لم يكن التاريخ الأوروبي ناصع البياض كما يحلو لبعض المستغربين أن يعزفوا الألحان ليل نهار، فالخيانات والمؤامرات ضد أبناء العمومة والجيران ليست حكرًا على شعوب الدول النامية وفق ما يعتقد أصحاب البشرة البيضاء وتسجلها كتبهم ونوافذهم الفنية والثقافية.
العديد من صفحات التاريخ تكشف وبشكل بين سطورًا مشينة لتواطؤ أوروبي مع المستعمر الروسي ضد بعض مدن القارة العجوز، لا لشيء إلا نكاية في الإمبراطورية العثمانية الإسلامية التي لم تدخر جهدًا في الزود عن تلك المدن التابعة لها في قلب القارة، التي كان الدفاع عنها أحد أسباب سقوطها.
تعد معركة الدفاع عن “بلافنا”، إحدى المدن البرتغالية، في القرن التاسع عشر، أحد النماذج الصارخة على التآمر الأوروبي على الأوروبيين أنفسهم، وذلك حين باركت فرنسا وبريطانيا عبور جحافل الروس للاستيلاء على المدينة الأوروبية على مرأى ومسمع من الجميع دون أن يحرك أحد ساكنًا.
تلك المعركة التي دارت رحاها عام 1877م الموافق 1295هـ بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية في أثناء حكم السلطان عبد الحميد الثاني، واستمرت قرابة عامين كاملين، انتهت بسيطرة الروس على المدينة بعد أن استُنزفت قوة العثمانيين الذين رفضوا الهروب من ميدان المعركة.
صمود حتى النهاية
كان نجم الإمبراطورية العثمانية قد بدأ في الأفول، ومع ذلك لم يرفع العثمانيون الراية البيضاء حيال مناطق نفوذهم التي بدأت تسقط واحدة تلو الأخرى، فكان الزود عنها حتى آخر رمق شعارًا يرفعه الجميع، حتى إن كتب الله الهزيمة تكون بعزة وكرامة ورأس مرفوعة.
وبينما كانت شمس العثمانيين تغرب في أوروبا، كان الجيش الإمبراطوري يحكم قبضته على مدينة بلافنا البلغارية، إذ كانت أحد أبرز قلاع نفوذه في القارة العجوز، وكانت تحتل مكانة بارزة لدى السلطان عبد الحميد الثاني الذي لم يدخر جهدًا في الدفاع عن المدينة حتى النهاية.
لكن التآمر على العثمانيين كان فوق قدرة الجيش، هذا في الوقت الذي كانت تحيا روسيا وجيشها أوج عصور ازدهارها، ورغم ذلك لم تجرؤ على اختراق القارة الأوروبية في مواجهة جيش السلطان دون تآمر من بعض حكومات القارة، وبالفعل جاءت الضربة من الأوروبيين أنفسهم.
لم يكن الجيش العثماني في هذا الوقت في أفضل حالاته، فكان عدده لا يتعدى 50 ألف مقاتل
عبر الجيش الروسي نهر الدانوب بمباركة واتفاق من فرنسا وبريطانيا، اللتين تكنان – ولا تزالا – الحقد الدفين للإمبراطورية العثمانية، حيث سخرتا جهدهما لدعم القوات الروسية بأي ثمن، فكانت الوساطة لانضمام قوات رومانية وبلغارية وصربية إلى القوات الروسية.
وبالفعل نجحت تلك القوات في الاستيلاء على العديد من المدن التي كانت خاضعة للعثمانيين وهم في طريقهم إلى أحد أهم معابر البلقان، بلافنا البلغارية، وأمام هذه الوضعية الحرجة التي بات عليها الجيش العثماني أصدر السلطان قرارًا بتعيين عثمان باشا، قائدًا للجيش في مواجهة الغزو الروسي للمدينة الأوروبية.
