تعد العنصرية من أكثر المواضيع المطروحة إثارة للجدل في الآونة الأخيرة، وذلك لانتشار الوعي بخطورتها وتأثيراتها على الأفراد والمجتمع، ورغم أن العنصرية الأشهر هي العنصرية ضد أصحاب البشرة السوداء، فإن أشكالًا كثيرة من التمييز تقع تحت هذه الخانة، حيث تنتشر العنصرية ضد أصحاب البشرة الداكنة – حتى من غير السود – حول العالم بصورة كبيرة جدًا، ومن الملفت للنظر انتشارها في بلدان مثل دول الوطن العربي أو دول قارة إفريقيا أو الهند وغيرها من الدول ذات الشعوب غير البيضاء، فإذا كنا – نحن السكان الأصليين للمنطقة – لسنا من العرق الأبيض، ما الذي يدفعنا لاحتضان وتغذية هذا التمييز ضد أنفسنا؟
تاريخ العبودية
العنصرية على أساس اللون ظاهرة قديمة لها أسباب عديدة، أولها ما خلّفته لنا قرون طويلة من العبودية والاتجار بالبشر، وخصوصًا ما عانته القارة الإفريقية في هذا الخصوص، فارتبط اللون الأسود بالعبودية والذل والهوان في ذهن الكثيرين، منذ القدم وحتى أيامنا هذه، فيما ارتبط لون البشرة الأفتح بالسيادة والقوة ورفعة الشأن.
كما أسس تجار أسواق النخاسة لظاهرة تعرف في يومنا هذا بالـcolorism، وهي التمييز بين البشر بناءً على لونهم، التي تنتشر بصورة كبيرة في مجتمعاتنا، حيث عمد هؤلاء “الأسياد” قديمًا إلى تفضيل العبد ذي اللون الأفتح نسبيًا، وأبقوه إلى جانبهم داخل البيوت ليقوم على حاجاتهم الشخصية وغيرها من المهام المنزلية الأقل إرهاقًا، أما العبيد الأغمق لونًا أرسلوهم للعمل في الحقول والأراضي الزراعية وغيرها من الأعمال الشاقة، فأسسوا بذلك تراتبية وتمييز حتى بين العبيد، وبناءً على لونهم، وبقيت آثار هذه الممارسة بالتمييز اللوني حتى يومنا هذا رغم انتهاء العبودية.
من جهة أخرى، فضل المستعبدون العبيد ذوي البشرة الأفتح لأنهم في كثير من الأحيان كانوا أفرادًا من الأسرة، حيث أجبر الأسياد بالسابق النساء من العبيد (الإماء) على العلاقات الجنسية، ورغم أن الطفل الناتج عن هذا النوع من العلاقات لم يحظ بالاعتراف به كابن شرعي غالبًا، فإنه حصل على امتيازات أخرى، وبالتالي أصبحت البشرة الأفتح في مجتمع العبيد أنفسهم، دلالة على مكانة عالية.
تاريخ الإقطاع
وفي نفس السياق، يمكن ذكر موضوع الإقطاع الذي ساهم بدوره بتحقير البشرات الداكنة، فقد عامل الإقطاعيون الفلاحين بطريقة تشبه الاستعباد، فتركوهم للأعمال الشاقة التي أكسبتهم سمرة من الشمس تميزهم عن أسيادهم المرتاحين في بيوتهم والأفتح لونًا بطبيعة الحال، بسبب عدم اضطرارهم إلى العمل.
بقي التفضيل بين الأشخاص بناءً على ألوانهم، على أساسيات نعتقد أنها جمالية، لكنها تعود بجذورها إلى حقب الاستعباد والتفاوت الطبقي
وهي ظاهرة قديمة قد تعود حتى لما قبل وجود النظام الإقطاعي، حيث أعطى اللون الفاتح للبشرة دلالة على عدم قيام الشخص بالأعمال الشاقة وبالتالي انتمائه لنخبة المجتمع، بالمقابل دل اللون الأغمق على طبقة الفلاحين والكادحين، فميزت ألوان البشرة بذلك بين طبقات المجتمع، وفي نفس السياق اعتُبر القوام الممتلئ إحدى علامات الثراء والوفرة بالطعام، فكان ينظر له على أنه جذاب، بعكس مقاييس الجمال المنتشرة حاليًّا.
