محافظة درعا جنوب سوريا، مهد الثورة، ومنطلق كبريات ملاحم الانتفاضة في البلاد التي ثارت ضد حكم الأسد، حيث بدأت حوران الثورة ومضت فيها بداية من المظاهرات السلمية التي دفعت ثمنها حصارات واقتحامات واعتقالات، إلى أن وجد شبابها أنفسهم يحملون السلاح ويقامون البطش عسكريًا، قبل أن تدخل التنظيمات المتشددة ساحة الصراع مستغلة حالة الصراع والفوضى، على راسها “داعش” الذي ساهم تغلغله في الساحة السورية في تحويل مسارات الثورة وتمزيق فصائلها الثورية وتشويه سمعتها فضلًا عن حرف بوصلتها.
تعتبر درعا من أواخر محطات قطار التهجير في سوريا، وعلى الرغم من أن التهجير جرى لكثير من المدن والأرياف، رفض الكثير من أبنائها ممن يحملون الثورة ويدافعون عنها، الخروج، فكان سيناريو التهجير في المحافظة الجنوبية مثيرًا للجدل، خاصة بما أعقبه من تبعات، فلم تخمد الثورة مقارنةً بغيرها من المدن، ونضرب هنا مثالًا مدينة حلب التي لاقت تهجيرًا كاملًا وبعدها تمت السيطرة الكاملة من قوات الأسد والقوات الروسية، وكذا الغوطة الشرقية التي ورغم بقاء الكثير من أهل المدن فيها، خمدت روح الثورة بها وذلك لسيطرة النظام المطلقة عليها.
لا تعتبر درعا تحت سلطة النظام المطلقة بعد اتفاق التهجير الذي تم تنفيذه على عدة أيام في يوليو/تموز 2018، وإنما أصبحت محورًا للتجاذب الدولي ومحطةً للاهتمام البالغ من عدة أطراف يحاول فيها كل طرف سحب الغطاء لينال أكثر من هذه المدينة وتُكتب في دفتر نفوذه.
الحالة في المدينة بعد التهجير بحاجة لتحليل عميق ومتابعة دائمة للأحداث المتلاحقة التي تحصل بها، فمنذ اتفاق يوليو 2018، لم تهدأ المدينة أبدًا، فلم تفارقها الاغتيالات وطالت جميع الأطراف الموالية للنظام أو المعارضة له على حدٍ سواء، كما أن المظاهرات لم تهدأ في شوارعها، وصولًا لحالات الخطف المتبادل، بالإضافة إلى بعض المناوشات العسكرية الصغيرة التي حصلت بين عناصر النظام وعناصر سابقة في المعارضة.
الأهم من ذلك كله هو السباق الروسي الإيراني في المدينة وكيفية السيطرة عليها، ونستطيع تشبيه درعا اليوم بالكعكة التي يحاول كل طرف أخذ القسم الأكبر منها، فيحاول النظام يومًا بعد يوم فرض سيطرته المطلقة، لكن هذا ما لم يحصل عليه حتى الآن، طبعًا نتكلم عن سيطرة النفوذ والتحكم بجميع مفاصل الحياة، إذ إن بعض مناطق المحافظة لم يدخلها جيش الأسد حتى الآن.
رجل روسيا في درعا
يعمل أحمد العودة القيادي السابق في قوات المعارضة على استقطاب المقاتلين السابقين المعارضين وبالخصوص المنشقين لتنظيمهم ضمن قوات الفيلق الخامس المعوم روسيًا بشكل جلي وواضح، وكان العودة قد دعا لتشكيل جيش موحد يجمع مقاتلي المحافظة، إلا أنه وبحسب الكاتب والناشط من مدينة درعا محمد علي فإن “هذه الخطوة لاقت رفضًا شعبيًا، حيث يرفض المجتمع الحوراني توسع الفيلق الخامس الذي رغم كل ما يتفرد به في درعا، يظل بالنهاية قوة تابعة للروس، حلفاء النظام وإحدى قوى الاحتلال حسب المزاج الشعبي في درعا وريفها”.
وفقًا لموقع “نداء سوريا“، فإن إعلان العودة “يأتي بعد أن أذاع نظام الأسد في المساجد ضرورة التحاق المنشقين والمتخلفين من شباب المحافظة بالخدمة العسكرية في جيشه، وتسابق أفرع نظام الأسد وتحديدًا فرع الأمن العسكري وفرع الأمن الجوي والفرقة الرابعة على استقطاب الشبان بالمنطقة”.
لا يقتصر الدور الروسي جنوبي سوريا على صناعة أتباع ورجال يأتمرون بأمر موسكو، إنما تعمل القوات الروسية على إثبات وجودها عبر قواعدها العسكرية ودورياتها المستمرة بين المدن، حيث يمتلك الروس قاعدة عسكرية كبيرة في درعا بالإضافة إلى مركز التسويات في مدينة أزرع، إضافة إلى مقر رئيسي في مدينة نوى واللواء الثامن التابع للفيلق الخامس بقيادة رجل روسيا في المنطقة أحمد العودة.
