فشل زعماء دول غرب إفريقيا (الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا) في التوصل إلى حل لوقف الاحتجاجات المناهضة للرئيس ولد إبراهيم بوبكر كيتا في دولة مالي، فشل يؤكد إصرار المتظاهرين المناوئين للرئيس وللوجود الفرنسي في بلادهم على إنقاذ مالي من براثن الفساد ووضع نظام سياسي جديد لا مكان لفرنسا وأعوانها فيه.
سيادة فرنسية
وضعت فرنسا يدها على مالي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وقد سميت حينها بالسودان الفرنسية قبل أن تصبح جزءًا من الاتحاد الفرنسي، ومنذ ذلك التاريخ بقيت فرنسا المتحكمة في البلاد حتى بعد استقلالها عنها في سبتمبر/أيلول 1960.
السيادة كانت لفرنسا والقرارات والأوامر المتعلقة بمالي تتخذ من قصر الإليزيه مباشرة، فلا سلطان للماليين على بلادهم، حتى الإدارة داخل الدولة أغلب العاملين فيها تابعين لفرنسا ولا يتحركون دون مشورتها من أصغرهم إلى أكبرهم، كل شيء تحت السيطرة.
في بعض الفترات حاول الماليون، الاستقلال بذاتهم والتمرد على المارد الفرنسي، فما كان من الإليزيه إلا التدخل مباشرة، إما عسكريًا وإما اقتصاديًا حتى يبقى الوضع على ما هو عليه، فلا مجال للتغيير الذي يقصي فرنسا من المشهد العام في مالي.
ترتكز المصالح الفرنسية في مالي على محاور عدة أبرزها المحور الاقتصادي
سنة 2012، كادت مالي تخرج عن طوع فرنسا، لكن التدخل كان حاسمًا، فقد أرسلت باريس جنودها إلى هناك بسرعة ولم تنتظر قرارًا من مجلس الأمن كانت تسعى إلى إصداره لكي تتدخل تحت غطاء إفريقي أو على الأقل تساعد التدخل الإفريقي الذي كان يتم الإعداد له لكن عدم صدور قرار من مجلس الأمن أجله.
حينها، شرعت فرنسا هناك، بطلب الحكومة المالية مساعدتها في مواجهة المسلحين، كما اتكأت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر في 20 من ديسمبر/ كانون أول 2012، الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال، هذا فضلًا عن مبررات أخرى من قبيل منع قيام كيان “إرهابي” في المنطقة يشكل تهديدًا للمنطقة والعالم بأسره.
كانت فرنسا تقول إن الهدف من تدخلها في مالي حماية البلاد من خطر الإرهاب، لكن الوضع الميداني على حاله، فشمال مالي لم يسترجع بعد، ومناطق بكاملها لا تزال خارجة عن سيطرة القوات المالية والأجنبية التي تتعرض بشكل متواصل لهجمات دامية، ما يجعل روايتها محل شك كبير.
مصالح اقتصادية وسياسية
ترتكز المصالح الفرنسية في مالي على محاور عدة، أبرزها المحورين الاقتصادي والسياسي، فاقتصاديًا ترى فرنسا في مالي مصدر رزق كبير، فباطن البلاد يحمل ثروات نفطية وغازية ومعدنية كبيرة (الذهب، البوكسيت، اليورانيوم، الحديد، النحاس، اللتيوم، المنجنيز الفوسفات، الملح…)، ويعتبر الذهب أهم المصادر المعدنية للاقتصاد المالي، إذ تعد ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا.
ليس هذا فحسب، فمالي تقع على مقربة من حقول النفط الجزائرية التي تشكل مطمعًا كبيرًا للفرنسيين، وعلى مسافة قريبة أيضًا من أماكن التنقيب ذات المؤشرات الإيجابية في موريتانيا (خاصة الغاز)، كما أن جارتها النيجر تحتل المرتبة الثالثة عالميًا في إنتاج اليورانيوم بعد كندا وأستراليا بنسبة 8.7% من الإنتاج العالمي وتغطي ما نسبته 12% من احتياجات الاتحاد الأوروبي.
تعتمد فرنسا على نحو 75% من احتياجاتها من الكهرباء على الطاقة النووية، وهو ما يفسر اعتمادها على خام اليورانيوم، وتشير تقديرات الطاقة الدولية إلى أن صحراء شمال مالي وشرق النيجر تحتل المرتبة الثالثة في استحواذها على احتياطات اليورانيوم في العالم.
أما سياسيًا، ففرنسا ترى في نفسها صاحبة النفوذ التقليدي والتاريخي في البلاد، لذلك ترفض أن يزاحمها أي طرف هناك، حتى إن كان أصحاب الأرض، وهو ما يفسر سعيها المتواصل لعدم إفلات الوضع منها وعدم خروجه عن سيطرتها مهما كلفها ذلك.
مناهضو فرنسا ينتفضون
هذا الأمر لم يعد مقبولًا عند أغلب الماليين، ما جعلهم يخرجون إلى الشارع للمطالبة بإسقاط النظام وإجبار الرئيس ولد إبراهيم بوبكر كيتا على الاستقالة، حتى تسنح لهم الفرصة لتنظيف البلاد مما يصفونهم بأعوان فرنسا، ويؤسسون لسلطة جديدة.