لم يكن الجيش العثماني في هذا الوقت في أفضل حالاته، فكان عدده لا يتعدى 50 ألف مقاتل، في مواجهة جيش تتجاوز أعداده مئات الآلاف، الأمر الذي وضع جيش المسلمين في حصار ثلاثي أمام الروس، لكن الأمر لم ينته سريعًا بحسب المؤشرات الميدانية بصفة عامة.
المواجهة كانت معركة حياة أو موت للعثمانيين، رافعين شعار الزود عن المدينة التي انضم بعض أفرادها للجيش الإسلامي لكن التفوق العددي والعتادي كان لصالح الروس، ومع ذلك أبلى العثمانيون بلاءً حسنًا، حيث كبدوا الغزاة العديد من الخسائر في الأرواح والممتلكات.
غير أن الفارق الكبير في الإمكانات كان لصالح الروس الذين نجحوا في نهاية الأمر في السيطرة على المدينة بمساعدة حلفائهم الأوروبيين، فيما أصيب عثمان باشا بجراح في جسده من شدة المواجهات، ما دفعه وجيشه في النهاية إلى الاستسلام للروس مرفوع الرأس.
غازي باشا.. مقاتل من طراز خاص
نشأ “عثمان نوري باشا” المولود عام 1832 بمدينة توكات “وسط تركيا” والملقب بـ”غازي عثمان باشا” في أسرة وطنية خالصة، حيث التحق بالمدرسة العسكرية ومن بعدها الكلية الحربية التي تخرج فيها وهو في العشرين من عمره، ليفرض نفسه مبكرًا بما لديه من مؤهلات.
وخلال اندلاع حرب القرم بين عامي 1853 و1856 بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا، التحق باشا بجبهة الدانوب، حيث مكث هناك 4 سنوات، ترقى خلالها إلى رتبة ملازم أول، ثم في نهايتها حصل على رتبة نقيب، لما بدر منه من شجاعة وجسارة في أعمال القتال هناك.
ونظرًا لما يتمتع من خبرات قتالية، أرسله قائد الجيش العثماني على رأس حملة عسكرية للقضاء على المتمردين في “جبل لبنان” وجزيرة “كريت” في البحر الأبيض المتوسط، أكبر الجزر اليونانية، وذلك عام 1861، لينجح ورفقاؤه في وأد هذا التمرد بصورة نهائية.
رغم استسلامه للروس، ذاع صيته في أنحاء الدولة العثمانية، حيث استقبله الناس استقبال الفاتحين المنتصرين
وما إن عاد من اليونان حتى تنقل في بعض البؤر التي شهدت توترًا وتمردًا من بعض الحركات، كاليمن في 1864، ثم البوسنة في البلقان، ونجح خلال جولاته في تحقيق انتصارات عدة على أرض الميدان، ما ساعده في الترقي سريعًا إلى رتبة مارشال “مشير”.
وفي العام 1877 عينه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، قائدًا لجيش المسلمين في مواجهة الجيش الروسي، كما تطرقنا آنفًا، حيث حقق العديد من النجاحات العسكرية في ميادين أوروبية عدة، غير أنه جرح في معركته التي دافع فيها عن بلافنا.
ورغم استسلامه للروس، ذاع صيته في أنحاء الدولة العثمانية، حيث استقبله الناس استقبال الفاتحين المنتصرين، وعينه السلطان مستشارًا له عام 1876 وظل يشغل هذا المنصب قرابة 24 عامًا حتى وافته المنية عام 1900 ليدفن بحديقة مسجد الفاتح في إسطنبول.
4 قرون من الموجهات
الخذلان الأوروبي للجيش العثماني في تصديه للغزو الروسي ومحاولة استيلائه على “بلافنا” لم يأت من فراغ، فهو امتداد لتاريخ طويل من الحقد والكراهية التي يكنها الأوروبيون للعثمانيين، وهو ما يمكنه تفسير المواقف السياسية الراهنة التي تتبناها بعض العواصم الأوروبية حيال أنقرة.
