ترجمة وتحرير نون بوست
مع فتح القسطنطينية وتسميتها بإسطنبول، حوّل العثمانيون أكبر كنيسة في العالم المسيحي في ذلك الوقت إلى مسجد، وأحدثوا صدمة في العواصم الأوروبية. حافظت قبة آيا صوفيا الشهيرة التي تمثل أعجوبة معمارية بناها الإمبراطور الروماني جستينيان الأول في سنة 537 ميلادي على مكانتها كجوهرة في العالم المسيحي لأكثر من ألف عام، حتى سنة 1520، وذلك عندما اكتمل بناء كاتدرائية إشبيلية الكاثوليكية.
ولكن وفقا لكثير من الخبراء، لو لم يتدخل الحكام العثمانيون، لما صمدت قبة آيا صوفيا لفترة طويلة. في القرن السادس عشر، كلّف العثمانيون كبير المهندسين المعماريين معمار سنان، وهو أمهر البنائين في ذلك العصر، بالإشراف على مهمة ترميم جدران آيا صوفيا حتى تصمد قبته لقرون قادمة.
في هذا السياق، يقول مؤرخ الفن التركي خيري فهمي يلماز: “من أجل تثبيت دعائم المبنى (آيا صوفيا)، والذي صُممت المباني المحيطة به لاحتضان ضريح السلطان سليم الثاني نجل سليمان القانوني وعائلته، أضاف المهندس المعماري سنان [معمار سنان باللغة التركية] دعامات كبيرة حول آيا صوفيا”.
وفي حواره مع تي آر تي وورلد، أضاف المؤرخ التركي قائلا: “بُنيت بعض هذه الدعامات في العصر البيزنطي. لكن المعروف أن قبة آيا صوفيا شكّلت ضغطًا كبيرا على بقية المبنى، لذلك وضع سنان دعامات حجرية لتخفيف الضغط”.
وفقًا للخبراء، إذا لم يتدخل سنان لإنقاذ آيا صوفيا، كان من الممكن أن تنهار قبة المبنى كما حدث في مناسبات سابقة قبل سيطرة العثمانيين.
وحسب يلماز، “أدخل سنان في الجناح الشرقي لآيا صوفيا بعض تقنيات البناء التي كانت شائعة في أوروبا، ودمجها مع الفن العثماني. وهذا يُظهر بوضوح الجهد الكبير الذي بذله لتثبيت المبنى”. من دون تدخل سنان الحاسم، ربما لم يكن آيا صوفيا والأبنية المحيطة به لتصمد حتى العصر الحالي.
ولد سنان في قيصري، وهي مدينة تقع وسط الأناضول، في أواخر تسعينات القرن الخامس عشر. توجد نظريات مختلفة حول أصوله، حيث يقول بعض المؤرخين إنه من أصل يوناني، ويقول البعض الآخر إنه أرمني، ويقول كثيرون آخرون إنه إما ألباني أو مسيحي تركي – وأنه اعتنق الإسلام وانتهى به المطاف في اسطنبول، حيث درس الهندسة المعمارية.
أشرف سنان على مشاريع بناء ضخمة داخل الإمبراطورية العثمانية، من مسجد سليمان القانوني الرائع في اسطنبول، إلى الجسور والسرايا والمدارس وغيرها من المباني. كما قام بتصميم أكثر من 300 معلم تاريخي.
تمثال للمهندس سنان في مدينة أدرنة شمال غربي تركيا. خلف التمثال يظهر جامع السليمية، التحفة الفنية التي شيّدها بنفسه.
يقول الباحث التركي ياسين كاراباكاك: “انهارت قبة آيا صوفيا الضخمة بعد أن شُيدت للمرة الأولى واحتاجت إلى الترميم في مناسبات كثيرة قبل سيطرة الدولة العثمانية. لكن خلال الحقبة العثمانية وما بعدها، بقى المبنى ثابتا لفترة طويلة لم يكن بحاجة لأي ترميم”. ويضيف كاراباكاك الذي يستعد لنشر كتاب عن آيا صوفيا في الأسابيع المقبلة: “إن الفضل يعود للمهندس سنان”.
ويوضح كاراباك لموقع “تي آر تي وورلد”: “ساعدت دعائم ومآذن المهندس المعماري سنان على صمود آيا صوفيا إلى يومنا هذا دون الحاجة إلى عمليات ترميم كبيرة. عندما تركز في مآذنه بالتحديد، يمكنك أن ترى بوضوح حجم الدعائم التي تحافظ على صمود المبنى”.
خلال مسيرته الحافلة، كان من المعروف أن سنان مولع بتصميم المآذن الصغيرة والجميلة. لكن من أجل إنقاذ قبة آيا صوفيا، فضّل اعتماد الدعائم القوية دون التركيز على الجانب الجمالي، وبنى مآذن صلبة في الجناح الغربي. وفق معظم الخبراء، وقع تشييد مئذنتين أخريين في الجناح الشرقي من آيا صوفيا في فترات أخرى، أشرف عليها مهندسون آخرون.
