قبل ستين عامًا من اليوم، وفي تمام الساعة السابعة مساء 21 من يوليو/تموز 1960 انطلقت الشرارة الأولى لـ”التليفزيون العربي” الذي يتخذ من كورنيش النيل بوسط العاصمة المصرية، القاهرة، مقرًا له، مستهلًا بثه بآيات من القرآن الكريم، تلاها كلمة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، في أثناء افتتاح مجلس الأمة (البرلمان) في ذلك اليوم، ثم نشيد “وطني الأكبر” أبرز الأناشيد الوطنية التي يتغنى بها المصريون.
كانت البداية 5 ساعات فقط يوميًا، تبدأ بالقرآن وتنتهي به، وذلك عبر قناة واحدة، تعمل بمعدل 6 ساعات في اليوم، وصلت إلى 13 ساعة في 21 من يوليو/تموز 1961، إثر إضافة قناة ثانية، ثم الثالثة في أكتوبر/تشرين 1962، ليصل معها متوسط عدد ساعات الإرسال على القنوات الثلاثة ما بين 25-30 ساعة بث على مدار اليوم.
ويعد التليفزيون المصري التجربة الأولى عربيًا وشرق أوسطيًا في مجال اختراق البث التليفزيوني، وثالث أقدم تليفزيونات العالم، لذا كان ينظر للقاهرة على مدار عقود طويلة مضت على أنها صاحبة الريادة الإعلامية في وقت كان يعاني فيه العالم من ندرة وسائل الاتصال والتواصل.
وتحولت مصر فيما بعد إلى قبلة للمهتمين بالإنتاج التليفزيوني والإعلامي والإذاعي، وظلت على هذا المنوال الريادي لسنوات طويلة، لكن سرعان ما تراجع هذا الدور حتى بات اليوم في مؤخرة الركب، متذيلًا قائمة القنوات الأكثر حضورًا وجماهيريةً داخل الشارع المصري.
موجات متلاطمة من الفساد والإهمال تعرض لها التليفزيون الرسمي المصري، مُني بسببها بخسائر مليارية، كانت أبرز الدوافع لتحويل طرف الدولة عن هذا الكيان الشامخ، ونقل دفة الاهتمام نحو الإعلام الخاص، وهو ما وضع أقدم تليفزيونات المنطقة في موقف لا يحسد عليه.
المَلكية وإرهاصات التجربة
لم يكن دخول عصر التلفاز إنجازًا لنظام الـ3 من يوليو 1952 كما يحلو للبعض أن يدندن، إذ إن هذا المشروع ظل حلمًا يداعب المصريين إبان عهد الملكية، حيث شهد عام 1951 أول تجربة تليفزيونية في مصر، وذلك حين أجرت الشركة الفرنسية لصناعة الراديو والتليفزيون أول محاولة للإرسال التليفزيوني، وكان نقلًا للمهرجانات التي أقيمت بمناسبة زواج الملك فاروق.
كان من المقرر أن يتم انطلاق التليفزيون الرسمي للدولة المصرية أواسط الخمسينيات، إكمالًا للتجارب السابقة، وفي 1954 عرض وزير الإرشاد القومي آنذاك، صلاح سالم، على الرئيس جمال عبد الناصر موضوع إنشاء دار الإذاعة الجديدة وإنشاء محطة تليفزيونية فوق جبل المقطم، لكن وقوع العدوان الثلاثي على البلاد في 1956 تسبب في تأخر انطلاق المشروع بشكل رسمي.
وفي 1959 وقعت القاهرة عقدًا مع هيئة الإذاعة الأمريكية RCA لتزويد البلاد بشبكة للتليفزيون، وبعد أقل من عام واحد فقط، تم الانتهاء من إنشاء مبنى الإذاعة والتليفزيون، ذلك المبنى المعماري الفريد في مقره الحاليّ وسط القاهرة بكورنيش النيل.
وكانت الانطلاقة الأولى رسميًا للتليفزيون المصري عام 1960 في أجواء احتفالية كبيرة، كونها المبادرة الأولى في المنطقة، التي بدأت تجاربها الأولى من مسرح قصر عابدين، قبل أن تنتقل بعد ذلك إلى مقر المبنى الرئيسي الذي يحمل بين طياته تاريخًا من الريادة الإعلامية للمحروسة.