أما في اليابان، اعتبرت “Ihara Saikaku” إحدى كاتبات القرن السابع عشر أن الجمال يكمن في الشعر الغامق والبشرة الفاتحة، أما البشرة الغامقة والشعر البرتقالي فكناية عن فقر الشخص للجمال، ويتغير لون الشعر أحيانًا إلى اللون البرتقالي بسبب التعرض الزائد لأشعة الشمس.
لكن في أيامنا هذه، تلاشت هذه العوامل التي أدت إلى الطبقية بشكلها السابق، ولم يعد بالإمكان تمييز ذوي المكانة المرموقة من غيرهم بناء على سمرة زائدة بسبب التعرض إلى الشمس، ومع ذلك بقي التفضيل بين الأشخاص بناءً على ألوانهم، على أساسيات نعتقد أنها جمالية، لكنها تعود بجذورها إلى حقب الاستعباد والتفاوت الطبقي.
الاستعمار
من أبسط الأمثلة التي يمكن ذكرها لشرح دور الاستعمار في تأسيس وتأصيل عنصرية اللون في المجتمعات التي سيطر عليها لفترة من الزمن، دولة رواندا، فعندما احتل الألمان رواندا عام 1898 اعتبروا جماعة التوتسي أقرب للأوروبيين، بسبب طبيعة أنوفهم الرقيقة وبشرتهم الأفتح مقارنة مع جماعة الهوتو، فدعموا قبيلة التوتسي وضمنوا لهم القوة والقدرة على إخضاع الهوتو، وعندما احتلت بلجيكا رواندا عام 1916 استمروا على نفس النهج الذي رسمه الألمان من قبلهم، وأدّى ذلك إلى نشوء نظرة دونية في المجتمع تجاه الجماعة ذات الأنف الأعرض والبشرة الأغمق، وإلى جانب أسباب أخرى أدّى ذلك كله إلى نشوب حرب أهلية أودت بحياة مئات آلاف البشر.
من جهة أخرى، يجادل البعض بأن المستعمر بريء من ذنب ترسيخ مفاهيم التمييز بناء على اللون التي انتشرت في البلدان المُستعمرة، والدليل على ذلك وجود الأمثلة التي ذكرناها سابقًا عن دور تاريخ العبودية والتمايز الطبقي بين الناس، والحقيقة أنه بعد قدوم المستعمر ونشره لأفكار تفوقه العرقي على الشعوب المستعمرة، اندمجت هذه الأفكار بالاعتقادات القديمة وأنتجت منظومة جديدة من الاعتبارات التي ربطت بين ملامح المستعمر ولونه من جهة، والثراء والقوة والجمال من جهة أخرى.
والدليل على ذلك هو الغياب التدريجي لبعض مقاييس الجمال التي كانت تسود هذه المجتمعات قبل الاستعمار مثل الشعر الأسود، الذي حل محله لفترة طويلة الشعر الأشقر كعلامة أولى للجمال، بالإضافة للعيون الزرقاء بدلًا عن العيون السوداء التي اعتبرت قبل حقبة الاستعمار والإمبريالية جذابة جدًا.
ويضاف إلى ذلك جميع ملامح الأوروبيين التي أصبحت مفضلة عند الشعوب المستعمرة، بما يشمل شكل الأنف والوجه وطبيعة الشعر الأملس، والمؤسف في هذا البحث أن معظم هذه الشعوب لا تزال تمارس هذا التمييز دون دراية منهم أنه من بقايا الاستعمار على بلادنا، بل يعتقد البعض أن ميول الإنسان للبشرة الفاتحة هو شيء طبيعي موجود في فطرتنا البشرية.
