أعلنت مصر نهاية الشهر الماضي رفعَ القيود الاحترازيّة المفروضة للحدّ من انتشار فيروس كورونا، والبدءَ في خطة رسميّة للتعايش مع الوباء، كما فعلت معظم الدول، تقوم على إلغاء حظر التجوال الجزئيّ، وعودة الأنشطة الاقتصاديّة الخِدميّة والطقوس الدينيّة تدريجيًا.
دفع هذا الإعلان كثيرًا من المحللين إلى التكهّن بأن هذه الإجراءات ستؤدّي إلى تفاقم الوضع الوبائيّ في البلاد، بسبب عدم اتّباع مصر “الكود العالمي” للتعامل مع الأزمة في بدايتها وقبل الفتح، والذي يعتمد على الإغلاق الكُليّ المؤقت، والتوسّع في الفحوصات الطبيّة بغزارة، واستخدام أدوات الحوكمة الرّقميّة في تتبّع المصابين. وقد ضاعف هذه المخاوف توجه مصر إلى الفتح بالتزامن مع ذروة انتشار الفيروس، حيث كان معدل الإصابات اليوميّة المسجّلة رسميًا يتجاوز حاجز الألف مع نحو ١٠٠ حالة وفاة، بالإضافة إلى افتتاح الرئيس المصري مستشفًى ميدانيًا ضخما يضم آلاف الأسرّة شرق القاهرة، وهو ما فُسِّر على أنه استعداد للكارثة المتوقعة.
ولكن ما حدث بعد الفتح شبه الكلي كان مفاجئا للجميع، بما فيهم أعضاء الحكومة المصرية، إذ تقلصت أعداد المصابين والوفيات بشكل ملحوظ، حتى مع التشكيكات في الأرقام الرسميّة الصادرة عن الدولة.
ماذا حدث؟
على المستوى القومي، شهدت الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة المصرية انخفاضا ملحوظا متتاليا في أعداد الإصابات والوفَيات، بالتزامن مع ارتفاع طفيف في متوسط أعداد المتعافين.
هذا الانخفاض في أعداد الإصابات والوفيات لم يحدث دفعةً واحدة، وإنما أخذ مسارًا تنازليًا مرحليًا، هبطت خلاله الأعداد مرتين، الأولى بعد فترة قصيرة من الفتح الجزئي، حيث تحول متوسط 1500 حالة إصابة يوميًا إلى قرابة 1000 إصابة، بالتزامن مع هبوط أعداد الوفيات أيضا، ثم تحوّل متوسّط 1000 إصابة بكورونا يوميا إلى متوسط 600 إصابة خلال هذا الأسبوع، مع نزول أعداد الوفيات إلى نحو 50 يوميًا.
وباستعراض سريع لأرقام الإصابات والوفيات والتعافي الصادرة عن وزارة الصحة المصرية، سنجد أنها سجلت، منذ ثلاثة أيام، الثلاثاء، 21 يوليو/ تموز، 676 إصابة، و47 حالة وفاة، وتعافي 549 شخصا. ويوم الإثنين، 20 يوليو/ تموز، سجلت بيانات الصحة المصرية إصابة 627 شخصا، ووفاة 50 حالة، وتعافي 544 من المصابين.
وبالرجوع إلى يوم الأحد، 19 يوليو، سنجد أرقاما مشابهة أيضاً، هي 603 إصابة و50 حالة وفاة، وتعافي 512 مصابا، ويوم السبت 18 يوليو، 689 إصابة، و63 حالة وفاة، وخروج 566 حالة من المستشفيات.
مثَّل هذا الاستقرار النسبيّ المتتالي طفرةً إيجابيَّة، بالقياس على مرحلة ما قبل الـ16 من يوليو الّتي شهدت متوسط 1000 إصابة يوميا، وما قبل ذلك، في نفس الشهر، حيث تجاوز عدد الإصابات أحيانا 1500 إصابة، وهو ما دعا مسؤولي الصحة المصرية إلى اعتبار البلاد، قد تجاوزت، مرحلة “الذروة”، خاصّة بعد أن تراجعت حدّة الإصابات الجديدة، وليس معدلات الإصابة والوفاة وحدها، على نحو أدّى إلى تراجع إشغالات أجهزة التنفس من 97٪ إلى 20٪ فقط، كما قالت هالة زايد وزيرة الصحة.
محافظات بلا إصابات
بعض المحافظات السياحية البعيدة عن المركز، مثل جنوب سيناء والبحر الأحمر والإسماعيلية، أعلنت، منذ يومين، تسجيل “صفر” حالات إصابة بالكورونا، مع انخفاض عام ملحوظ في الضغط على المستشفيات والقطاع الصحي بهذه المحافظات.
وعلى وجه التحديد، قال اللواء خالد فودة، محافظ جنوب سيناء، إحدى المحافظات التي أعلنت عدم تسجيل حالات مؤخرًا، إن محافظته دخلت هذه المرحلة (صفر إصابات) منذ خمسة أيام، ومن ثم، فإنه يتوقع إن جنوب سيناء نجحت في السيطرة على فيروس كورونا بشكل نهائي.