وظل البث التليفزيوني مقتصرًا على الحدود الدنيا له، حتى صدور المرسوم الجديد لاتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري (ERTU) في 13 من أغسطس 1970 الذي بموجبه تم إنشاء أربعة قطاعات: قطاع الإذاعة وقطاع التليفزيون وقطاع الهندسة وقطاع التمويل، ليدخل التليفزيون المصري آفاقًا جديدة من التطوير.
عصر النهضة
عقب انتهاء حرب العاشر من رمضان، أكتوبر 1973 قام التليفزيون المصري بأكبر عملية تجديد في معداته الفنية والهندسية، وبعد خمس سنوات فقط تم توصيل بث القناتين الأولى والثانية إلى مدن القناة “شرق” بعدما كان البث محصورًا على العاصمة فقط.
ثم تم لاحقًا إنشاء عدد من القنوات المحلية عام 1988 وخصصت في البداية لمدن السويس وبورسعيد والإسماعيلية “القناة الرابعة” وفي 1990 تم إنشاء قناة لمخاطبة الشعب السكندري وبعدها بأربعة أعوام أطلقت شارة البث للقناة السادسة المخصصة لمحافظات وسط الدلتا، وفي العام ذاته بدأ إرسال قناة شمال الصعيد “السابعة”، وبعدها القناة “الثامنة” التي تستهدف محافظات جنوب الصعيد.
ومع قدوم عام 1990 دخلت مصر عصر السماوات المفتوحة والبث الفضائي، حيث تم إنشاء قنوات النيل المتخصصة، فيما كانت القناة الفضائية المصرية الأولى أول قناة فضائية في المنطقة العربية يتم إرسالها عبر الأقمار الصناعية، بينما بدأت قناة النيل الدولية إرسالها في 1994.
وفي عام 1996 دخلت القناة الفضائية الثانية مضمار الإعلام المدفوع، كأول قناة عربية مشفرة، ثم تلاها قنوات عدة أثرت المنظومة التليفزيونية المصرية منها القنوات الرياضية والأخبار والثقافة والمنوعات والطفل والتعليمية وبعدها ضمت السينما والكوميديا والمنوعات “لايف”.
أما من حيث المجال الإذاعي، فقد سبق عصر التلفاز بما يزيد على 15 عامًا، ويضم ماسبيرو حاليًّا نحو 14 محطة إذاعية عامة هي: إذاعة البرنامج العام 1934 وإذاعة صوت العرب 1953 وإذاعة الشرق الأوسط 1964 وإذاعة البرنامج الثقافي – البرنامج الثاني سابقًا 1957 – وإذاعة الشباب والرياضة 1975 وإذاعة البرنامج الموسيقي وإذاعة البرنامج الأوروبي وإذاعة القرآن الكريم وإذاعة الأغاني المصرية – المتخصصة سابقًا – 2000.
هذا بخلاف الإذاعات المتخصصة والنوعية كالموسيقى والإذاعة التعليمية والإذاعات الموجهة والإذاعات الإقليمية وإذاعة راديو مصر- تابعة لقطاع الأخبار حاليًّا -، فضلًا عن أربع محطات ذات نسبة شراكة، تابعة لشبكات راديو النيل هي ميجا إف إم وراديو هيتس ونغم إف إم وشعبي.
وتقلد منصب رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون منذ تأسيسه 12 رئيسًا حتى إلغائه وإنشاء الهيئة الوطنية للإعلام وتولي حسين زين رئاستها في أكتوبر الماضي، كما تولى وزارة الإعلام 19 وزيرًا، كان أولهم محمد عبد القادر حاتم وآخرهم أسامة هيكل الذي عين في ديسمبر 2019.
من الريادة للتجاهل
بعد ستة عقود على الانطلاق يواجه التليفزيون المصري تحديات عدة تهدد استمراره وتجعل من بقائه مسألة تحتاج إلى ضغوط وجهود كبيرة بعدما بات عبئًا على الدولة، لا سيما في ظل تصاعد ديونه عامًا بعد عام حتى بلغت 36 مليار جنيه (2.3 مليار دولار) حسبما كشف الإعلامي جمال الشاعر وكيل الهيئة الوطنية للإعلام.
كما تعرض لموجات متتالية من الخسائر بلغت حتى العام الماضي 5.4 مليار جنيه حسبما كشفت الميزانية الأخيرة لماسبيرو، الأمر الذي دعا بعض رجال الأعمال المهتمين بالإعلام للمطالبة بوقف إهدار مال الشعب على هذا القطاع الذي لا يشاهده أحد كما جاء على لسان رجل الأعمال نجيب ساويرس، مالك قناة “أون تي في” السابق.
