ العمل، وغير مهتمة بقراءته!
أثار هذا الادعاء جدلًا كبيرًا، وانقسم الناس البعض يدافع عن ويندي والبعض الآخر يدافعون عن كايت، إلا أن كايت تمسكت بموقفها أنها لم تسرق شيئًا ولم تقتبس شيئًا، وأن الرواية بعض أحداثها اقتبستها من حياتها الشخصية الخاصة، مما جعل الناس يثورون عليها مطالبين إياها بإعطائهم أدلة عن تعرضها للإساءة وهي صغيرة.
لكن كايت ظلت متماسكة للنهاية، مقررة أن بعض الأشياء التي اقتبستها ما هي إلا أماكن، وأن الاعتداء لم يحدث لها هي بشكل شخصي، لكن تجربة الكتابة مستندة لبعض الحكايات والأشياء التي سمعتها ورأتها في أثناء دراستها بالمرحلة الثانوية.
ما زالت الرواية رغم كل هذا الجدال رواية ذكية، جيدة جدًّا من الجوانب الأدبية، ورغم كونها مظلمة حقًا، فإنها غير مملة، وتشكل تجربة عظيمة لا تظن عندما تقرأها أنها العمل الأول للكاتبة.