جنرال الظل وصديق محمد بن زايد المقرب، مايك هندمارش، الضابط الأسترالي الذي نجح في فرض نفسه على المنظومة الأمنية الإماراتية حتى بات الرجل الوحيد داخل القوات المسلحة الذي لا يتلقى أوامره إلا من ولي عهد أبو ظبي.
العقل المدبر للحرس الرئاسي الإماراتي وصاحب التاريخ الوحشي من العمليات العسكرية القاسية، الذي استغرق ابن زايد ما يقارب 18 شهرًا من المفاوضات لقبول عرضه بالانضمام للجيش الإماراتي، نظير راتب سنوي لا يقل عن نصف مليار دولار، معفاة من الضرائب، بحسب صحيفة “هيرالد صن” الأسترالية.
تساؤلات عدة فرضت نفسها مع استقدام هندمارش على وجه التحديد للعمل تحت إمرة ابن زايد، وهو صاحب الأيادي السوداء في العديد من الملفات الحساسة في المنطقة، والذراع الطولى لتنفيذ جرائم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.
غير أن تلك المآخذ التي أخذت عليه هي نفسها مفاتيح الإجابة عن تلك التساؤلات، فالمهام الموكلة للرجل خلال السنوات الماضية تكشف وبشكل كبير لماذا وقع عليه الاختيار تحديدًا، كما أنها تجيب كذلك عن الاستفسار الغامض الذي طالما أثار الجدل بشأن دوافع وضع ابن زايد مقادير جيش بلاده في يد ضابط أجنبي، موصوم بتاريخ عسكري ملوث.
في الحلقة الثامنة من ملف “مرتزقة أبناء زايد” نلقي الضوء على تاريخ الجنرال الدموي الأسترالي وعلاقته بولي عهد أبو ظبي، وكيف وظفه الأمير الشاب لتحقيق أجنداته الداخلية والخارجية، رغم الإدانات التي تلاحقه بارتكاب جرائم حرب، لتكشف تلك العلاقة الكثير من كواليس جيش مرتزقة ابن زايد والأهداف التي يسعى لتحقيقها من خلاله.
الجنرال الوحشي
في 19 من سبتمبر/أيلول 2007 أجرى قائد القيادة المشتركة للعمليات الخاصة الأسترالية في الشرق الأوسط “سوك” (SOC)، هندمارش، مقابلة صحفية مع صحيفة “الأسترالي” تم تسريبها في 2012، كشف فيها أن المعارك في أفغانستان “عنيفة ووحشية”، إلا أن قواته أثبتت كفاءتها المطلقة في تحجيم مقاتلي “طالبان” من بلوغ “قندهار”، عبر سلسلة من “العمليات السرية شديدة العنف” بحسب وصف مجموعة الاستخبارات الأمريكية النافذة “ستراتفور”.
عُرف عن جنرال الظل في التحالف الدولي قسوته في التعامل مع خصومه، وتوثق صفحات خبراته العسكرية وحشيته في المهام التي نفذها، وافتقاده لمعايير الإنسانية في كثير من المعارك التي خاضها، سواء في الجيش الأسترالي النظامي ومشاركاته الدولية أم من خلال الجهات الخاصة التي التحق للعمل بها.
عمل هندمارش ضابطًا بالقوات الأسترالية منذ عام 1976، وقاد القوات الخاصة المعروفة باسم “قوات الخدمات الجوية، ساس SAS” من يناير 1997 حتى يناير 1999، ليترقى بعد 5 أعوام لمنصب قائد “قيادة العمليات الخاصة SOC” الأسترالية من أكتوبر 2004 إلى يناير 2008.
ولمدة أقل من عام شغل منصب قائد “قوات المهام المشتركة 633 (JTF 633)” الأسترالية في الشرق الأوسط، إلا أنه استقال من جيش بلاده في الأول من أكتوبر من نفس العام، وكان راتبه السنوي وقتها قرابة 230 ألف دولار أمريكي، ليدخل عالم الاحتراف العسكري عبر بوابة أبو ظبي.
تتميز المسيرة المهنية للجنرال الأسترالي بالتعقيد، فالرجل له باع طويل في المناطق ذات النزاعات والحروب على مدار 11 عامًا من 1998 حتى 2009، بدءًا بالكويت مرورًا بالعراق وصولًا إلى أفغانستان، كما كان له دور كبير في نقل قيادة العمليات الخاصة الأسترالية من العراق إلى الإمارات، بعد قيادته “قوات المهام المشتركة 633 (JTF 633)” في بغداد لمدة عام، وهو الأمر الذي كان بمثابة النافذة الكبرى لتعرفه بولي عهد أبو ظبي.