وأمام هذه الوضعية سقط تليفزيون الدولة من حسابات الأنظمة، بدءًا من نظام حسني مبارك مرورًا بعام محمد مرسي وصولًا إلى الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي، وبات التحول إلى القنوات الخاصة هو البديل، الأمر الذي عزز من تراجع دور هذا المبنى التاريخي وزاد من حالة الاحتقان بين العاملين بداخله.
الباحث بالمرصد العربي لحرية الإعلام أحمد أبو زيد، كشف خطة رسمية لتصفية ماسبيرو منذ عام 2016 وذلك من خلال بعض الإجراءات منها تأجير أصوله لقنوات خاصة حليفة للنظام، إلا أنه أشار إلى تأجيل الصفقة خشية غضب العاملين من احتمال تسريحهم، حسب قوله.
أبو زيد في تصريحات صحفية له استعرض بعض الخطوات المتخذة حاليًّا وتشير إلى سقوط التليفزيون القومي من حسابات الحكومة، منها التمهيد لتسريح عدد كبير من العاملين في ماسبيرو امتثالًا لقانون الخدمة المدنية، متوقعًا أن يتم نقل بعض إدارات المبنى للعاصمة الإدارية الجديدة.
العديد من الخبراء يرون أن التليفزيون الرسمي فقد تأثيره بصورة كبيرة، ما دفع السلطات الحاليّة للبحث عن بديل آخر أكثر تأثيرًا وحضورًا، فكان اللجوء لاختراق الإعلام الخاص، حيث تدشين قنوات إنتاج مستقلة تابعة للمخابرات مثل إعلام المصريين والمتحدة وسينرجي وغيرها، التي باتت تتحكم في المشهد الإعلامي برمته.
لكن هذا لا يعني من وجهة نظر الخبراء أن يتم ترك ماسبيرو بكل هذا التاريخ أن يسقط بهذه الكيفية، حتى لو كانت مبررات السقوط متوافرة، فهذا الكيان من الصعب أن يتم التفريط فيه هكذا دون الاستفادة من إمكاناته التي تملك المقومات لإعادة مجد المبنى وتاريخه مرة أخرى.
الكثيرون، بمن فيهم من هم في السلطة الآن، يرون في ماسبيرو حائط صد قوي، داعم للنظام الحاكم على طول الخط، حصن منيع وقت الأزمات، خاصة في حال فقدان الدولة نفوذها في منظومة الإعلام الخاص، ومن ثم جاءت مساعي التطوير لهذا الكيان وإن كانت على استحياء.
اللافت للنظر أن التطوير المزعوم في ماسبيرو لم يحقق الهدف منه حتى كتابة هذه السطور، في ظل الزج بأسماء ذات خلفية عسكرية لقيادة المشهد الحاليّ، رغم افتقادها للخبرات والإمكانات التي تؤهلها لتلك المهمة، وهو ما أثار حفيظة عدد من الإعلاميين المصريين، ممن يرون أن ما يحدث بدعوى التطوير ما هو سوى استكمال لمسلسل الفساد الذي نشأ أواخر عصر مبارك، لكنه هذه المرة بنكهة عسكرية على طريقة السيسي.
الكاتب الصحفي والسيناريست حسام الغمري يعتبر أن “الموضوع لا يعدو كونه عملية ترقيع فاشلة لحياة رجل مريض”، لافتًا في تصريحات له إلى حلم السيسي استنساخ تجربة عبد الناصر في السيطرة على الإعلام، “لذلك فهو الآن يلجأ حتى للسيطرة المباشرة على ماسبيرو، خصوصًا بعدما فشلت أجهزته في مواجهة قنوات إسطنبول فلجأ للجهاز العتيق” على حد قوله.
وبعد مرور 6 عقود كاملة على أول تليفزيون عربي وثالث أقدم تليفزيون عالمي وبعد الحالة الرثة التي وصل إليها من تجاهل وإقصاء عن المشهد، بفعل فاعل أو بفساد فاسد، حتى بعد رفع شعارات التطوير التي لم تأت على المستوى المأمول الذي يتناسب مع تاريخ وعراقة هذا الكيان.. يبقى السؤال: هل يعود التليفزيون الرسمي المصري إلى ريادته مرة أخرى أم يُترك وحده يواجه أعراض الموت السريري في انتظار رصاصة الرحمة؟