الاحتجاجات التي تشهدها البلاد مؤخرًا، كانت بدايتها في الـ5 من شهر يونيو/حزيران الماضي، بعد إعلان المعارضة ما أسموه عصيانًا مدنيًا للضغط على الرئيس حتى يستجيب لمطالبهم، ويدعو هؤلاء لرحيل الرئيس إبراهيم كيتا وأعوانه من السلطة وحل المحكمة العليا وحل البرلمان الجديد وإعادة الانتخابات التشريعية وإنشاء حكومة وطنية لها برنامج إصلاحي محدد.
توالت حلقات الحراك الشعبي خلال الأيام الماضية، على خلفية ما يعتبره المتظاهرون ارتهان القرار السيادي للبلاد عند فرنسا وفشل السلطة في الاستجابة لتطلعات الشعب المالي رغم ما تزخر به البلاد من مدخرات وثروات طبيعية كبيرة.
تقدم هذا الحراك الشعبي الكبير العديد من الحركات السياسية والشخصيات متنوعة التوجهات الفكرية إلا أن الجامع بينها مناهضتها للمشروع الفرنسي في بلادها، ذلك أن هذا المشروع يهدف إلى سرقة ثروات البلاد والنيل من سيادتها.
يرى العديد من الماليين أن بوبكر كيتا يمثل الوجود الفرنسي في بلادهم، ما يجعل سقوطه مفتاحًا أساسيًا لوضع حد لفرنسا هناك
من أبرز الشخصيات التي تقود الحراك، نجد السياسي عمر ماريكو الذي ينتمي إلى جبهة حماية الديمقراطية وهو سياسي مناوئ للوجود الفرنسي في مالي، وعُرف ماريكو بعدائه الكبير لفرنسا ونفوذها في المنطقة، فهو يرى أن الإليزيه سبب لكل مشاكل بلاده الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إلى جانبه، نجد المحامي منتقى تال، وهو سياسي وحقوقي من حركة أمل مالي، وهو حفيد الإمام الحاج عمر تال المعروف بمقاومته للوجود الفرنسي في بلاده، ويسعى منتقى تال صحبة الملايين من أبناء بلاده إلى إنهاء الوجود الفرنسي في مالي.
الإمام محمود ديكو المناوئ لسياسة الرئيس ولد إبراهيم بوبكر كيتا حليف باريس، هو أيضًا في مقدمة رموز الحراك المناهض للوجود الفرنسي، ويعتبر ديكو صاحب قوة الحشد الحقيقية وراء المظاهرات المتواصلة في البلاد، فهو اللاعب الأبرز في الحراك الذي تشهده مالي، حيث تلتف الحشود الضخمة حوله للاستماع إلى خطبه القوية التي ترفع معنويات الماليين وتبعد عنهم الإحباط.
جدير بالذكر، أن هذه التحركات الاحتجاجية المناهضة للوجود الفرنسي في مالي ليست الأولى من نوعها، فقد عرفت البلاد مظاهرات مماثلة في أوقات سابقة متفرقة، على غرار ما حصل في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2019، حيث أحرق حينها العلم الفرنسي في كاتي.
سقوط الرئيس يفتح الطريق لوضع حد لفرنسا
يرى أغلبية الماليين، أن رحيل الرئيس ولد إبراهيم بوبكر كيتا من السلطة، سيكون بمثابة رسالة قوية إلى فرنسا، ذلك أنه حليف باريس الوفي في المنطقة، وكثيرًا ما تقدم السلطات الفرنسية الدعم الكبير لبوبكر كيتا للحفاظ على عرشه، خدمة له على ما يقدمه لهم من خدمات كبيرة تضمن حصولهم على امتيازات مهمة في البلاد.
وصل ولد إبراهيم بوبكر كيتا السلطة في 11 من أغسطس/آب 2013، ويعتبر بوبكر كيتا الشخصية الوحيدة في بلده التي شغلت أرفع المناصب التنفيذية والتشريعية: رئيس الوزراء، فرئيس البلاد، ثم رئيس البرلمان. وكان بوبكر كيتا قد زاول دراسته في فرنسا وسبق أن تولى إدارة مكاتب المنظمة الفرنسية غير الحكومية المعروفة بـ”أرض الرجال” في مالي والنيجر وبوركينافاسو.
ويرى العديد من الماليين أن بوبكر كيتا يمثل الوجود الفرنسي في بلادهم، ما يجعل سقوطه مفتاحًا أساسيًا لوضع حد لفرنسا هناك، فهو الضامن لمصالحهم ورجلهم الذي يفتح لهم الطريق لنهب ثروات البلاد، رغم أن غالبية الشعب تعيش في فقر وخصاصة.
يأمل الماليون أن يأتي اليوم الذي تتحرر فيه بلادهم فعليًا من سطوة الفرنسي، حتى ينعموا بخيراتها وثرواتها الكثيرة، فهذا الوجود المتواصل منذ عشرات السنين كلفهم الكثير وأنهك البلاد.