في هذا السياق، يقول كاراباكاك إن “قاعدة المآذن التي توجد في الجناح الغربي من آيا صوفيا أكبر بكثير من قاعدة أي مآذن في المساجد الأخرى. عند النظر إلى مسجد السلطان أحمد بمتحف آيا صوفيا، لن ترى هذه الكتل الضخمة في قاعدة المآذن. يظهر أن سنان أراد استخدام المآذن كدعامات لتقوية المبنى”.
خلال القرن السادس عشر، رمّم العثمانيون آيا صوفيا وتحت بإشراف المهندس المعماري الكبير سنان.
ويعتقد كاراباكاك أنه إذا لم يتدخل سنان لإنقاذ آيا صوفيا، لكانت قبة المبنى انهارت مثلما حدث في مناسبات سابقة قبل سيطرة العثمانيين.
كيف اهتم العثمانيون بآيا صوفيا؟
قبل فترة طويلة من قدوم المهندس المعماري سنان، بدا أن العثمانيين يولون اهتمامًا خاصًا بآيا صوفيا. ورغم مرسوم محمد الفاتح بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، لم يقع إزالة الفسيفساء المسيحية التي تزين داخل المبنى، وظلت موجودة لعدة قرون. لكن السلطان العثماني، الذي لطالما كان معجبا بإسطنبول، أحزنه رؤية المدينة مدمرة كليا عند دخول الأسوار العظيمة للعاصمة الرومانية القديمة بعد انتهاء الحصار الدموي.
لوحة لفاوستو زونارو (1854-1929) تصور دخول السلطان محمد الثاني إلى القسطنطينية.
لم يستطع الحاكم الجديد للمدينة، الذي قيل إنه يجيد اللغات الغربية والشرقية بما في ذلك اليونانية واللاتينية والفارسية والعربية، أن يتمالك نفسه ونبس ببعض الجمل الفارسية أثناء التجول في وسط المدينة متحدثا عن آيا صوفيا وقصر بيزنطة القديم: “العنكبوت يتدلى فوق ستارة باب قصر الإمبراطور، والبومة تعزف نغمة عسكرية في قبة قصر أفراسياب”.
إن أفراسياب أحد القادة الأسطوريين العظماء الذي ذُكر في الأسطورة الفارسية الشهيرة “شاهنامة”، وعادة ما يُنظر إليه على أنه العدو الرئيسي للفرس. وحسب آيسغول إليف سوفوغلو، وهو مرشد وباحث في تاريخ إسطنبول، “لم تكن آيا صوفيا في حالة جيدة بسبب الوضع المالي المفلس للإمبراطورية البيزنطية”، وذلك في إشارة إلى خيبة أمل محمد الفاتح بشأن حالة المدينة المتداعية. بعد مرور قرن من الفتح الإسلامي، أرادت الإدارة العثمانية تجديد آيا صوفيا والمناطق المحيطة بها تحت إشراف سنان باشا.
في حوار له مع قناة “تي آر تي وورلد”، صرح سوفوغلو: “كانت ترد على السطان العثماني شكاوى بشأن اختلال توازن آيا صوفيا بسبب هيكل المنازل المحيطة به. نتيجة لذلك، قرر السلطان تنفيذ مشروع ترميم شامل”. وأوضح سوفوغلو: “من الواضح أن الناس لم يرغبوا في إخلاء منازلهم. ولكن في مواجهة المعارضة المتنامية، كان السلطان يعتمد على السلطة الدينية العليا في ذلك الوقت، وعلى شيخ الإسلام أبو السعود أفندي، الذي كان يشغل منصب القاضي الديني الأعلى للعثمانيين”.
في كتابها “عصر سينان” الثقافة المعمارية في الدولة العثمانية، بينت غولرو نجيب أوغلو، وهي أستاذة أميركية من أصول تركية متخصصة في الفنون الإسلامية في جامعة هارفارد، أنه عندما تشبث بعض السكان من الرافضين مغادرة منازلهم بأصولهم بتعلّة أن آيا صوفيا كانت مكان عبادة للمسيحيين، أجابتهم السلطة الدينية العليا العثمانية بأن الأمور لم تعد كما كانت.
نقلا عن نجيب أوغلو، ذكر أبو السعود أفندي، أحد أعظم علماء الدين العثمانيين في أشهر فتوى له – بوضوح – أنه بما أن آيا صوفيا لم تعد كنيسة وتحولت إلى مسجد باعتبارها جزءًا من مؤسسة إسلامية، فإنه لن يرغب أي مسلم حقيقي في انهيار المبنى.
بناء على ذلك، قضت الفتوى بإخلاء المنازل القريبة من آيا صوفيا بشكل فوري، مما مهد الطريق لمشروع ترميم المبنى التابع للمهندس المعماري سنان. ومنذ ذلك الحين، ظل مبنى آيا صوفيا شامخًا مثل جزيرة وسط المدينة القديمة، في انتظار المصلين.
المصدر: تي آر تي وورلد