ومع ذلك، فإن المحافظة، بحسب فودة، لن تتوقف عن اتّباع الإجراءات الوقائيّة المتمثلة في فحص كل القادمين إليها من مدخل نفق الشهيد أحمد حمدي بقياس درجة الحرارة، والتوجيه بالعزل المنزلي، والحفاظ على مواعيد غلق المحلات في مواعيدها والتشديد على تطبيق التباعد الاجتماعي فيها، باستثناء مدينة شرم الشيخ السياحية التي يسمح للمحلات فيها بتأخير الإغلاق ساعتين عن الأوقات الرسميّة، مع تعقيم الميادين والشواطئ والمصالح الحكومية بصورة دوريّة.
وبحسب وكيل وزارة الداخلية في المحافظة، فإن القطاع الصحي تجاوز مستوى الخطورة، وبات يعمل بأريحيّة كبيرة، إذ تعافى 484 مصابًا، بعد فحص 1801 شخصا، ثبتت إصابة 556 منهم، ليتبقى في المستشفيات 62 مصابا فقط يخضعون للعلاج والحجر الصحّي.
أسباب التحسُّن
حالة الاستقرار النسبي لوضع الفيروس داخل البلاد خلال الوقت الحالي لم تُشر إليها البيانات الرسمية الصادرة عن الحكومة المصرية وحدها، وإنما أكدت عليها جمعيّات خيريّة فاعلة ميدانيا في مجال استقبال حالات كورونا، مثل جمعية مرسال التي تشرف عليها هبة راشد، وكثير من أطباء مستشفيات العزل، بالإضافة إلى انحسار ملحوظ في فوضى مقاطع الاستغاثة الشعبية التي كانت تضرب مواقع التواصل الاجتماعي حتى أيام قليلة مضت.
وبحسب هالة زايد وزيرة الصحة المصرية، فإن الفيصل في هذا التطور الإيجابيّ عاملان، الأوَّل هو التزام المواطنين بإجراءات الوقاية والتباعد الاجتماعي على نحو فاق التزام نظرائهم في بعض الدول المتقدمة، والثاني، هو تدخل الحكومة لإنقاذ النظام الصحي، عبر إضافة 320 مستشفى إلى قوة مستشفيات العزل نهاية شهر رمضان، مع الاعتماد على “حقائب العلاج” التي وصل عددها إلى 2 مليون جرعة للعلاج المنزلي و8 مليون حقيبة للمخالطين، جرى توزيع أكثر من 24 ألف جرعة منهم على المقيمين في الحجر المنزلي وما يفوق 170 ألف حقيبة للمخالطين.
كما بدأتِ الحكومة المصرية، بعد هذا الاستقرار النسبيّ، في إعادة بعض مستشفيات العزل المضافة مؤخرًا إلى قوة المستشفيات الطبيعيّة، وتجهيز بعض المستشفيات الأخرى لإجراء الدراسات الإكلينيكية على فيروس كورونا، وإعداد ملف مُوحَّد لجميع بيانات المرضى، واستقطاب الكوادر البشرية القادرة على تحليل هذه البيانات والاستفادة منها.
وبناءً على هذا الاستقرار، فقد اتّخذت الحكومة عددًا من القرارات، في اجتماعها الأخير، أمس الأربعاء، بالعلمين الجديدة، في سياق خُطة التعايش مع الفيروس وعودة الحياة إلى طبيعتها تدريجيًا، مثل اعتماد “كارت المراقبة الصحّيّة”، وسيلةً لإدارة الدخول إلى المدن السياحية، على أن تطبع هذه الكروت بأعداد تتناسب مع الأعداد الحقيقية لزائري هذه المدن، مع بحث فتح الشواطئ والحدائق العامة بعد عيد الأضحى بقوة 50٪ من طاقتها الاستيعابية، وزيادة ساعات – ونسب إشغال – القطاعات التجارية الخِدميّة، مثل المطاعم والمقاهي، لتعمل حتى الـ12 صباحًا بطاقة 50٪ من سعة المكان، بالإضافة إلى السماح بعقد المؤتمرات الرسميّة شريطة ألا يتجاوز الحضور 50 شخصا وألّا تقل قدرة المكان عن استيعاب 100 شخص، تمهيدًا لعودة المؤتمرات الكبرى أكتوبر المقبل.
