أثار إعلان رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، أمس الأربعاء، قائمة حكام الولايات الـ18، الجدل داخل الشارع السوداني الذي انقسم حياله إلى فريقين: فريق يراه خطوة على الطريق الصحيح الذي وضع حجر أساسه ثورة الـ19 من ديسمبر، وآخر يعتبره لم يحقق الآمال المنشودة ويعيد الأمور إلى الوراء مرة أخرى.
وكان حمدوك قد أعلن، أمس الأربعاء 22 يوليو، تعيين 18 حاكمًا (واليًا) مدنيًا لولايات السودان، مقسمين على بعض الأحزاب بنسب متفاوتة، حيث حصل حزب “الأمة القومي” على 6 ولاة، وحزب “التجمع الاتحادي” على ثلاث ولايات و”البعث العربي الاشتراكي” و”المؤتمر السوداني” على ولايتين، أما “الشيوعي” وحركة “حق” وتجمع تنظيمات المجتمع المدني ومستقلين، فكان نصيب كل منهم ولاية واحدة.
تأتي هذه الخطوة استنادًا إلى الاتفاق الذي قطعه حمدوك وقوى “إعلان الحرية والتغيير”، في 23 من يونيو/حزيران الماضي، بشأن تعزيز المطالب الثورية من خلال بعض الخطوات كإجراء تعديل وزاري والشروع الفوري في تشكيل المجلس التشريعي وتعيين الولاة المدنيين.
وكان من المقرر أن يتم تعيين الولاة الجدد في يناير/كانون الثاني الماضي، حسب جدول زمني لاستكمال هياكل السلطة الانتقالية، غير أن الخلافات بين رئيس الوزراء والتحالف الحاكم وإرجاء التوقيع على اتفاق السلام مع الحركات المسلحة، أخرت هذه الخطوة حتى تم إعلانها أمس الأربعاء.
على الطريق الصحيح
البعض ذهب إلى أن حمدوك بهذه الخطوة يعزز ثورة بلاده، فيما يتعلق بالسير قدمًا نحو مدنية الدولة، وهو أحد أبرز الشعارات الثورية التي طالب بها الثوار، فتعيين ولاة مدنيين يعد سابقة هي الأولى منذ سقوط الرئيس المعزول عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، حيث كان يكلف عسكريين بتسيير الأمور طيلة الفترة السابقة.
رئيس الحكومة في تصريحاته التي أدلى بها في أثناء إعلانه أسماء الفريق المكلف بإدارة الولايات، أكد أن تعيين المدنيين هو المدخل الصحيح لبداية التغيير في الولايات، لافتًا إلى أن اختيار الأسماء التي استقر الأمر عليها جاء وفق معايير الكفاءة والنزاهة والمسؤولية.
نافيًا في الوقت ذاته ما تردد بشأن وجود تدخلات من هنا أو هناك في عملية الاختيار، غير أنه في الوقت ذاته أوضح أن القرارات جاءت بالتشاور مع قوى الحرية والتغيير ومع المكونات الاجتماعية في أي ولاية، بهدف الوصول إلى أفضل الشخصيات من بين الأسماء المرشحة.
التعيين كذلك شهد تطورًا ملحوظًا فيما يتعلق بالحقوق النسوية، التي كانت واحدة من أبرز أهداف ثورة ديسمبر، حيث تم تعيين سيدتين في منصب الوالي في كل من ولاية نهر النيل التي عينت فيها آمنة محمد المكي، والولاية الشمالية التي عينت فيها آمال محمد عز الدين.
وعلى مدار التاريخ السوداني الحديث لم يشهد أن عُينت امرأة في منصب الوالي، إلا مرة واحدة فقط في تسعينيات القرن الماضي، حين عينت أقنس لوكودو والية على الاستوائية في جنوب السودان وذلك قبل انفصال الجنوب، ومنذ ذلك الوقت لم يسمع لنداءات المرأة السودانية بحقها في المشاركة بالإدارة السياسية للدولة.
وفي أول تعليق لها بعد إعلان تعيينها والية للولاية الشمالية أشارت أمال عز الدين، أن مسألة القيادة لا ترتبط بالمرأة أو الرجل، بل بالقدرة على ترجمة أفكار وطاقات إنسان المنطقة، لافتة إلى قبولها لهذا التحدي الذي يأتي في وقت تواجه فيه البلاد ظرفًا استثنائيًا، موضحة أن أولوياتها ستنصب على مخاطبة المشكلات الحقيقية للولاية على رأسها تطوير العملية الإنتاجية خصوصًا في القطاع الزراعي الذي يشكل عصب الحياة، هذا بخلاف تطوير القطاع الصحي والأحوال المعيشية للمواطنين.