تتزامن تحركات روسيا في درعا مع تحركات موازية في كل من القنيطرة والسويداء وهما المحافظتان اللتان ترسمان مع درعا جغرافيا الجنوب السوري، حيث عقدت موسكو لقاءات مع قيادات من مدينة السويداء وذلك إثر الاعتقالات التي طالت نشطاء معارضين من المدينة بعد المظاهرات التي شهدتها في شهر يونيو/ حزيران وطالبت بإسقاط النظام.
كما أن روسيا من خلال جولاتها في القنيطرة وتوزيعها للمساعدات واستقبال الشكاوى من الأهالي تحاول استمالة المدن والقرى ليكونوا تحت سيطرتها ومناطق نفوذها، بالإضافة إلى ذلك وبحسب “عنب بلدي“، فإن القوات الروسية اجتمعت مع أعيان القنيطرة لبحث انضمامهم للفيلق الخامس إلا أن بعض قيادات المنطقة لم يوافقوا على هذا الطرح، معتبرين روسيا وإيران قوات احتلال يجب محاربتهما.
لا يخفى على أحد أن أحمد العودة كان مدعومًا مباشرًا من خالد المحاميد رجل الإمارات في سوريا، وبهذا الصدد يقول الناشط عمر الحريري عبر عدة تغريدات نشرها على “تويتر”: “كان أحمد العودة أهم رجالات الجنوب ويقود فصيل جيش شباب السنة وكان يعتبر فصيله خزان السلاح الثقيل للجبهة الجنوبية بالكامل ومدعوم بشكل مباشر عبر المدعو خالد محاميد من الإمارات وحتى اليوم وهذا الأمر الذي سهل تحوله للفيلق الخامس تحت قيادة الجيش الروسي ولهذا تصح تسميته بحفتر سوريا”.
يضيف الحريري: “عند اقتحام قوات النظام لدرعا قبل التسوية لم يعط أحمد العودة أهمية كبيرة للأمر لأن موضوع التحول تم رسمه مسبقًا عبر اجتماعات تمت في الأردن مع الروس وعبر تنسيق رجال الإمارات، ولهذا كانت الاجتماعات مع وفد الروس وممثلي الفصائل عند الاقتحام تتم في مدينة بصرى الشام وتحت حماية العودة نفسه”، كما يوضح الناشط الحوراني أنه حين وقعت اتفاقية التسوية أو “يصح تسميتها نكسة درعا لما آلت إليه من نتائج” ادعى العودة حينها أنه لمنع المليشيات الإيرانية من اقتحام المنطقة سيبقى هو وفصيله بالمنطقة الشرقية من درعا وبقيادة مباشرة تتبع الجيش الروسي تحت مسمى الفيلق الخامس، داعيًا الراغبين حينها للانضمام لفصيله.
يؤكد الحريري أنهم وثقوا مقتل 8 عناصر من الفيلق الخامس على جبهات اللاذقية وحماة وهم يقاتلون قوات المعارضة التي كانوا جزءًا منها فيما مضى، وحين عودة هؤلاء المقاتلين تعرضوا لتفجير أودى بحياة العديد منهم، لتخرج بعدها مظاهرة حاشدة خلال تشييع القتلى، الأمر الذي جعل هذه الأجواء فرصة سانحة للعودة كي يطرح فكرة “جيش حوران الموحد”، يتساءل الناشط الحريري “ألم يكن سابقًا أحمد العودة القائد الفعلي للجبهة الجنوبية التي كان يملك خزائن سلاحها وقرارها وألزم الجميع بالقرارات وهربوا وتركوا عناصرهم بالتسوية في درعا؟!”.
ثريد مهم حول التطورات الأخيرة في #درعا والفيلق الخامس الذي يترأسه أحمد العودة ودوره بالمنطقة الجنوبية سابقا وحاليا ؟ pic.twitter.com/pVztL1tI6V
— Omar Alhariri (@omar_hariri_dr) June 23, 2020
يختم الحريري قوله: “ما يحصل الآن هي خطة نجحت فيها روسيا بشكل كبير وهي خطة إعادة صناعة وتطبيع النظام في سوريا الآن أصبح هناك فصيل أو قوات تابعة لروسيا في درعا تأتمر بشكل مباشر من روسيا ونجحت موسكو في تطبيعها في درعا وتحاول أن تظهر أن هذه القوات تحظى بالشعبية”، مضيفًا: “معركتنا ضد روسيا ليست عسكرية فقط بل معركة وعي (حول) من (هو) ضد إيران حقًا؟ ومن ضد إيران فعلًا فلا يكون تحت قيادة روسيا، فهي الحامي الأول لإيران، ولذلك معركتنا الآن معركة وعي، فيجب علينا أن لا نهزم فيها كما هزمنا في كثير من المعارك الإعلامية منذ بداية الثورة”.