الجانب الآخر
بعض القيادات النقابية الطبيّة شككت في بيانات الحكومة، وردَّت على رئيس لجنة إدارة الأزمة الّذي تساءل مستنكرًا عن السبب الذي قد يدفع الدولة إلى التلاعب في أرقام “كورونا”، بالقول إن هناك أسبابًا كثيرة قد تدفع الدولة إلى ذلك، أهمها الرغبة السريعة في عودة الحياة إلى طبيعتها، وبالأخص قطاع السياحة، وتبريب عدم اتخاذ إجراءات جذريّة لتحسين وضع المنظومة الصحيّة، بشريًا وفنيًا، مستعينة بشهادة وزير التعليم العالي، خالد عبد الغفار، الذي قال منذ شهرين، على هامش افتتاح أحد المشروعات القومية بحضور رئيس الجمهورية، إن الحكومة تتحكم في الأعداد المقبولة لدى المستشفيات، وأعداد الفحوصات، على أساس قدرة القطاع الصحي على خدمة هذه الأعداد؛ ومن ثم، الأرقام النهائية اليوميّة للمرض.
كما اعتبر أطبّاء أنّ ما يحدث معهم، بالرغم من مناشداتهم ووعود الدولة، من تعنُّتٍ في السماح بإجراء المسحات القياسيّة (PCR) لأعضاء الكادر الصحي المشتبه إصابتهم بحمل الفيروس، يعدّ مثالًا حيًا عما يحدث في طريقة إدارة الوباء مع الجماهير، وتجسيدًا لسياسة “إزاحة المخلفات تحت الفراش بدلا من رفعها”، معتبرين أن هذه التقنية، ترشيد الفحوص، تُهدر حقوق الأطباء المادية والمعنوية، بعد استشهادهم في حربهم ضد الفيروس، نظرًا لأن الحكومة لا تنظر إلى من لم يجروا المسحات على أنهم ضحايا للفيروس، بالإضافة إلى أنهم يُقدمون “قرابين” لتحسين الوضع الصحي العام، فإذا كان ثمَّ انخفاض عامٌ في حدة الإصابات الجديدة، فإن هنالك ارتفاعا مقابلا في أعداد وفيات – وحدة إصابات – الأطباء مؤخرًا.
وبحسب منى مينا، نقيبة الأطباء السابقة، فإن الحكومة تركز الآن على قصقصة ريش أعضاء النقابات المهنية المختلفة الخاصة بالدفاع عن الأطباء، عبر إزاحة كل الوجوه غير المرغوبة والتضييق عليها، كما فعلت مع أمين صندوق النقابة، الطبيب محمد عبد الحميد، بالتزامن مع استمرار حبس عدد من الأطباء المعترضين على تعامل الدولة مع أزمة كورونا في القضية 558 أمن دولة، والقضية 535 أمن دولة.
موجة محتملة
وبالرغم من هذه التطورات الإيجابية الظاهريّة في وضع الفيروس، والقطاع الصحي، والفتح العام؛ فإن الحكومة المصرية تقول إن تحركاتها مرهونة بتطورات انتشار الفيروس ميدانيًا، بما يعني أنها تفتح الباب أمام إمكانية العودة إلى الإغلاق الجزئي حال تعرض البلاد إلى موجة وبائيّة جديدة، كما حدث في بعض الدول الأخرى.
وفي هذا السياق، قالت هالة زايد إن المعطيات كلها ترجِّح أن التعامل مع الموجة الجديدة المحتملة سيكون أفضل من الموجة الأولى، وذلك نظرًا لأن جميع أركان المعادلة، المواطنين والطواقم الطبية والسلطات، فوجئوا بالفيروس التنفسي المستجدّ، فلم يكن لديهم أيّ خبرة في التعامل معه، ولأول مرة تتوقف الحركة في العالم كله بهذا الشكل، حتى السلطات نفسها كانت في اختيار صعب ما بين الإغلاق التام الذي يحمي المواطنين ويعطل الاقتصاد، والإغلاق الجزئي الذي يعرض حياة مزيد من المواطنين للخطر خلال ممارسة أنشطتهم الاقتصادية.
أما الآن، فقد بات لدى جميع عناصر المنظومة، بحسب زايد، الخبرة اللازمة للتعامل مع الموجات المحتملة، كما أصبح هناك الكثير من الأبحاث واللقاحات والعلاجات المنتظرة، كما يشير الاستقراء العامّ أن الموجة القادمة، إذا حدثت، تكون على نطاق مجالات حيويّة مُنحسرة، كما جرى في إسبانيا، عندما تركزت الموجة الجديدة في مدينة برشلونة، وهو ما يعني أن الإجراءات المشددة تتركز في موضع الانتشار، بل وليس من الضروري، أن تضرب الموجات المحتملة كل دول العالم.
وفي كلّ الأحوال، لا زالت وزيرة الصحة المصرية، التي زارت أولى البلاد الّتي ضربها الفيروس، الصين، في ذروة تفشي المرض، وواحدة من أكبر البلاد الأوروبية الّتي عانت من كورونا، إيطاليا، لتقديم بعض المساعدات الطبية الحكومية لهاتين الدولتين، تنصح بأهميَّة الالتزام بإجراءات التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامة، كوسائل ضروريّة غير مكلفة، ثبتت فاعليتها في الحدّ من انتشار الفيروس، خاصّة وأن الأولوية في اللقاحات المنتظرة ستكون للفئات الأكثر احتياجًا، مثل كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، ولن تشمل جميع السكان.