لو قُدر لمعاهدة سيفر التي وُقعت عقب الحرب العالمية الأولى يوم 10 أغسطس/آب 1920 بمدينة سيفر الفرنسية الاستمرار، لكانت مدن طرابزون وديار بكر وأرضروم وأزمير وأدرنة وتكيرداغ وغازي عينتاب كلها خارج الأراضي التركية!
إذ قسمت الاتفاقية الأراضي التركية بطريقة مماثلة لاتفاقية سايكس بيكو، وبنفس شروط معاهدة فرساي المذلة لألمانيا عام 1919 تقاسمت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان المدن التركية وأخرجت كل المناطق غير الناطقة باللغة التركية من السيطرة العثمانية وضمنها شبه الجزيرة العربية والمناطق التركية ومناطق الأرثدوذكس اليونانيين والأرمن والكورد في الشرق.
لكن الذي حصل قبلها، أن الأتراك كانوا قد بدأوا حربًا ضد قوات الحلفاء -التي تُعرف بحرب الاستقلال– في العام 1919، وطردوها من أغلب المناطق التي سيطرت عليها وضمنها مناطق معاهدة سيفر، فاضطر الحلفاء وفق الواقع الجديد التفاوض مرة أخرى، وهكذا تم عقد اتفاقية لوزان الثانية لتمييزها عن اتفاقية لوزان الأولى مع إيطاليا عام 1912 المتعلقة بالانسحاب العثماني من ليبيا.
وفي 24 تموز/يوليو عام 1923 بمدينة لوزان السويسرية، أبرمت الاتفاقية بين تركيا من جهة وكل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان والدولة الصربية الكرواتية السلوفينية (يوغسلافيا لاحقا) ورومانيا من جهة أخرى. هذه المعاهدة التي أُعلن بعدها قيام الجمهورية التركية، لا يزال الشرق الأوسط يعيش على وقعها -أو وقع الفوضى الذي أنتجته- حتى بعد 97 عامًا من طرحها وتوقيعها.
صورة لتوقيع اتفاقية لوزران حيث مثل الجانب التركي عصمت إنونو
الانفراد في السياسية والجغرافيا
تضم المعاهدة 143 مادة تتعلق بتنظيم وضع تركيا الدولي الجديد، وترتيب علاقتها بدول الحلفاء المنتصرين في الحرب، ورسم الجغرافيا السياسية لتركيا الحديثة وتعيين حدودها مع اليونان وبلغاريا، وتنازل الدولة التركية النهائي عن ادعاء أي حقوق سياسية ومالية وأي حق سيادي في الشام والعراق ومصر والسودان وليبيا وقبرص.
إلى جانب تنظيم استخدام المضايق البحرية التركية في وقت الحرب والسلم، وبينما يمكن اعتبار وجود هذه المواضيع -بغض النظر عن إجحافها من عدمه- أمرًا طبيعيًا في معاهدة بعد الحرب، إلا أن المواد الأخرى تعكس الغرض الحقيقي من معاهدة لوزان على مستوى تركيا وعلى مستوى المنطقة، إذ تتدخل الكثير من البنود بتنظيم علاقة المواطنين بالدولة الجديدة وكأنها مواد من الدستور وليس معاهدة سلام بين طرفين متحاربين.
مثلًا تتحدث المادة 38 عن مسؤولية تركيا في معاملة جميع السكان دون تمييز ومنح حرية العبادة والرأي وحق المثول أمام القانون. وبالمجمل تنظم في 8 مواد (المواد 37-44) حقوق الأقليات غير المسلمة من ناحية الجنسية والتعليم وحرية العبادة والتنقل والعمل والولادة ويكون موضع تنفيذ البنود تحت إشراف عصبة الأمم، ولا يحق لتركيا تغييرها إلا بقرار منها، فيما تلزم اليونان ببند خجول حول الأقلية المسلمة فيها.
على الصعيد الإقليمي، تتعمد الاتفاقية فصل تركيا الجديدة عن أداء أي دور في أراضي الدولة العثمانية القديمة كما تُعفي الدول من الديون العثمانية السابقة كما في البنود (19-29).
في المقابل، كل ما حصلت عليه تركيا هو الحفاظ على أراضيها بالشكل الذي يُعرف اليوم وبذلك تكون نجت من التقسيم الذي عانته الدول العربية، ومع ذلك دفعت الثمن غاليًا، إذ تقلصت بموجبه الأراضي التركية بشكل كبير، كما تم تحقيق هدف مهم في إبعاد تركيا عن أهم اكتشافات القرن العشرين: النفط.
يكشف الكاتب البريطاني الألمع أنتوني سامبسون في كتابه “الأخوات السبعة” عن كبرى شركات النفط، ويذكر كيف تحول النفط والسيطرة عليه إلى أولوية قصوى لبريطانيا منذ عام 1913 أي قبل المعاهدة بـ10 سنوات.
في خطابه الذي أورده سامبسون، قال ونستون تشرشل رئيس الوزراء خلال الحرب العالمية الثانية: “إذا أرادت الإمبراطورية الاستمرار في حكم الأمواج، يجب أن نصبح المالكين أو بأي حال من الأحوال المراقبين عند مصدر ما لا يقل عن نسبة من إمدادات النفط الطبيعي التي نطلبها”.