تاريخ دموي للجنرال الأسترالي في أفغانستان
علاقته بابن زايد
أسال صيت الجنرال المخضرم لعاب الأمير الشاب، الذي كان نائبًا لوزير الدفاع بجانب كونه وليًا لعهد أبو ظبي، فمنذ اليوم الأول لتسلم هندمارش قيادة القوات الأسترالية في الشرق الأوسط في مارس/آذار 2008 بات تحت مجهر ابن زايد وهدفًا يسعى للحصول عليه.
وما إن وصل الضابط الذي بات حديث الشارع العسكري الشرق أوسطي إلى قيادة تدريبات الجيش الأسترالي في يناير/كانون الثاني 2009، حتى غادر منصبة طواعية وبصورة مفاجئة بعد أقل من 6 أشهر على تسلمه، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات وقتها عن دوافع الرجل ووجهته القادمة.
يبدو أن الـ19 ألف دولار، الراتب الشهري الذي كان يحصل عليه مايك، داخل الجيش الأسترالي، ما عاد يرضي طموحه، وعليه كان البحث عن عقد احتراف، على شاكلة لاعبي الكرة، وفي ديسمبر/كانون الأول من نفس العام الذي غادر فيه فوجئ الجميع بتعاقده مع الأمير الخليجي، للحصول على خدماته العسكرية في الجيش الإماراتي.
الأمر ظل غامضًا لدى كثير من المراقبين، فالأجواء لم تكن مهيأة بعد لمثل هذا الاستقدام غير المبرر، في ظل استقرار الأوضاع الإقليمية والداخلية، وعدم الحاجة لشخصية بتلك الخلفية العسكرية المتوحشة، ومما زاد من حدة الغموض ودرجته ما أثير بشأن تعيين الضابط الأجنبي “مستشارًا لولي العهد لشؤون الأمن القومي”، وهو الغموض الذي باتت طلاسمه تفك رويدًا رويدًا بعد ذلك.
الحرس الرئاسي
لم يبد مسمى “مستشار” مقنعًا لدى رجل الشارع العادي بشأن الدور الذي جاء لأجله الجنرال، فليس منطقيًا أن يترك جيش بلاده وهو في أوج قمته الوظيفية ليأتي منضويًا تحت عباءة ابن زايد، حتى إن كان المقابل المادي مغريًا، لكن بات من الواضح أن هناك مهمة أكبر يتم إعداده إليها.
بين عامي 2010-2011 بدأ يتنامى للأسماع كيان جديد يحمل اسم “الحرس الرئاسي” وهي إدارة استحدثها الأمير الشاب لتكون تحت قيادته، مهمتها تنفيذ العديد من العمليات الخاصة في الداخل والخارج، خارج نطاق وزارة الدفاع الإماراتية.
التفكير في إنشاء هذه الوحدة الجديدة كان أواخر 2007 حين أراد ولي عهد أبو ظبي تأمين نقل أموال النفط ومطاردة سفن التهريب الإيرانية بجانب بعض المهام الحدودية بشكل عام، وهو ما استدعى أن تكون هناك قوة خاصة لأداء هذا الدور الذي كثيرًا ما يحتاج إلى إستراتيجيات استخباراتية بعيدة عن الإطار الرسمي التقليدي.
ولأجل هذا الغرض، أجرى ابن زايد العديد من الاتصالات ببعض شركات التأمين الخاصة والمرتزقة حول العالم، حيث نشبت علاقة قوية مع قائد القيادة المشتركة للقوات الخاصة الأمريكية الجنرال براين براون، كذلك مؤسس “بلاك ووتر” الشهير إيريك برنس.
ومن رحم هذا القطاع الوليد خرجت وحدة أخرى أشد خصوصية، تحمل اسم “وحدة المهام الخاصة” أو “سوك” (SOC)، ويمكن القول إنها وحدة فوق القانون وخارج نطاق المحاسبة، كما أنها عمليًا فوق الحرس الرئاسي نفسه ويناط بها مكافحة الإرهاب في الداخل والخارج، ويتكون أفرادها في الغالب من مرتزقة من بعض الدول.