وقد شهدت العلاقات العثمانية الأوروبية موجات متعددة من الحروب والمواجهات العسكرية، يمكن تلخيصها في ثلاث مراحل أساسية: الأولى: تلك التي تبدأ من العصور الوسطى حتى أوائل القرن العشرين، وتأتي تحت عنوان “الحروب البيزنطية العثمانية”، وقد دارت تلك الحروب في الأناضول كمحطة أولى، واستمرت بها حتى أواخر القرن الثالث عشر، ثم انتقلت إلى قلب أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر، وقد شهدت عشرات المعارك الضارية التي حقق فيها العثمانيون انتصارات كاسحة غيرت خريطة أوروبا في هذا الوقت.
أما المرحلة الثانية فتمتد منذ منتصف القرن الرابع عشر واستمرت قرابة 4 قرون، وسميت بـ”سلسلة الحروب البلغارية العثمانية والصربية العثمانية”، وفيها توسعت الإمبراطورية العثمانية حتى وصلت إلى أوروبا الوسطى خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وتعد ذروة التوسع العثماني الأوروبي.
رغم تبادل الأدوار بين القوتين في الهزائم والانتصارات في تلك الحروب، فإنها كانت تتمحور في معظمها حول التصدي للأطماع الروسية
تلك السلسلة العسكرية التي بدأت عام 1423 واستمرت حتى عام 1718، شهدت بعض الأحداث الجسام التي أثرت بشكل كبير في التاريخ الأوروبي والعثماني بعد ذلك، ومن أبرز تلك الأحداث سقوط نيغروبونت عام 1470 وسقوط فاماغوستا (قبرص) عام 1571، ثم هزيمة الأسطول العثماني في معركة ليبانت عام 1571 ومعارك كانديا (كريت) عام 1669، ثم إعادة سيطرة البندقية على موريا (بيلوبونيز) في ثمانينيات القرن السابع عشر، ثم سقوطها في أيدي العثمانيين مرة أخرى وذلك عام 1715.
فيما تأتي المرحلة الثالثة والأخيرة أواخر القرن السابع عشر، حين أعلنت الدول الأوروبية تحالفها ضد العثمانيين، وشكلت فيما بينها ما سمي “الحلف المقدس” حيث نجح هذا التحالف خلال الفترة من (1683–1699) في الاستيلاء على عدد من الممتلكات والأراضي التي فتحها العثمانيون.
وبنهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، واجه العثمانيون حركات تمرد عدة، في بعض المدن الأوروبية، أدت إلى فقدان الاستقرار السياسي والأمني بالتوازي مع الحرب الروسية التركية، الأمر الذي دفع العثمانيين إلى الانسحاب من أوروبا خلال حرب البلقان الأولى (1912–1913)، ليتبعها بعد ذلك توقيع معاهدة سيفر في نهاية الحرب العالمية الأولى.
وعلى صعيد ما نشهده اليوم من مناكفات تركية روسية، فلم تكن كما يظن البعض وليدة الثورة السورية، إذ إن التنافس الجيوسياسي والاقتصادي والعسكري بين البلدين يعود إلى عتبات تاريخية قديمة، حيث اندلعت عشرات المعارك بين الجيشين خلال الفترة من 1568 وحتى عام 1918.
ورغم تبادل الأدوار بين القوتين في الهزائم والانتصارات في تلك الحروب، فإنها كانت تتمحور في معظمها حول التصدي للأطماع الروسية في السيطرة على أراضي خانية القرم العثمانية، هذا بجانب أحلام الاستيلاء على البحر الأسود وممراته، لا سيما البوسفور والدردنيل، باتجاه المتوسط، وهو ما وقفت له أنقرة لعقود طويلة.
وهكذا يقف التاريخ شاهدًا على تواطؤ أوروبا مع الروس من أجل إسقاط الإمبراطورية العثمانية التي كانت تؤرق أحلام الهيمنة لدى أباطرة الشرق وحكومات الغرب، ليعيد التاريخ نفسه مجددًا، فالصراع الدائر الآن، معلن كان أو خفي، بين أنقرة من جانب وأوروبا وروسيا من جانب آخر، ليس سوى امتداد للعداء التاريخي والكراهية التي يكنها أبناء القياصرة والرومان للمسلمين.