ردًا على خطوات أحمد العودة التي لاقت استهجان الكثيرين من أهالي درعا، فإن العمل يجري على مشروع توحد في الجنوب يستهدف “إنشاء مرجعية لأبناء المنطقة تمثلهم بشكل عام وتقوم بالتفاوض باسمهم بشأن مختلف الملفات، مثل قضية المعتقلين والخدمة الالزامية”، ووفقًا لعضو اللجان المركزية المحامي عدنان مسالمة فإن المشروع “سينبثق عنه تشكيل مجلس استشاري وقوة تنفيذية أو قيادة من مجموع القوى الرئيسية الموجودة بالجنوب، وأن المشاورات جارية على قدم وساق للخروج بتصور كامل وواضح لمخرجات هذا المشروع”.
وبحسب المسالمة فإن “اللجنة المركزية في مدينة درعا واللجنة المركزية في المنطقة الغربية وعدة مناطق أخرى ستتوحد وينبثق عنها لجنة واحدة تتكلم باسم الجنوب سيعلن عنها في الأيام القادمة، أما عن وجود جيش موحد أو جيش الجنوب أو أي جيش له مهام محددة، فلم يتم الاتفاق عليه ولا يوجد مثل هذا المشروع في الوقت الحاليّ”.
رجال إيران
الملاحظ أن موسكو تصب اهتمامها على شخص واحد وتحاول دعمه حتى يلتحق به آلاف الشباب، وهو عكس ما تنتهجه طهران التي تتبع لها العديد من المجموعات والعصابات والمليشيات التابعة لها لكسب نفوذ أكبر على حساب المصالح الروسية في الجنوب السوري ككل، بحسب موقع “إيران وير” فإن المجموعات التي تتبع لطهران في درعا والقنيطرة وهي:
– لواء العرين: الذي يبلغ تعداده 600 عنصر من أبناء المدينة ويتلقى تمويلًا إيرانيًا بالإضافة إلى تمويله من عمليات الاتجار بالمخدرات لصالح “حزب الله”، ويقود هذا التشكيل وسيم المسالمة.
– لواء درع الوطن: يقود هذا التشكيل طارق معروف، وشهد ارتفاعًا بعدد قواته التي بلغت 400 عنصر بعد سيطرة النظام السوري على المحافظة.
هذا بالنسبة للألوية أما بالنسبة للمجموعات فهي كثيرة وأهمها: مجموعة بقيادة خالد الحشيش وتشكلت من عناصر المصالحات وهي مقربة من الفرقة الرابعة، بالإضافة إلى مجموعة بقيادة أحمد مهاوش التي يبلغ عدد مقاتليها 300 وتعمل في تهريب المخدرات إلى الأردن لصالح عناصر “حزب الله” اللبناني، ومجموعة هيثم أبو سعيفان وتتبع لـ”حزب الله”، وينشط عناصرها في تهريب المخدرات.
تدعم إيران أيضًا مجموعة سامر الحريري التي تتشكل من عناصر مصالحات، إضافةً إلى مجموعة محمد الحراكي ومجموعة فارس الحويلة ومجموعة علي العذبة، وهو تشكيل عسكري حديث مشكل من أبناء بصرى الشام في ريف درعا الشرقي.
كما تسيطر إيران على عدة تلال ومناطق إستراتيجية ومهمة، كما أنها تستخدم قوات الفرقة الرابعة وغيرها مقرات الجيش السوري كمراكز عمليات مؤقتة، يتم تغييرها بين الحين والآخر، خشية استهدافها من طيران التحالف الدولي أو الطيران الإسرائيلي.
إلى ذلك، وبالإضافة للتجاذبات الروسية الإيرانية والصراع بين رجال الطرفين في محاولة لكسب المحافظة، يبرز الدور الإسرائيلي الذي لطالما قصف مواقع قال إنها تابعة لإيران بهدف إبعادها عن حدود كيانه، في الوقت الذي تشهد فيه المحافظة ككل موجة من الاغتيالات، حيث وصل عدد محاولات الاغتيال في النصف الأول من العام الحاليّ إلى 214 حالة.
هذه الحالات كان منها 70 محاولة اغتيال في شهر مايو/أيار فقط، راح ضحيتها 151 قتيلًا، ذروتها في مايو، ذلك بالإضافة لحالات الاختطاف والإخفاء القسري التي بلغت 165 حالة خلال نفس الفترة من قبل قوات النظام، فيما يبقى أهالي المدينة تحت حالة من اللااستقرار والفوضى التي تسيطر على المشهد العام في ظل غياب رؤية استشرافية للمستقبل وما سيحمله للمدينة وأهلها وشبابها الرافضين للنظام وللاحتلال الروسي والإيراني، من جميع الأطراف اللاعبة.