ليست كافية
وفي الجهة الأخرى لم تحقق هذه الخطوة وما سبقها المأمول منها شعبيًا، رغم إرسائها لدعائم الحكم المحلي المدني وهو المطلب الملح داخليًا، وذلك حسبما يرى تجمع المهنيين السودانيين، الذي يعد أبرز مكونات قوى “إعلان الحرية والتغيير” (الائتلاف الحاكم).
التجمع في بيان له تعليقًا على التعيينات الأخيرة أشار إلى بعض التحفظات لديه، أبرزها “اعتماد منهج المحاصصة الحزبية وتخطي المعايير والاعتبارات المتصلة بمؤهلات المرشحين، وتجاوز رؤى من قوى الحرية والتغيير ببعض الولايات بتجاهل مرشحيهم، أو فرض آخرين يحظون بتزكية المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير”.
ورغم تعيين سيدتين لأول مرة في تاريخ البلاد، فإن التجمع يرى أن ذلك غير كاف، وكان من المفترض أن يكون هناك تعزيز لدور المرأة السودانية بصورة أكبر، مضيفًا في بيانه الصادر فجر اليوم الخميس: “وضعف الحضور النسوي وتكريس ممارسة تهميش دور المرأة ومشاركتها”.
التجمع لفت إلى أن التحفظات التي أبداها لم تكن جديدة، فلطالما خاطب بها المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير بشكل رسمي خلال أبريل المنصرم، محذرًا في الوقت ذاته من استمرار “نهج تجاوز رغبات وأصوات المعنيين وتسخير قرارات قوى الحرية والتغيير لتقسيم المواقع والمناصب كترضيات ومكافآت لأفراد وأحزاب على أساس المحاصصة بغير هدى أو دليل منير”، مؤكدًا أن هذا الطريق “محفوف بمخاطر فقدان الشرعية واستبدال التمكين الذي لفظه شعبنا بآخر يختلف في الشكل حصرًا ولا يمس الجوهر”.
تراجع بعض الأحزاب التي كانت قد أعلنت قبل ذلك عدم مشاركتها في السلطة التنفيذية الانتقالية، عن موقفها، وقبولها لبعض المناصب، كان مثار تحفظ للتجمع المهني كذلك، الذي اتهم هذا التراجع في المواقف بأنه مؤشر على الخلل المستقر في نظر ومقاربة قوى الحرية والتغيير لحدود دورها في التغيير.
وتواجه الحكومة السودانية الجديدة، منذ أداء اليمين سبتمبر الماضي، العديد من التحديات التي تضعها أمام مسؤولية صعبة أبرزها ما يتعلق بالوضع الاقتصادي المتدني، بجانب الجهود الدبلوماسية الواجب بذلها لرفع اسم البلاد من قوائد داعمي الإرهاب وهي العقوبة التي كبدت السودان خسائر جمة على مدار سنوات طويلة مضت.
وفي مطلع يونيو الماضي، كانت الحكومة قد أعلنت عن مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بهدف تنفيذ برنامج غير ممول قد يمهد للحصول على دعم مالي دولي، غير أن مدير التواصل بالصندوق، جيري رايس، أشار إلى أن هذا البرنامج لا يتضمن تمويلًا في الوقت الحاليّ.
وقد تزايد منسوب الأمل لدى السودانيين بتحسن الوضع الاقتصادي بعد سقوط نظام البشير، خاصة أن الأسباب الاقتصادية كانت أبرز أسباب انطلاق الثورة التي أطاحت بالنظام السابق، غير أنه ومع تولي الحكومة الانتقالية لم يتغير الوضع من حيث التعقيد والصعوبة، خاصة في ظل الإجراءات القاسية التي اضطر رفقاء حمدوك اتخاذها وفي مقدمتها رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية.
العديد من المؤشرات تذهب إلى تفاقم الوضع، حيث بلغ معدل التضخم في شهر مايو/أيار الماضي نسبة 114%، بزيادة أكثر من 15% عن الشهر السابق، بجانب ارتفاع معدلات الأسعار بنسبة 700% للسلع الأساسية اليومية، وذلك وفق تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء (حكومي).
التحول نحو مدنية الدولة والإطاحة بالولاة العسكريين ووضع أولى الأقدام نحو تعزيز حقوق المرأة السياسية خطوة مهمة على الطريق الثوري المنشود، لكنها ليست بالكافية لتحقيق مطالب الثوار، ومع ذلك يبقى الوضع الاقتصادي هو الأهم بالنسبة لرجل الشارع العادي الذي ينظر للتغيرات السياسية والديمقراطية على أنها وسيلة وليست غاية، كونها السبيل الأسرع لتحقيق حياة معيشية كريمة.