لم يكن النفط بالطبع خافيًا على الدولة العثمانية، ففي دراسة للمعهد الإسترالي للشؤون الدولية، يشير الباحث جون باسارين إلى أن الدولة العثمانية وألمانيا توصلوا لضرورة استغلال الثروات المعدنية في الشرق الأوسط، حيث كانت الاتفاقيات الموقعة بين البلدين تنص على أن تقوم ألمانيا ببناء خطوط السكة الحديدية، ومنها الخط العملاق الشهير: برلين-بغداد، مقابل أن تحصل ألمانيا على حقوق التنقيب في الثروات النفطية والمعدنية بمسافة 20 كيلومترًا على جانبي السكة.
لم يُنفذ المشروع بسبب قيام الحرب واستسلام الدولة العثمانية التي تعرضت لهجوم بريطاني استهدف المكان الأكثر أهمية، وهو ممالك النفط في الجزيرة العربية.
طوال الفترة التاريخية الممتدة ما بين توقيع المعاهدة وحتى عام 2002، تاريخ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا، كانت تركيا بعيدة تمامًا عن دائرة التأثير في صنع الأحداث في الشرق الأوسط، إلا تلك الأدوار التي كانت تلعبها ضمن الناتو، فيما عدا ذلك كان التوجه نحو الجنوب محرمًا على تركيا بفعل الأمر الواقع أو الإرادة الدولية.
ورغم أن الخروج الرسمي من المعاهدة وتحدي بنودها أقرب للمستحيل حتى بعد قرن من توقيعها، إلا أن تركيا اليوم تحاول الإفلات بنعومة وحذر من المعاهدة، فالتجارب التاريخية القريبة التي خاضها قادة مثل صدام حسين في العراق وجمال عبد الناصر في تحدي الإرادة الدولية أظهرت بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه ليست هي الطريقة المثلى لتغيير واقع سايكس-بيكو ولا لوزان.
إن اختلاف ميزان القوى منح تركيا مساحة واسعة للحركة، فكل القوى التي وقعت الاتفاقية إما أنها فقدت تأثيرها الدولي (اليابان، رومانيا، صربيا، كرواتيا، سلوفينيا) أو أنها الآن ندٌ لها (فرنسا، بريطانيا وإيطاليا)، بينما وجدت تركيا أن الخلاف الأمريكي الأوروبي من جهة، والتنافس الروسي- الأوروبي من جهة أخرى فرصة مواتية للتوجه جنوبًا كما هو حاصل في الحرب السورية والأزمة الخليجية والحرب الليبية.
100 عام من الفوضى
يشبه العديد من الباحثين معاهدة لوزان بمؤتمر ويستفاليا 1648من حيث رسم قواعد بناء جديدة للمجتمعات، فقد حدّدت المعاهدة مصير سكان المنطقة وفق مبدأين رئيسيين هما: تكريس الحدود السياسية الوطنية، والجنسية الذي ارتبط بـ “هوية” الدول الجديدة التي أنشأتها المعاهدة، أو نتجت عنها، أو رسمت حدودها باعتبارها بديلًا عن الجنسية القائمة على الدين قبل القومية.
يشير الكاتب ديفد فرومكين في كتابه “سلام ما بعده سلام” أن الدول الأوربية عقب المعاهدة حاولت استبدال الإسلام بهوية جديدة قائمة على القومية والولاء للأرض، فيقول: “شرع قادة الحلفاء في التخطيط لضم بلدان الشرق الأوسط إلى دولهم، ثم أدركوا أن سلطة الإسلام على المنطقة هي الخاصية الرئيسية للخارطة السياسية للشرق الأوسط، ولذلك سعوا إلى خلق ولاءات منافسة للوحدة الإسلامية، بيد أن فهم هؤلاء الساسة الأوروبيين للإسلام كان محدودًا، حيث ظلت هناك دومًا خاصية معينة للمنطقة بعد تنحية مرجعيتها الدينية التاريخية ألا وهي غياب الإحساس بالشرعية، فلا يوجد إيمان واحد يشترك فيه جميع الفاعلين السياسيين، ولا ثمة قواعد واضحة للعبة السياسية”.
ورغم أن الكثير من المفكرين الإسلاميين يتفقون أن هناك حاجة لإنتاج عقل إسلامي جديد بدل استنساخ عقل إسلامي سابق يسبب تقديسه وإلزامه للناس مشكلة فكرية -لاتزال حتى يومنا هذا-، إلا أن باحثين رأوا أن استبدال الهوية الإسلامية ككل، وتهميشها عن طريقة قوى علمانية قمعية هو ما وضع جذور الفوضى وعدم الاستقرار، بجهل حقيقة ارتباط الإسلام بحياة المجتمعات التي أنشأها الاسلام نفسه، وشكل قيمها ومبادئها وجذورها، وهو أمر غير موجود في المجتمعات الأخرى كما يتفق في ذلك برنارد لويس والفيلسوف الفرنسي أندري ميكيل وكلود كاهن.
بعد 100 عام من معاهدة لوزان، وحيث تطل الإمبراطورية الأمريكية برأسها ونظامها الجديد، لم تكن خطتها لتنظيم المنطقة سوى تحديثٍ سيءٍ لمعاهدة لوزان، باستبدال القومية بالمذهب، وإعادة تقسيم ما تم تقسيمه عام 1918، فإذا بالتماسك الهش الذي أحدثه القمع طوال قرن من الزمن، يتفكك نحو واقع جرد الملايين في الشرق الأوسط من كل هوية أو نظام، لينتج عن ذلك هجرة جماعية كبيرة نحو أوروبا، مصنع لوزان الأول، ما أدى إلى حدوث تحولات أوروبية عنيفة ارتدت على أسئلة جوهرية سببتها تلك الهجرة حول النظام الغربي المدني ككل، فهل جنت أوروبا ما زرعته في لوزان قبل 100 عام؟