الإعلام والترويج للجمال الأوروبي
يلعب الإعلام بجميع أشكاله دورًا رئيسيًا في تنميط الجمال وحصره ضمن الملامح الأوروبية، بحكم أن شركات مستحضرات التجميل وهوليوود وأشهر الفنانين والفنانات على مستوى العالم جميعهم من الولايات المتحدة ولهم خلفية عرقية أوروبية.
احتلت الفتاة الشقراء النحيلة أغلفة المجلّات والدعايات وبطولات الأفلام والمسلسلات لفترة طويلة من الزمن، قبل أن تنهض تيارات مقاومة لضعف أو انعدام تمثيل فئات المجتمع الأخرى في الإعلام، وحتى عندما يتم تمثيل امرأة من أعراق أخرى وتقديمها على أنها جميلة، تخضع لبعض “التحسينات” التي من شأنها أن تقربها أكثر من صورة الجمال المثالية الأوروبية، كتفتيح البشرة سواء كان رقميًا أم حقيقيًا أم من خلال تمليس الشعر أم وضع العدسات اللاصقة الملونة، وبحسب الناشطات النسويات فإن جميع ما ذكر أدى مع مرور السنين إلى خلق جيل كامل يؤيد هذه الصورة النمطية وينصاع لها، حتى من السيدات أنفسهن.
التمييز اللوني يلعب دورًا حتى في محاكمات المجرمين، وبيّنت الإحصاءات أن هنالك نسبة أكبر لأصحاب البشرة الداكنة بالحصول على عقوبة الإعدام والسجن
الخطر على الصحة والمجتمع
تقدّر أرباح صناعات تفتيح البشرة بعشرات بلايين الدولارات سنويًا، ولهذه المستحضرات سوق واسع في جميع أنحاء العالم خصوصًا في الدول ذات الشعوب غير البيضاء مثل الهند ونيجريا، وتأتي هذه المستحضرات مع مخاطر كبيرة على البشرة والجسم، مثل تسمم الدم وزيادة احتمالية الإصابة بالسرطان، وحظرت العديد من الدول مثل رواندا وغانا وأستراليا واليابان استخدام هذه المواد، ومع ذلك لم ينقطع الطلب عليها في الأسواق.
أما شركة جونسون أند جونسون وهي الشركة الأم لأشهر العلامات التجارية التي تبيع مبيضات البشرة مثل نتروجينا وكلين أند كلير، فقد أعلنت مؤخرًا قرارها سحب هذه المنتجات من أسواق آسيا والشرق الأوسط، الجدير بالذكر أن هذه المنتجات لم تكن تباع بالولايات المتحدة من الأساس لأنها ممنوعة.
ويبحث الناس عن هذا النوع من الحلول لتبييض بشرتهم – حتى إن كان على حساب صحتهم الجسدية – طمعًا بالحصول على فرص حياتية أفضل، سواء كان ذلك فرص عمل أم علاقات اجتماعية أو غيرها.
وقد تصل خطورة هذا التمييز إلى درجات متقدمة جدًا، حيث أشارت دراسة أمريكية أن التمييز اللوني يلعب دورًا حتى في محاكمات المجرمين، وبيّنت الإحصاءات أن هنالك نسبة أكبر لأصحاب البشرة الداكنة بالحصول على عقوبة الإعدام والسجن مدى الحياة، في مقابل المجرمين ذوي البشرة الأفتح.
ولا توجد إحصاءات أو دراسات عربية بهذا الصدد بعد، لكن يُلاحظ وجود مظاهر أخرى لهذا النوع من العنصرية بكل وضوح في المجتمع العربي، حيث يزيد لون البشرة الفاتح من فرص صاحبه في سوق العمل والزواج والحصول على حياة أفضل إجمالًا.
بالمقابل، يُلاحظ أيضًا عدم تسليم الجيل الجديد لهذه القيم الجمالية الموروثة بسهولة، ووجود العديد من الأصوات على مستوى منظمات المجتمع المدني والأفراد، التي تطالب بإنهاء جميع أنواع التمييز والعنصرية والتخلص من مخلفات أزمنة سابقة لها علاقة بالاستعمار والعبودية.