ولتعزيز هذا الكيان تعاقد ابن زايد مع وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” لوضع برنامج خاص لتدريب عناصر الحرس الرئاسي، لا سيما وحدة المهام الخاصة، وبالفعل تولى فريق من المارينز هذه المهمة من خلال عقد قدرته بعض المصادر بـ150 مليون دولار، وكان من بين برنامج التدريب مشاركة الحرس في بعض المهام بأفغانستان.
غير أن هناك معضلة واجهت ولي العهد، تتعلق بالقيادة القادرة على إدارة هذه المنظومة الاستخباراتية العسكرية المقاتلة، غير أنه لم يجد أفضل من الجنرال الأسترالي لهذه المهمة الحساسة، خاصة أن للرجل شبكة علاقات واسعة مع العديد من الكيانات العسكرية في المنطقة بحكم المناصب التي تقلدها في جيش بلاده.
وما هي إلا أشهر قليلة حتى استجلب هندمارش عشرات الضباط الأستراليين للالتحاق بالجهاز الجديد، متقلدين المناصب الرفيعة بداخله، حتى تحول الكيان وكأنه وحدة أسترالية فوق أراض إماراتية، وبات الرجل لا يتلقى أوامره إلا من ولي عهد أبو ظبي فقط الذي ترك له الساحة خاوية تمامًا دون منافسة أو محاسبة.
ابن زايد في أثناء زيارته للحرس الرئاسي بقيادة هندمارش
قائد الحرب القذرة في اليمن
كان الضابط الأسترالي ورقة ابن زايد البديلة لتعويض الخسائر التي منيت بها قواته في اليمن، فبعد أيام قليلة من مقتل 45 جنديًا إماراتيًا على أيدي الحوثي في 2015، وما تبع هذا الحادث من جدل بين القبائل الإماراتية، أوكل الأمير الطامع في بسط نفوذه على الموانئ اليمنية الأمر إلى الحرس الرئاسي تحت قيادة الجنرال الأجنبي.
وبالفعل تدخل الحرس بجانب قوات المرتزقة من الجنسيات الأخرى لتنفيذ أجندة أبناء زايد على حساب أرواح اليمنيين، رجال ونساء وأطفال، وكانت البداية استعادة ميناء عدن الإستراتيجي من أيدي القوات الحوثية في 17 من يوليو/تموز من نفس العام، وذلك من خلال العملية العسكرية التي سميت حينها “السهم الذهبي”.
وظف هندمارش خبرات حرب العصابات التي اكتسبها من خدمته في العراق وأفغانستان لتحقيق أحلام ابن زايد في إحكام القبضة على الشريط المائي اليمني ناحية الغرب، وهو الهدف الذي ظل حتى كتابة هذه السطور مثار خلاف بين أبو ظبي والرياض، قائدة التحالف.
واستطاعت قوات الحرس تنفيذ العديد من الجرائم داخل الأراضي اليمنية، بعضها يرتقي لدرجة جرائم حرب وانتهاكات ضد الإنسانية بحسب ما وثقته العديد من التقارير الحقوقية، هذا بجانب قوائم الاغتيالات التي أعدتها القوات لتنفيذها ضد شخصيات يمنية، بمساعدة مستشار ولي عهد أبو ظبي، محمد دحلان.
خبير القانون الدولي للحروب، بن شاؤول، حمّل رئيس قيادة الحرس، هندمارش، مسؤولية الجرائم التي ارتكتبت في اليمن، مستندًا إلى مبدأ “مسؤولية القيادة” الذي ينص على “أن القادة العسكريين مسؤولون عن الإجراءات التي يتخذها مرؤوسوهم، مما يعني أنه إذا علم القائد أو كان ينبغي له أن يعلم أن مرؤوسيه متورطون في جرائم حرب، مثل القتل المفرط للمدنيين، أو الاستخدام العشوائي للقوة العسكرية ضد أهداف مدنية، أو مناطق مدنية، فعندها يمكن تحميل المسؤولية للقادة إذا لم يتخذوا الخطوات المسؤولة التي من شأنها منع جرائم الحرب تلك”.
بعض المسؤولين في وكالة الاستخبارات الأمريكية، ممن تعاملوا عن قرب مع أبو ظبي، أشاروا إلى جنرالين أجنبيين يعتمد عليها ابن زايد في حربه القذرة في اليمن، أولهما، الأسترالي مايك هندمارش، والآخر هو الأمريكي ستيفن توماجان، الشخصية التي سنختتم بها هذا الملف في الحلقة القادمة.